الضحيّة المثاليّة

أحبَبتُ نضال لأنّه رجُل صادق ومُحِبّ، ولدَيه رقّة لَم أجِدها عند أيّ مِن معارفي الذكور، ربّما لأنّه عانى كثيرًا خلال طفولته ولاحقًا زواجه الأوّل. فالتي تزوّجَها قَبلي كانت امرأة مُتسلِّطة وقاسية، وهي فعلَت جهدها لِكَسره بغية السَيطرة على عائلتها. وشاءَ القدَر أن تموتَ زوجته ليتحرَّرَ نضال أخيرًا، بعد أن قضى أكثر مِن خمس وعشرين سنة معها. ثمّ تزوَّجَ أولاده الثلاثة وبقيَ لوحده، فقرَّرَ أن يبنيَ حياته مِن جديد.

أمّا بالنسبة لي، فكنتُ لا أزال عازبة، بعد أن شغلَتني أمّي بها طوال حياتي إلى حين هي مرضَت وتوفّيَت. فالمرحومة كانت تمامًا كزوجة نضال الأولى، إنسانة قويّة الشخصيّة وطاغية لا تُحِبُّ سوى نفسها. وأظنُّ أنّ خبرتي مع والدتي ساعدَتني كثيرًا لفهم ما مرَّ به نضال، وهو أيضًا فهِمَ تمامًا ما مرَرتُ به. فلقد جمَعَ الله بين شخصَين عانَيا الأمرَّين، وحُلمهما الوحيد كان إيجاد الحبّ والسكينة.

موقِف أولاد نضال كان مُتفاوِتًا مِن حيث قبولهم بي، فابناه كانا موافقَين، أمّا إبنته ريما فكانت مُعارِضة مع أنّها كانت تسكنُ بعيدًا مع زوجها وابنهما الصغير ولَم أرَها سوى مرّة واحدة. فكيف لها أن تحكمَ عليّ بهذه السرعة؟ طمأنَني نضال بأنّه لن يسمحَ لأحد بالتدخّل بيننا، وأنّه أضاعَ سنوات لا تُحصى مِن حياته وهو يُجاري أفراد عائلته. إرتاحَ بالي واستطَعنا التركيز على التحضير لزواجنا وحياتنا المُستقبليّة معًا. لكنّ ريما خابرَتني يومًا طالبةً منّي موعدًا للجلوس معي، فقبلِتُ طبعًا واستقبلَتُها في بيت أهلي الذين تُرِكَ لي بعد وفاة أمّي.

دخلَت ابنة نضال وعلى وجهها علامات الاصرار والتصميم، وجلَسَت على مقعد في الصالون وقالَت لي على الفور:

 

ـ لا تتزوّجي أبي.

 

ـ ولِما لا؟

 

ـ لأنّكِ لن تسعَدي معه. فأمّي رحمَها الله...

 

ـ رحمَها الله.

 

ـ ...عانَت كثيرًا معه.

 

ـ هي عانَت معه؟ تراءى لي أنّه مَن عانى معها.

 

ـ هذا ليس صحيحًا، بل عانَينا جميعًا مِن طغيانه! لَم أُصدِّق متى أتزوّج للهروب منه ومِن ذلك البيت المليء بالشرّ! إسمَعي، لقد قرّرتُ تحذيركِ ليس بدافع الحبّ فأنا لا أعرفُكِ، بل لإراحة ضميري.

 

ـ أرى يا ريما أنّكِ ابنة أمّكِ... فها أنتِ تأخذين الشعلة بعد مماتها لتواصلي تعذيب أبيكِ. ألا يكفيه؟ ألا يستحقّ السعادة أخيرًا؟ تتحدّثين عن ضميركِ؟... ما تفعلينَه الآن ينمُّ عن غياب ضميركِ تمامًا.

 

ـ حسنًا... إمضي بزواجكِ منه لكن لا تأتي إليّ باكية وشاكية!

 

ـ هذا لن يحصل يومًا! الوداع يا ريما!

 

غضِبتُ كثيرًا مِن ريما، فهي حقًّا لا تحبُّ أباها بل تضمُرُ له التعاسة والشرّ. بعد رحيلها، خابرَتُ ولَدَي نضال ليأتيا إليّ بالقريب العاجل، فكان لا بدّ لي أن أعرِف ما يجري. وحين التقَيتُهما، سألتُهما إن كان هناك ما عليّ معرفته بشأن مسائل عائلتهما، فأجابا بالنفي. عندها أدركتُ أنّ ريما تكذبُ عليّ. لَم أقُل شيئًا لنضال كَي لا أخلقَ خلافًا بينه وبين ابنته، ولا يقولَ أحدٌ إنّني جلَبتُ معي الفِتنة. تزوّجنا وانتقلتُ للعَيش مع عريسي الحبيب في بيته بينما عرضتُ بيتي للإيجار.

بدأتُ أغيّر قليلاً بالديكور لأُعطيَ المكان وجهًا جديدًا وحديثًا، وخاصّة لأُنسيَ نضال أنّه قضى في ذلك البيت أوقاتًا عصيبة. إلا أنّ زوجي استاءَ مِن هذا التغيير وطلبَ منّي إعادة كلّ شيء كما كان. نظرتُ إليه بتعجّب فوجدتُه جدّيًّا للغاية. وكَي لا أزعِله أو أُسبِّبَ لزواجنا بداية سيّئة، أعَدتُ البيت كما كان. للحقيقة، لَم يُعجِبني الأمر، فشعرتُ أنّ نضال لا يزال مُتعلِّقًا بماضيه مع زوجته السابقة، وذلك لَم يكن أبدًا جيّدًا لصّحته النفسيّة.

بعد فترة، بدأ نضال يتغيّر معي. في البدء كانت أمور صغيرة، كمُناقشات خفيفة كلّما أخذتُ قرارًا مُنفرِدًا حتّى لو كان ذلك بشأن أمور تهتمّ بها سيّدة البيت عادةً. فبدا لي أنّه يُريدُ التدخّل بكلّ شيء وكأنّه لا يثِق بقراراتي. تكلّمتُ معه بهذا الخصوص، فاعتذَرَ منّي وشرَحَ لي أنّه لا يزال يُعاني مِن الذي مرَّ به سابقًا. عانقتُه مُطوّلاً ووعدتُه بأن أُشاركه كلّ صغيرة وكبيرة. غلطة كنتُ سأدفعُ ثمنها باهظًا.

ثمّ تفاقَمَت الأمور، وصارَ نضال يهزأ منّي كلّما فعلتُ أو قلتُ شيئًا، فيقولُ لي مثلاً: "وما أدراكِ أنتِ" أو "منذ متى تعرفين كلّ شيء، يا ذكيّة" أو "هذا ما كان ينقصُني، إمرأة تدّعي المعرفة!". إنزعجتُ كثيرًا منه، وفي كلّ مرّة كانت عينايَ تدمَع أو أبكي أمامه لكثرة امتعاضي. غلطة أخرى!

سرعان ما توقّفنا عن رؤية الأصدقاء والأهل، فهو صارَ ينزعجُ مِن الكلّ مِن دون استثناء ويقولُ عنهم أشياء بغيضة. لذلك، بدأتُ أخرجُ مِن دونه مِن وقت لآخَر، لكنّ ذلك أيضًا أزعَجه. وفي كلّ مرّة، عندما أعودُ إلى البيت، كنتُ أسمَع منه الكلام المُؤذي لدرجة أنّني توقّفتُ عن الخروج.

وبعد سنة على زواجي مِن نضال، صرتُ سجينة في بيت لا دخَل لي فيه ولا رأي، أقضي نهاري في العمَل لتلبية طلبات زوج لن يُعجِبه شيء في آخِر المطاف. ولَم تكن تلك الحياة التي تصوّرتُها معه، فما مِن شيء دلّ على ما يحصل لي... أو ما كان سيحصلُ لاحقًا.

فيوم مدَّ نضال يدَه عليّ ليَضربني، وقفتُ أمامه مذعورة لفظاعة الذي حصَلَ والذي لَم أتصوّره مُمكِنًا. كان السبَب تافِهًا للغاية ومُتعلِّقًا بأمور منزليّة. وحتّى لو كان الموضوع أكثر جدّيّة، لا يحقّ لأحد أن يضربَ شخصًا آخَر. ركضتُ إلى الغرفة لأبكي وبقيَ زوجي في الصالون يغلي غضبًا. بعد دقائق، لحِقَ بي ليعتذِر ويعِدَني بأنّ الأمر لن يتكرّر أبدًا. صدّقتُه لأنّها كانت أوّل مرّة... وإتّضَحَ أنّها لن تكون الأخيرة. فبعد ذلك، إعتادَ نضال على التعبير عن استيائه بالعنف الجسديّ وبتُّ أخافُ منه ومِن ردّات فعله. ومرارًا ما علا صوته عليّ لدرجة أنّ الجيران فهِموا ما الذي يدورُ بيننا.

لذلك قالَت لي إحدى جاراتي حين التقَيتُ بها في ردهة المبنى:

 

ـ يُمكنُكِ اللجوء إلينا لو شئتِ.

 

ـ لَم أفهَم قصدكِ. عمّا تتكلّمين؟

 

ـ المرحومة كانت تختبئ منه عندنا. عرَضنا عليها طلَب الشرطة لكنّها رفضَت في كلّ مرّة.

 

ـ حياتي الزوجيّة مِن شأني أنا!

 

ـ أعرضُ عليكِ مُساعدتنا، أنا مِن جانبكِ.

 

ـ لا يحصلُ شيء بيني وبين زوجي.

 

ـ الجدران غير سميكة في مبنانا يا حبيبتي، ونسمَعُ كلّ شيء... أمِلنا بأن يتغيّرَ نضال يومًا، إلا أنّه يُعنِّفُ نساءه.

 

ـ زوجي لا يُعنِفُّني! إنّه... فقط سريع الغضب. ربّما لدَيه مشاكل في العمَل.

 

ـ بل مشاكل نفسيّة!

 

ـ دعيني وشأني مِن فضلكِ.

 

ـ لن أدعَكِ وشأنكِ، وإلا كنتُ شريكة صامتة في الذي يحدث. ماذا لو قتلَكِ زوجكِ؟ كيف أعيشُ مع ذلك؟

 

ـ يقتلُني؟!؟ خيالكِ واسع!

 

ـ ألَم تذهَب زوجته الأولى إلى المشفى مرارًا، بعد أن قالَت للأطبّاء إنّها وقعَت عن السلالم أو تعثَّرَت واصطدمَت بالحائط؟ المسكينة ماتَت بسببه.

 

ـ هي لَم تمُت قتلاً!

 

ـ أعلَم ذلك، ماتَت بسبب مرض فتّاك لكثرة حزنها وتعاستها وقَهر زوجها لها لأكثر مِن عشرين سنة. وهذا ما ينتظرُكِ. أعودُ وأقولُ لكِ إنّ بيتنا مفتوح لكِ إن احتَجتِ إلينا.

 

كلام تلك الجارة أغضبَني إلى أقصى درجة، فحتّى ذلك الحين اعتقدتُ أنّ مُمارسات نضال كانت محصورة بيننا، وأنّ لا أحَد يعرفُ ما يجري. شعَرتُ بالعار، ليس بسبب قبولي لتعنيف زوجي لي، بل لأنّ الناس تعلَم ما يحصل. غريب منطِق المُعنَّف، أليس كذلك؟

لكن بعد كلام الجارة، بدأتُ أستوَعِب كذبة نضال العظيمة، حين صوّرَ لي الوضع بينه وبين المرحومة وكأنّه هو الضحّيّة. يا لِمِكره! لقد وقعتُ في الفخّ بالرغم مِن تحذيرات ابنته. لكن لماذا لَم يقُل ابناه شيئًا؟ هل لأنّهما موافقان على ما مرَّت به أمّهما؟ هل قولَبَهما نضال ليُصبحا نسخة عنه؟

مصيبتي كانت أنّني لا أزال أحبّ نضال، فهو كان يعتذِر منّي بعد كلّ اعتداء، ويجلبُ لي الهدايا ويذرفُ دمعة مرّة بعد أخرى، ربّما ليُبقيني معه، فهو بحاجة إلى ضحيّة. وصرتُ مُتأكّدة أنّ ما أعجبَه الأكثر بي هو أنّني خضَعتُ لطغيان أمّي طوال حياتي، أيّ أنّني الشخص المُناسِب له، إمرأة ذاقَت طعم الظُلم والتسلّط وسكتَت. لكن هل كنتُ مُستعِدّة لعَيش باقي حياتي في الإهانة والضرب؟ بالطبع لا. إلا أنّني لَم أكن شجاعة كفاية لأخذ قرار صارِم وقاطِع، فماذا لو توقّفَ نضال عن تعنيفي؟ ماذا لو هو استوعَب أخيرًا أنّه يؤذيني معنويًّا وجسديًّا؟ ألَم يُحبّني في البدء؟!؟

بقيتُ أتحمّل التعنيف سنة بكاملها، بعدما استوعَبتُ أنّ الجميع على عِلم بعذابي، لكنّني لَم أرحَل.

وذات ليلة، بعد أن علا صراخ نضال عليّ لدرجة لا توصَف، وبدأ يكسر كلّ ما في دربه على جسدي، سمِعنا طرقًا قويًّا على الباب: كان الجيران قد طلَبوا أخيرًا الشرطة. وعندما سألَني الشرطيّ إن كنتُ أتعرّض للتعنيف لأنّ الدماء غطََّت وجهي وفَمي ويدَيّ، نظَرَ إليّ نضال نظرة تهديد واضِحة. وقَبل أن أُجيب أنّني بخير وأختلِقَ حجّة ما لجراحي، قال لي الشرطيّ:

 

ـ سيّدتي... في هذه المرّة أنتِ لا تزالين على قَيد الحياة، لكن في المرّة القادمة قد تكونين طريحة الأرض ميتة... هل تعرّضتِ للتعنيف مِن قِبَل زوجكِ؟

 

ـ أنا...

 

ـ الأمر يتطلّبُ موقفًا شُجاعًا مرّة واحِدة فقط، فلن يستطيع إنقاذكِ سوى شخص واحِد: أنتِ. هل تعرّضتِ للتعنيف مِن قِبَل زوجكِ؟

 

ـ أجل.

 

صرَخَ نضال: "سأريكِ ما سأفعله بكِ أيّتها الساقطة! سأقتلُكِ! سأشربُ مِن دمكِ! سترَين!". أخذوه إلى القسم وقدّمتُ شكوى به وأدلى جميع السكّان بشهاداتهم ضدّه. أخَذَ الشرطيّ صوَرًا لكدماتي وجراحي الحديثة والقديمة وانتظرتُ بخوف موعد المحكمة.

عدتُ إلى منزلي القديم حيث حبَستُ نفسي، فقد يتجاهل نضال أمر الشرطة بعدَم الاقتراب منّي، لكنّه بعَثَ لي بالورود مع مُحاميه وكلمات معسولة واعتذارات حارّة.

سُجِنُ نضال بعدما جاءَت ابنته ريما للشهادة على ما فعلَه بأمّها، الأمر الذي أثبتَ خطورته.

يا لَيتني سألتُ الناس عن نضال قبَل الزواج منه أو سمعتُ مِن ابنته! لكنّني كنتُ مُتيّمة ولا أرى أو أسمَع إلا ما يُعجبُني. أنا اليوم إنسانة مكسورة وخائفة ولا أدري إن كنتُ سأثقُ بأحَد مِن جديد. فعلى ما يبدو أنا الضحيّة المُفضّلة لدى المِنحرفين النرجسيّين كأمّي ونضال، ولن أعيشَ بسلام وأمان إلا بعد زيارة أخصّائيّ نفسيّ، لمعرفة سبب قبولي للتنمّر والإساءة ولتقوية ثقتي بنفسي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button