لَم أُصدِّق أذنَيّ عندما قال لي وسام خلال مُخابرة هاتفيّة: "أنا آسِف يا حبيبتي، عليّ فصلكِ مِن منصبكِ". طالبتُه بتفسير فوريّ وهو تابَعَ: "إنّها نوال... لا تُريدُكِ أن تعمَلي معي في الشركة".
وقَبل أن أُكمِل القصّة، عليّ أن أشرَحَ لكم مَن تكون نوال وما علاقتها بخطيبي، ولماذا مسموح لها أن تطالب بفصلي. فتلك الأرملة البالِغة مِن العمر خمس وسبعين سنة هي مِن صاحبات الثروات. وهي تملكُ شركة استثمارات ضخمة تُديرُها مع ابنها الذي وضعَته صوَريًّا في مجلس إدارتها كَي تتفادى كلام الناس، إلّا أنّها تعتبِرُ أنّ لا أحَد يُضاهيها في مجال الأعمال. وحدَثَ أن التقى بها وسام في إحدى المؤتمرات التجاريّة والاستثماريّة، حين كان يبحثُ عمَّن يُساعده على تفادي الافلاس. لا أدري تمامًا كيف بدآ بالحديث، لكنه عادَ مِن المؤتمر سعيدًا وأخبرَني أنّه قد وجَدَ مَن يستثمِر في شركته، شركة ساعدتُه في تأسيسها لتصبح ذات يوم مصدر ما يلزمنا لتأسيس عائلة. والجدير بالذكر أنّني، على خلاف وسام، كنتُ أحملُ شهادة جامعيّة بإدارة الأعمال، ولولايَ لمَا كانت شركة في الأصل. إلّا أنّها كانت مُسجّلة باسمه وأنا أشغلُ فيها منصب مُديرة لأنّ الزبائن يثقون عادة بالرجال أكثر.
بدأ وسام يجتمع مع نوال للتحدّث عن الشركة، وتحضيرها لدخول مجلس الإدارة عبر غدوات ولقاءات مع أناس مُهمّين أرادَت "السِتّ" تعريفه عليهم. وفي كلّ مرّة، كان خطيبي يعودُ فرِحًا ومُبتسمًا وواعدًا بمستقبل لامِع.
للحقيقة لَم أنزعِج مِن تلك اللقاءات، فكنتُ أعرفُ كيف تجري الأمور في عالَم الأعمال. إضافة إلى ذلك، كانت نوال، كما رأيتُ على صفحتها الخاصّة، سيّدة مُسِنّة وغير جميلة على الاطلاق، ولَم يخطر أبدًا ببالي أنّ ابن الثلاثين سنة قد يُعجب بها. رجَوتُ مِن كلّ قلبي أن يستطيع خطيبي إقناعها بالالتزام معنا وضخّ مالها في شركتنا لتزدهِر. وقد اتّكلَتُ على قدرة وسام لجذب الناس، كما فعَلَ معي حين تعرّفتُ إليه إذ كان خبيرًا بذلك.
لكنّ اتّصالات نوال بخطيبي كَثُرَت وكذلك اجتماعاتهما خارج الشركة، وتساءلتُ مرارًا لماذا لَم أتعرّف إليها يومًا، لكنّني لَم أواجِه وسام كَي لا أفسِد عليه حماسه. وذات مساء، حين كنتُ جالِسة مع خطيبي في أحَد المطاعم، قلتُ له:
ـ إسمَع يا وسام، أنا أثِقُ تمامًا بحكمكَ على الناس والأمور، لكن عليّ أن أُنبّهَكَ.
ـ ماذا تقصدين؟
ـ أعرفُكَ جيّدًا، فأنتَ خطيبي وستصبح قريبًا زوجي... وأعرفُ كيف تُحِبّ جذب الناس إليكَ بتصرفاتكَ وكلامكَ المعسول... وتلك المرأة، نوال، قد تظنّ خطأً أنّكَ مُعجب بها.
ـ ماذا؟!؟ إنّها بسنّ أمّي أو أكبَر!
ـ أنا لا أقول إنّكَ أنت المُعجَب بها، بل هي، وهذا الصنف مِن النساء لا يجب أن يتلاعَب بهنّ أحَد... هي حتمًا تعرّفَت على رجال عديدين أرادوا بمُعظمهم مالها ولن يغشّها أحَد بعد الآن.
ـ أعِدُكِ بأنّ تصرّفاتي معها لا تدّل على إعجاب أو أيّ شيء مِن هذا القبيل!
ـ هي بإمكانها صنعكَ... وكَسركَ... حذارِ!
ـ ما بالكِ؟ لماذا هذا التشاؤم؟!؟ أنا رجُل أعمال وأعرفُ كيف أتعامل مع الناس.
ـ وأنا سيّدة أعمال! لكنّني أوّلًا امرأة، وأعرفُ كيف تُفكّر النساء! أنا لا أغارُ مِن امرأة مُسِنّة بل خائفة على مصير شركتنا.
عانقَني وسام مُطمئنًا ونسينا الموضوع. وبعد فترة، ذهَبَ خطيبي إلى السوق واشترى لنفسه ملابس وأحذية جديدة، مِن دون أن يُخبرني أو يصطحبَني، بل علِمتُ بالأمر لاحقًا وبعد أن قال لي: "عليّ أن أكون أنيقًا... فشركتي ستصبح مِن أهمّ الشركات!". لَم أُعلِّق على كلمة "شركتي" بل سكتُّ.
وحدَثَ ما حدَث، أيّ أنّ شرط نوال باستثمار أموال ضخمة في الشركة كان إزاحتي منها. إنتابَني غضب شديد واستنكَرتُ، إلّا أنّ وسام شرَحَ لي أنّ الوقت ليس للمبادئ بل للعمَل، وأنّ فصلي هو فقط صوَريًّا إذ أنّني سأُتابِع العمل معه لكن عبر الانترنت. على كلّ الأحوال، سأبقى خطيبته ولن يتغيّر شيء بيننا، لكن كان عليه التماشي مع رغبة نوال، إلى حين توقّع العقد وتضخّ الأموال في الشركة. مرّة أخرى اختَرتُ السكوت، لأنّ خطيبي كان كعادته، مُقنِعًا للغاية. وهكذا قدّمتُ استقالتي والدمع يملأ عَينَيّ.
بعد ذلك، تسارعَت الأمور بشكل لا يُصدَّق! ففور تركي الشركة، تمّ التوقيع على ضخ الأموال فيها... وعلى عقد الزواج بين وسام ونوال! تصوّروا حيرَتي وغضبي وحزني عندما فسَخَ وسام خطوبته بي، وأطلعَني على زواجه مِن نوال! هو فعَلَ ذلك عبر مُكالمة هاتفيّة معي مُدتّها دقائق معدودة، ثمّ أقفَلَ الخط بعدما قالَ لي: " أنا آسِف، لكن عليّ التفكير أوّلًا بعمَلي... المبلغ كبير لِدرجة أنّ لا شيء يُضاهيه، حتّى أنتِ".
واساني الجميع وقالوا لي إنّه لا يستحقّ إنسانة مثلي، ولا يجب أن آسَف عليه. كانوا طبعًا على حقّ، لكنّ قلبي كان مُحطمًّا لدرجة أنّني حبَستُ نفسي في غرفتي لوقت طويل، ولَم أُبارِحها إلّا لقضاء حاجات ضروريّة. سكَنَ وسام في بيت زوجته الضخم، وبدآ يظهران سويًّا في المُناسبات الاجتماعيّة الأنيقة، ومَن يراهما سويًّا يخالُهما أمًّا وابنها. لكنّ الأمر لَم يكن يُزعِج وسام الذي طالما حصَلَ على مراده. أمّا هي، فكانت تبدو في الصوَر التي رأيتُها على مواقع التواصل، سعيدة وفخورة بنفسها. ولِما لا تكون فخورة، فهي اشترَت آخِر المُقتنيات التي أرادَتها، شاباً جذّابًا وطموحًا يفعَل ما في وسعه لإسعادها وتلبية طلباتها.
ثمّ بدأت الشركة تكبَر وتكبَر، وعلِمتُ أنّ نوال صارَت صاحبة الحصَص الأكثر، أيّ أنّ الشركة باتَت تقريبًا ملكها، الأمر الذي لَم يكن في حساب وسام، إلّا أنّ تلك المرأة الذكيّة عرِفَت كيف تحمِله على القبول. فلا يجب أن ننسى أنّها لَم تصِل إلى هذا الكمّ مِن الثراء والمعارِف لو لَم تكن سيّدة أعمال مُحنّكة... ومِن الواضح أنّ وسام نسيَ ذلك، بسبب طمَعه وغروره واعتقاده بأنّه الأذكى والأقوى، وأنّه يستطيع إقناع أيّ أحَد بأيّ شيء. يا للرجُل الغبيّ، وشكرتُ ربّي أنّه تركَني قَبل أن نتزوّج.
وهكذا صارَت "الستّ" سيّدة الموقف، بعد أن جرّدَت زوجها مِن الذي يملكه، وباتَ يتقاضى حصّة صغيرة مِن أرباح الشركة التي بقيَ يُديرها كما في السابق ويقوم بكلّ الأعمال... صفقة غير مُربِحة له على الاطلاق! إضافة إلى ذلك، صارَ مرهونًا بنوال وإرادتها ومزاحها، وكلّ ما قد تقرِّرَ فعله في ما يخصّ الشركة أو زواجهما. للحقيقة، معرفتي بوضع خطيبي السابق خفّفَ مِن إحباطي كثيرًا، فلقد شعرتُ أنّ الأمور تأخذُ منحىً عادِلًا. فمِن النادِر أن نرى مَن آذانا يُعاقَب، وكنتُ مِن المحظوظين القلائل.
لكنّ القصّة لَم تنتهِ عند ذلك الحدّ، فبعد حوالي السنة مِن زواجهما، إكتشفَت نوال أنّ لوسام علاقة مع صبيّة تعرَّفَ عليها. مِن جهتي، لَم أتفاجأ، فهو إنسان غير وفيّ وكانت نوال بسنّ والدته، أيّ أنّها لَم تكن ولن تكون امرأة تُشبِع رغبات رجُل في الثلاثين مِن عمره.
إلّا أنّ نوال لَم ترَ الأمور هكذا بل كانت تعتقد أنّه لها وحدها، فقرّرَت أنّ تُحاسبه بطريقة موجِعة للغاية.
فلقد طردَت نوال زوجها مِن منزلها... ومِن الشركة، كَونها تملك مُعظم الحصص وأقامَت ضدّه دعوى طلاق. لكنّها لَم تكتفِ بذلك، بل أوصَت كلّ معارِفها في مجال الأعمال بألّا يتعاملوا مع وسام بأيّ شكل، لا بِتبادل الخدمات أو بِتوظيفه. فباتَ كالعنزة الجرباء لا يُريدُ أحَد الاقتراب منها بطائلة إثارة غضب "صاحبة الأموال". ففضَّلَ وسام السفَر بعيدًا... بعد أن حاوَلَ العودة إليّ! أجل، فذلك الماكِر اتّصَلَ بي مُعتذرًا على ما فعلَه بي، وطالبًا المُسامحة، مع وعود بالحبّ الأبديّ مِن جديد. لكنّني رفضتُ بالطبع وحظَرته على هاتفي وعلى كلّ صفحات التواصل، فليذهب إلى الجحيم!
تابعتُ حياتي بشكل طبيعيّ بعد أن حصلتُ على "انتقامي"، ولكنّ القصّة لَم تنتهِ عند ذلك الحدّ أيضًا! فكَم تفاجأتُ بنوال تّتصل بي طالبةً منّي أن أديرَ الشركة بنفسي! أجل، قرأتم جيّدًا، فتلك المرأة كانت لدَيها أعمال أخرى ولا وقت لدَيها لهذه الشركة، وهي كانت تعلَم مدى دوري في تأسيسها ومعرفتي بكلّ الملفّات، ناهيكَ عن قدرتي على إدارتها. لأوّل وهلة أردتُ الرفض، إلّا أنّني طلبتُ منها إعطائي بعض الوقت للتفكير. أسرعتُ باستشارة محام، وأخبرتُه القصّة مِن أوّلها وكيف أنّ نوال استطاعَت إبعاد وسام بفضل حصصها، ولَم أكن أريدُ أن يحصل الشيء نفسه معي. لِذا عرضتُ على نوال شراء نصف الحصَص زائد حصّة واحدة منها، مُقابل عدَم حصولي على راتب إلى حين يُستوفى ثمَن الحصص. بعد ذلك، أُديرُ الشركة براتب كبير... وبالي مُرتاح! وافقَت نوال قائلة: "لا تهمّني الشركة بحدّ ذاتها، فلدَيّ مال وفير... إلّا أنّني لن أرفض الحصول على ربح إضافيّ... صحيح أنّني استثمرتُ فيها مبلغًا لا بأس به، لكنّ الغرض كان الحصول على وسام... وهو ثمَن يفوق بكثير ما اتّضَحَ قدره... أنا لَم آخذه منكِ، بل أخذتُه لأنّني أحصلُ دائمًا على ما أُريده، فالأمر لَم يكن موجّهًا لكِ شخصيًّا. ما يهمّني الآن هو أن تعمَل الشركة جيّدًا. قومي بواجباتكِ وحسب. وبالتوافيق."
علِمَ وسام مِن أحَد أقربائي بما حصَل، فطلَبَ منه أن يوصل لي رسالة مفادها أنّه لا يزال يُحبّني ويُريد العودة إليّ. يا للغبيّ! مَن يظنّ نفسه؟ هل يتخيّل بالفعل أنّه رجُل مُميّز وأنّ النساء بأسرها تُريدُه؟ إنّه إنسان ماكِر وضعيف وفاشِل، وأنا بغنى عنه. فما يهمّني الآن هو إنجاح الشركة التي أسّستُها أصلًا، والتي عادَت إليّ، لأنّ القدَر يُصحِّحُ دائمًا مسارَه.
حاورتها بولا جهشان