الدنيا دولاب...

يا لَيت الناس يُدركون أنّ الحياة كالدولاب يدورُ بهم إلى حيث يشاء، ولا يسعُنا على الاطلاق معرفة ما سيحصلُ لنا بعد فترة أو حتى بعد دقيقة واحدة. وقصّتي هي بمثابة درس لكلّ مَن سيقرأها، ففكّروا بكلّ تصرّف ستقومون به كَي لا تندموا عليه يومًا.

كلّ شيء بدأ حين وقعتُ ضحيّة حادث سَير رهيب، واضطرِرتُ للجلوس في كرسيّ مُتحرّك لأكثر مِن سنة. الكلّ أحاطَ بي وساندَني، بمَن فيهم عاصم زوجي... إلى حين أدرَكَ أنّ حالتي قد تطولُ وأنّني لن أكون قادرة على القيام بواجباتي الزوجيّة تجاهه. هو لَم يُفكِّر بألَمي مِن جرّاء إصابَتي البالغة، أو يأسي مِن الجلوس في ذلك الكرسيّ اللعين، أو كيف أنّني صِرتُ أتّكِلُ على الآخرين للقيام بالأمور الأكثر بديهيّة، بل هو صارَ يتذمَّر ويتذمَّر ويتذمَّر... لكن كيف لي أن أُلبّي حاجاته وأنا في تلك الحالة؟!؟ والأفظَع أنّ عاصم لَم يبدُ لي إطلاقًا أنّه يُعلّقُ هكذا أهميّة على الأمور الحميمة، فحياتنا الجنسيّة كانت منذ البدء عاديّة للغاية. لماذا ذلك الاصرار إذًا؟ وسرعان ما صارَ لزوجي امتعاض واضِح منّي، الأمر الذي دفعَني إلى الانطواء، وأخَّرَ شفائي حسَب قول طبيبي الذي أمرَه بالكّف عن تأنيبي على شيء لا ذنب لي فيه بل اعتماد الصبر والدَعم.

أخذتُ إجازة مرَضيّة مِن عمَلي وأوكلتُ مُهمّة الانتباه بابني لأختي التي كانت تعيشُ ليس بعيدًا عنّا، فلَم أشأ التقصير بتربيَته أو حصوله على ما يستحقّه. وكنتُ على ثقة مِن أنّه سيحظى بالحنان اللازم منها ومِن أولادها الصغار. كنتُ مُطمئنّة مِن تلك الناحية ومِن ناحية عدَم سماعه كلام أبيه لي القاسي والمُهين. فبتُّ بنظَر عاصم امرأة لا نَفع لها على الاطلاق، إذ أنّني لَم أعُد أهتمّ بولدَنا أو بالبيت أو به. يا إلهي... كيف لذلك الرجُل الطيّب الذي تزوّجتُه أن يصيرَ بهذه القساوة واللامُبالاة؟

وكأنّ ذلك لَم يكن كافيًا، فقد زادَ وزني بسبب الكورتيزون الذي وُصِفَ لي وجلوسي مِن دون حركة على مدار الساعة. وكانت مسألة وزني عذرًا إضافيًّا لعاصم حتى يسخَرَ منّي ويؤنبّني صارخًا أنّه يستحقّ زوجة أفضل منّي على كلّ الأصعدة. ولكثرة حزني وبكائي الدائمَين، صرتُ مُكتئبة ولَم يعُد شيء يعني لي... حتى ولَدي. وبدلاً مِن أن أحظى بدَعم زوجي، هو فضَّلَ البحث عن امرأة أخرى "أكثر أنوثة وتعرفُ كيف تُعامِل رجُلها". أجل، هو أطلعَني مُسبقًا على نيّته بخيانتي، ووعدَني بأنّه سيُعطيني كلّ تفاصيل حياته الحميميّة مع التي ستأخذ مكاني! يا للوحش!

ووفى عاصم بوعده لي، وصارَ يتغيّب عن المنزل تاركَني أتدبَّر أموري لوحدي وأبكي مِن كثرة ضياعي. وحين كان يعودُ في آخِر الليل، كان يدخُل البيت وهو يُصفِّر لحنًا سعيدًا لإغاظتي، وكأنّني المسؤولة عمّا يحصلُ!

غضِبَت أختي كثيرًا مِمّا يفعله زوجي، وحاولَت إعادته لرشده، إلا أنّه طلَبَ منها عدَم التدخّل بزواجنا وإلا منعَها مِن دخول بيتنا. يا لوقاحته! أليست هي مَن تهتمّ بابنه؟!؟ ثمّ صارَ عاصم يُكلِّم عشيقته أمامي ويعدُها بالهدايا والنزهات، ويشكُرها على ما تُقدّمِه له مِن خدمات وملذّات، ولَم يؤثِّر به بكائي لدى سماعي ذلك. هل كان عاصم وحشًا مُتنكّرًا بزوج مُحِبّ ووفيّ؟ فلا يُعقَل أن يكون قد تغيَّر إلى هذه الدرجة في غضون أشهر قليلة! كيف أنّني لَم أُلاحِظ شيئًا عليه لسنوات؟

حاولتُ في تلك الفترة الاستنجاد بحماتي، فهي تستطيع إعادة ابنها إلى صوابه، إلا أنّها قالَت لي: "لدَيه حقوق كرجُل وعليكِ تقبّل الأمر". وعلِمتُ أنّني لن أحظى بسَنَد أيّ مِن عائلته.

 

مرَّت أشهر أًخرى فقدتُ خلالها زوجي، فهو باتَ يعتبرُ البيت فندقًا ينامُ فيه وحسب. واستنتجتُ أنّ عشيقته حتمًا متزوّجة وإلا لَما عادَ قط إلى منزلنا. لكن كيف لزوجها أن يسمَحَ لها بأنّ تقضي وقتها ليلاً خارج البيت؟ آه، هو حتمًا مُسافر وهي تغتنِمُ الفرصة لتفعَل ما تشاء وتحصلُ على الاهتمام والهدايا.

بدأَت حالتي تتحسّنُ شيئًا فشيئًا بفضل المُعالجة البدنيّة، وصرتُ قادرة على المشي بواسطة عكازات. واستطعتُ القيام ببعض الأمور شرط ألا أبقى واقفة وقتًا طويلاً. إضافة إلى ذلك، كان الطبيب قد طلَبَ منّي التوقّف عن أخذ الكورتيزون، فبدأتُ أخسرُ بعض الوزن. لكنّ حالتي النفسيّة كانت في أدنى مُستوياتها بسبب عاصم. وحدها أختي كانت تنجَح في الترفيه عنّي حين تأتي لي بابني ونقضي سويًّا وقتًا جميلاً.

بعد فترة، خرجتُ إلى السوبر ماركت برفقة أختي، فلَم أكن جاهزة بعد للمشي لوحدي أو قيادة سيّارتي. وآخِر شيء كنتُ أُريدُه هو أن أعودَ إلى ذلك الكرسيّ اللعين إن حصَلَ أن وقعتُ ضحيّة حادث ثانٍ. كنتُ سعيدة لشراء حاجيّاتي بنفسي... أخيرًا!

لاحظَ عاصم تحسنّي، وأنا لاحظتُ اهتمامًا بسيطًا بي مِن جانبه. كانت الكلمات التي يقولُها لا تعني الكثير لكنّها كانت تدلّ على شيء مِن الرّفق. فرِحتُ داخليًّا وأمِلتُ أن أستعيدَ زوجي، لكنّ سؤالاً فرَضَ نفسه عليّ: هل كنتُ حقًّا أُريدُ رجُلاً كهذا في حياتي؟ فكنتُ قد عاودتُ العمَل في المصرف حيث استقبلَني الجميع بالبهجة وعمِلَ الكلّ جهده لتسهيل مهامي. فهل أنا بالفعل بحاجة إلى زوج لَم يتأخَّر عن استبدالي علَنًا بأخرى حين وقعتُ ضحيّة حادث مُروّع؟ هل يظنُّ أنّني سأنسى بسهولة ما فعلَه بي؟ أليس هناك مِن ثمَن عليه دفعَه لنَيل غفراني؟

أبقَيتُ ابني عند أختي حتى تتوضّح صورة مُستقبلي الزوجيّ، بعد أن خفَّت غيابات عاصم عن البيت ومُكالماته مع عشيقته. لكنّ قلبي كان قد نبَذَ ذلك الرجُل نهائيًّا، وحين أرادَ مُعاشرتي طردتُه خارج الغرفة صارخة به: "إذهب إلى عشيقتكَ وإيّاكَ أن تلمُسني مُجدّدًا! ألا تخجَل مِن نفسكَ؟ هيّا! أخرُج مِن غرفتي!". عادَ عاصم إلى تلك المرأة وسكَنَ معها لفترة بعد أن طلّقَها زوجها حين علِمَ أنّها تخونُه. ثمّ طلبتُ الطلاق وحضانة ابننا ولَم يُمانِع عاصم، فتلك المرأة لَم تكن مُستعدّة لتربية أي ولَدٍ كان.

عادَت حياتي إلى مسارها، وبدأتُ أرى الدنيا أكثر جمالاً بعدما خرجَ عاصم نهائيًّا مِن حياتي، ولَم تسعُني الدنيا بعد أن استعَدتُ كامل قوايَ وقُدراتي الجسديّة والمعنويّة. وفي تلك الأثناء، بدأ عاصم يشعرُ بالتعَب الجسَديّ وبعوارض غريبة، كخلَل بالتوازن وتنميل في رجلَيه، وما هو أهمّ، فقدان تدريجيّ للرؤية في إحدى عَينَيه. هو كان قد بدأ يختبِر تلك العوارض منذ فترة طويلة، إلا أنّها كانت خفيفة ومُتقطّعة وقد ردّها إلى إرهاق جسديّ في مُعظم الأحيان. لكن حين وصلَت حالته إلى عَينه ونظره، قرَّرَ أخيرًا إجراء فحوصات طبّيّة، فتبَّينَ أنّه مُصاب بداء التصلّب المُتعدِّد الذي يُصيبُ الجهاز العصبيّ المركزيّ ويضربُ الحَبل الشوكيّ والدماغ. ولدى سماعها الخبَر، أدركَت عشيقته أنّ عاصم لن يبقى "فعّالاً" طويلاً ولامَته لأنّه لَم يُطلِعها على حالته قبَل ذلك. حاوَلَ أن يشرَح لها أنّه لَم يكن يعرفُ أبدًا أنّ تلك العوارض كانت تدلُّ على خلَل ما لكنّها لَم تُصدّقه. وحين هو صارَ يُعاني مِن تقصير جنسيّ، أسرعَت بطرده مِن حياتها ومِن بيتها.

 

لَم يستفِد عاصم كثيرًا مِن العلاجات، إذ أنّ المرء لا يستطيع الشفاء مِن ذلك المرض، بل ساءَت حالته بسرعة والتجأ إليّ. كانت قد مضَت سنوات عديدة على انفصالنا، وبالكاد تعرٌفَ ابننا عليه حين رآه واقفًا عند بابنا. فالجدير بالذكر أنّ زوجي السابق لَم يتفاعَل إلا نادرًا مع ابنه، بل قاطعَه كليًّا مع الوقت لكثرة انشغاله بتلك المرأة وبحياتهما "المُثيرة" سويًّا. تفاجأتُ بعاصم واقفًا بواسطة عكازَين وعلى وجهه علامات يأس عميق. أدخلتُه بسرعة، فكان مِن الواضح أنّه يُعاني مِن خطَب ما. أخرَجَ زوجي السابق مِن جَيبه تقارير طبّيّة قرأتُها بسرعة ومفادها أنّ داءه يتطوّر بسرعة وهو بحاجة إلى مَن يهتمّ به. نظرتُ إليه بتعجّب وقَبل أن أقولَ شيئًا هو قاطعَني:

 

ـ أعرفُ تمامًا ما ستقولينَه، فلا داعٍ لقوله، أرجوكِ. ما فعلتُه بكِ لا يوصَف، وليس لدَيّ أعذار لتصرّفي الدنيء والأنانيّ معكِ. للحقيقة، شعرتُ تمامًا مع عشيقتي كما شعرتِ معي، أيّ إحساس بالغبن والضياع والاستنكار. وأنا شبه وثق بأنّ ما يحصلُ لي هو عقاب، فكيف أُفسِّر ما أصابَني بطريقة أخرى؟ جئتُ إليكِ لأنّ ما مِن أحد سواكِ بقيَ لي، فهناكَ مَن ماتَ وتخلّى عنّي الآخرون. لا أطلبُ الكثير، بل فقط غرفة في هذا البيت والقليل مِن الاهتمام. سأتكفّل بالمصاريف، وحين لن أعودَ قادرًا على القيام بشيء لوحدي، سآتي بمُمرّض خاصّ. لن تشعُري حتى بوجودي. لا أُريدُ أن أُلقى في مؤسّسة خاصّة وأموتَ وحيدًا، أرجوكِ!

 

لكنّ ابني الذي كان قد بلَغَ الثالثة عشرة مِن عمره وقَفَ أمامه صارخًا: "مَن تكون؟!؟ الآن عُدتَ؟َ!؟ أنا لا أعرفُكَ ولا أريدُكَ معي في البيت! ماما، قولي له أن يرحَل!

هدّأتُه وواسَيتُه إذ بدأ بالبكاء مِن كثرة امتعاضه مِن ترك أبيه له، مُضيفةً:

 

ـ يا بُنَي... الله علّمَنا أن نكون رحومين وأن نُسامِح... وإن تخلَّينا عن أبيكَ الآن، فلَن نكون أفضَل منه. إعتبِره شخصًا غريبًا أتى إلينا طالبًا العَون وليس أكثر. لا أُريدُكَ أن تكبَر لتصبَحَ رجُلاً جافًّا وقاسيًا، بل أبقِ دائمًا في قلبكَ فسحة للرحمة والمحبّة. وثِق بي حين أقولُ إنّكَ ستفهم طبيعة الانسان حين تكبر، وتُدرك كَمّ أنّنا ضعفاء أمام المُغريات وكَم أنّ حبّنا لنفسنا يحمِلُنا على أذيّة الآخَر. لقد فهِمتُ كلّ ذلك مِن الذي حصَلَ لي، وعذابي هو ما فتَحَ عَينَيّ على تلك الحقائق، فلقد حوّلتُ ألَمي وامتعاضي واستنكاري إلى قوّة إيجابيّة وليس إلى حقد ومرارة ونيّة بالانتقام.

 

عاشَ عاصم معنا بالفعل كالضَيف المريض لسنوات، وعانى كثيرًا مِن تفاقم حالته. فهو، إلى جانب ملازمته السرير بعد حين، بدأ يفقِد ذاكرته شيئًا فشيئًا واهتمَّ به مُمرّض ليلاً نهارًا.

ماتَ زوجي السابق مِن التهاب رئويّ، وحزنتُ بالفعل عليه وكذلك ابني الذي أدركَ أنّه فقَدَ أباه إلى الأبد. هو كان قد تعوّدَ على وجوده معنا وصارَ بمثابة صديقه ومُعينه.

أشكرُ ربّي أنّني استطعتُ مُسامحة الذي عذّبَني وحجّمَني وأهانَني، لأنّ ذلك أعطاني سلامًا داخليًّا لَم أكن لأحظى به لو تركتُ عاصم يمرض ويموت لوحده. وما هو أهمّ، أعطَيتُ لابني الفرصة ليكون إنسانًا أفضل، وأنا مُتأكّدة مِن أنّه سيصبَحُ يومًا أفضل زوج وأب.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button