الخطأ الأخير

كنتُ أعتقد أنّني أملُك السيطرة على كلّ شيء... كجرّاح، وكنتُ دائمًا أؤمِن أنّ الخبرة والمعرفة هما ما يصنعان الفرق بين النجاح والفشَل. لكن في تلك العمليّة تحديدًا، كانت كلّ قواعدي، كلّ مبادئي التي بنَيتُها طوال سنوات طويلة، تتحطَّم أمامي.

السيّدة "سلمى" كانت واحدة مِن الحالات التي كنتُ أتطلَّع إليها بإيجابيّة: إمرأة في الأربعينات، تتمتّع بصحّة جيّدة بشكل عام، وكانت بحاجة إلى عمليّة استئصال مرارة بسيطة. عمليّتها كانت تُعتبَر عاديّة، فلَم تكن هناك أيّ مؤشِّرات على أنّ شيئًا قد يسير بشكل خاطئ. الجميع كان مُتفائلًا، بمَن فيهم أنا.

تواصَلتُ مع عائلة المريضة قَبل العمليّة، وقدّمتُ لهم جميع التطمينات المُعتادة: العمليّة ستكون قصيرة، والمخاطر ضئيلة، وعليهم ألّا يَقلقوا.

كل شيء كان على ما يُرام في البداية: غرفة العمليّات كانت مُجهّزة بالكامل، وكلّ شيء كان يسير حسب الخطّة. لكن في لحظة واحدة، ومع أنّني كنتُ أعمَل بكلّ تركيز، حدَثَ شيء غير مُتوقّع...

فبينما كنتُ أقوم بإزالة المرارة، شعرتُ بشيء غريب في يدَيّ، إرتجاج بسيط، قد يكون بسبب الضغط أو بسبب زاوية الأدوات، لكنّه كان كافيًا ليَدفَعني إلى قَطع أحَد الأوعية الدمويّة. وفي غضون لحظات، بدأ الدَّم يتسرَّب بشكل أسرَع مِمّا توقَّعت.

لكنّنا تمكّنّا ِمن السيطرة على النزيف بسرعة، وبذَلنا جهدًا مُضاعَفًا لإيقاف تدفّق الدّم. العمليّة استغرقَت وقتًا أطوَل بكثير مِن المتوقَّع، وكان هذا أوّل مؤشِّر على أنّ الأمور لَم تكن على ما يرام. في النهاية، خرجَت السيّدة سلمى مِن العملية بأمان، لكنّها كانت في حالة حرِجة.

مرَّت أيّام على العمليّة، وبدأت السيّدة سلمى تستعيد عافيَتها، ولكنّ شيئًا ما بدأ يُثير القلَق في قلبي. فبالرغم مِن أنّ حالتها تحسّنَت تدريجيًّا، إلّا أنّني لاحظتُ شيئًا غريبًا في تصرّفاتها: هي كانت تتجنّب النظر إليّ بشكل مُباشَر عندما كنتُ أزورُ غرفتها لمُتابعة حالتها.

بعد بضعة أيّام، قالَت لي سلمى أخيرًا بصوت هادئ ولكن متوتِّر:

 

- دكتور، أريدُ أن أسألكَ عن شيء.

 

- بالطبع، سيّدتي. ما الذي يُقلقُكِ؟

 

- أنتَ مُتأكِّد مِن أنّه لَم يكن هناك خطأ في العمليّة؟

 

شعرتُ بقلبي يخفقُ بسرعة فأجبتُها: "لا يوجد خطأ، سيّدتي. فكما أخبرتُكِ، كانت العمليّة روتينيّة جدًّا. كلّ شيء سارَ كما يجب.

لكنّها أصرَّت، وقالَت: "أنا لا أتحدَّث عن العمليّة بحدَ ذاتها... أنا أتحدَّث عن شيء آخَر. فقد لاحظتُ أمورًا غريبة في الأيّام التي تلَت العمليّة... أمورًا خارِجة عن المألوف، أعني.. إضافة إلى مدّة العمليّة ومكوثي الطويل في المشفى، هناك الاعتناء المُفرَط بي والقلَق الواضِح على وجوه المُمرّضات وفي عَينَيكَ أنتَ بالذات".

في تلك اللحظة، فهمتُ أنّ مريضتي شعرَت بالالتفاف حولها لإخفاء خطأ حصَلَ أثناء الجراحة. لكن لماذا كانت تركِّز على هذا الموضوع الآن؟ لماذا كل هذا الاهتمام بعد أن صارَت على وشَك الخروج مِن المشفى؟

وهي أضافَت بجدّيّة:

- أنا مُتأكِّدة مِن الذي أقولُه، دكتور. فلقد اقترفتَ خطأً وأرَدتَ طَمسه، هل هذا صحيح؟

 

شعرتُ وكأن السماء سقطَت عليّ، فسيرتي المهنيّة كانت مِن دون أيّ شائبة، وكان يُضرَب المثَل بي أمام التلامذة وباقي الجرّاحين.

قلتُ وأنا أحاول أن أتمالَك أعصابي:

- ما الذي تعنينَه، سلمى؟

 

- أنا مُتأكِّدة مِن الذي أقولُه وسأثبتُ ذلك بواسطة المُحامي حين أُقاضيكَ.

 

خرَجتُ مِن غرفتها بغضَب، مع أنّها كانت على صواب في شكوكها. لكنّ كبريائي رفضَ أن توجِّه لي مريضة الانتقاد وأن تُهدِّدني. مَن تحسِبُ نفسها؟؟؟ إنّها مُجرَّد مواطنة عاديّة، بينما أنا أنقذتُ الألوف مِن المرضى بفضل مهارَتي! على كلّ الأحوال كانت إدارة المشفى ستُساندُني وكذلك كامِل الطاقم الطبّيّ.

ثمّ بدأتُ أتذكّر تلك اللحظة التي ارتجفَت فيها يدَايَ، ذلك الارتجاف الذي لَم أتعامَل معه بالشكل المُناسب. قد يحدُث ذلك لأيّ جرّاح في لحظة توتّر، لكنّ العواقِب تكون أحيانًا وخيمة إن لَم يوكِل الجرّاح مُساعِده بمُتابعة العمليّة عنه... الشيء الذي لَم أفعَله، ربّما لأنّني اعتقَدتُ أنّني أستطيع إنجاز المُهمّة، أو لأنّني لَم أرِد أن يسخَرَ منّي مَن هابَني واحترمَني لسنوات.

للحقيقة، شكَكتُ بأنّ الخبَر قد انتشَرَ في المشفى، لأنّني بدأتُ أرى نظرات في وجوه الأطبّاء والممرّضين، فسَّرتُها بأنّها مليئة بالشكوك والامتعاض.

وبعد أيّام عدّة، عندما كنتُ في المشفى أتحدّث مع زملائي، قالَ لي أحَد المُمرّضين الذين كانوا في غرفة العمليّات ذلك اليوم، إنّه لاحَظَ وجود "توتّر غير طبيعيّ" في يدَيّ أثناء العمليّة، وأنّه بدأ يُراقبُني عن كثَب بعد ذلك. هل هو مَن فسَدَ علَيّ للجميع وأوصَلَ الخبَر لمريضتي؟ لَم أستطِع النكران، فالجميع في غرفة العمليّات رأى حدوث النزيف، فأجبتُه:

- كنتُ في حالة نادِرة مِن الإرهاق في ذلك اليوم، بسبب جدوَل عمَلي المُزدحِم. وللحظة خاطِفة، شعرتُ بأنّني فقدتُ تركيزي قليلًا، وهذا ما قد يُفسِّر ارتجاف يدَيّ. لكنّها كانت حادِثة مُنعزِلة وأنا ويدَاي بألف خير، أُنظُر!

 

ومدَدة يدَيَّ الاثنتَين أمام المُمرِّض... واكتشفتُ مذعورًا أنّ الرجفة لا تزال موجودة ولو بشكل خفيف. أدَرتُ ظهري للرجُل لأخفيَ عنه ارتباكي، لكنّه أمسكَني بذراعي وهمَسَ في أذني: الدكتورة هناء موجودة في عيادتها، لِمَ لا تذهب إليها ؟

والجدير بالذكر أنّ الطبيبة المذكورة هي مٌتخصِّصة بالأعصاب، فنظرتُ بسرعة مِن حولي لأرى إن كان قد انتبَهَ أحدٌ إلى حديث المُمرِّض، ثمّ اختفَيتُ بسرعة.

وقفتُ أمام باب عيادة تلك الدكتورة مُتردِّدًا، لأنّ مصيري المهنيّ كان في خطَر. هل كنتُ أريدُ بالفعل معرفة مِمّا أشكو؟ لِمَا لا أتجاهَل الأمر، وأُتابِع حياتي وعمَلي كالمعتاد؟

لكنّ الباب فُتِحَ مِن تلقاء نفسه قَبل أن أتّخذ قراري، وإذ بالدكتورة هناء تقِفُ أمامي وتقولُ لي:" هيّا أُدخُل واقفِل الباب وراءكَ". أخبرتُها القصّة بأكملها، وتذكّرتُ فجأةً أنّها لم تكن المرّة الأولى التي أُلاحِظ ذلك الرجفان في يدَيَّ، لكن كانت في أوقات خارج القيام بعمَلي.

خضَعتُ في اليوم نفسه لفحوصات عديدة، وتبيَّن أنّني مُرهَق لدرجة مُقلِقة، وكان مِن الضروريّ أن آخذ إجازة مرضيّة، فهكذا أمرَني مدير المشفى أن أفعل وإلّا! وبالمُقابل، أخذتُ وعدًا منه بأنّه سيهتمّ بالقضيّة التي قد تُرفَع ضدّي واعطاء السيّدة سلمى حقّها بالكامِل.

في النهاية، لم يكن هناك خطأ كارثيّ، لكنّه كان أكبَر درس يُمكن أن أتعلّمه كجرّاح: فحتّى اللحظات الصغيرة، الارتجاف الذي يبدو غير مُهمّ، يُمكن أن يكون له تأثير عميق على المريض وحياته.

وبدأتُ أُراجِع مسيرتي المهنيّة بشكل عميق: كنتُ دائمًا أعتقد أنّني قادر على التحكّم بكلّ شيء داخل غرفة العمليّات، ولكن بدأتُ أُشكِّك في قدرتي على تقديم العناية التي يستحقّها مرضايَ. فشعرتُ أنّني لَم أعد الشخص الذي يُمكنُه ضمان النجاح في كلّ مرّة، وربّما حانَ الوقت للتوقّف. فإن لَم أستطِع أن أثِق بنفسي في أكثر لحظات حياتي المهنيّة أهمّيّة، فكيف يُمكنُني أن أتوقّع مِن مرضايَ أن يثقوا بي؟

تقاعَدتُ أخيرًا وأنا أعلَم أنّني لا أريد أن أكون سببًا في تدهور صحّة شخص آخَر، وأنّني يجب أن أترك المجال لجيل جديد مِن الجرّاحين، ليواصِلوا عمَلًا يبدو أنّه لَم يعد يُناسبُني بعد الآن.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button