كم مِن الصعب أن يقضي المرء سنوات بالتمثيل كما فعلتُ حين ادّعَيتُ أنّني لا أُبالي إن كان زوجي أمير قد طلّقَني ليتزوّج مِن سكرتيرته. للحقيقة، تفاجأتُ كثيرًا عند سماعه يبوحُ لي بعلاقته مع تلك المرأة، مع أنّ الدلائل كلّها كانت تُشير إلى خيانة ما. الجميع مِن حولي لاحظَ ما لَم تشأ عينايَ أن تراه وأسفوا مِن أجلي. هل كانت الطريقة التي زفَّ لي أمير الخبر هي التي أجبرَتني على التمثيل؟ فهو عرَضَ عليّ الأمر وكأنّه طبيعيّ فأجبتُه بكلّ بساطة: "أدعو لكَ بالتوفيق". لاحقًا، سألتُ نفسي لماذا لَم أصرخ وأهدّد وأشتم كما قد تفعل أيّة زوجة في هكذا وضع، فوجدتُ أنّ لزوجي طريقة خاصّة لِفرض ما يُريده عليّ استعملَها طوال سنوات زواجنا لينال مُبتغاه مِن دون اعتراض مِن جانبي. فسكتُّ مرّة أخرى حسبتُها الأخيرة واكتفَيتُ بجائزة ترضية: حضانة أولادنا التي كانت بالحقيقة إلقاء أمير الحِمل كلّه عليّ.
بقيتُ وأولادي في البيت نفسه وتعهَّدَ أمير بالصرف علينا لنعيش "وكأنّ لا شيء قد تغيّر"، ووجدتُ نفسي أشكرُ ربّي على هكذا رجل. نعم، لقد قرأتم جيّدًا، كنتُ فخورة بكرَم أخلاق الذي تركَني مِن أجل غيري.
بعد أسابيع قليلة، رأيتُ على مواقع التواصل الإجتماعيّ صوَر زفاف أمير مِن تلك التي تُدعى سمَر، وبديا في قمّة السعادة وسط حشد مِن الذين اعتبرتُهم يومًا أصدقائي. كانوا هؤلاء قد اختاروا صفّهم ولَم أرَهم بعد ذلك.
في الفترة الأولى، رفَضَ عقلي التأثّر بما جرى، فتصرّفتُ وكأنّ شيئًا لَم يكن، الأمر الذي أدهَشَ عائلتي ولكن أراح أولادي. ومِن ثمّ، عادَت الصوَر والكلمات إلى بالي، وصرتُ أتذكّر أمورًا كثيرة محورها خيانة أمير لي وكذباته وتركه لي وكأنّه يُقدّم استقالته مِن عمل ما. عندها أصابَني غضبٌ شديد ومِن ثمّ اكتئاب هدأ فقط بتناول الأقراص والنوم لساعات عديدة. شعرتُ وكأنّ لا قيمة لي، إنسانة مِن دون هويّة أو إسم.
في تلك الأثناء، وصلَت وقاحة أمير إلى شراء منزل بالقرب منّا. في البدء فسّرتُ الأمر بأنّه أرادَ أن يبقى قريبًا مِن أولاده، لكنّه لَم يكن يراهم إلا نادرًا، أي عندما أوبّخُه بهذا الشأن وأذكّرُه بأنّه أبٌ. عندها، كان يأخذهُم إلى بيته ليقضوا هناك ساعات قليلة ومِن ثمّ يُعيدُهم وكأنّه يُنزل عن كتفَيه حملاً ثقيلاً.
كنتُ أسأل أولادي عن زوجة أبيهم وهم يُجيبوني بأنّها امرأة حسناء المظهر ولطيفة للغاية معهم. للحقيقة، لَم أرَ سمَر إلا في صوَر زفافها مِن أمير، فحتى ذلك الحين كنتُ أجهل حتى وجودها. فزوجي السابق لَم يكن يتكلّم أبدًا عن عمله أو عن أيّ مِن موظّفيه... عن قصد طبعًا.
شعرتُ بالغيرة مِن سمَر، فهي آخذَت زوجي منّي وقد تخطفُ أيضًا محبّة أولادي، لِذا لَم أعُد أصرُّ على أمير لأخذهم إلى مسكنه. فليَترك ليَ شيئًا!
حمِلَت سمَر وأنجبَت إبنًا وتصوّرتُ فرحة أمير وفخره مِن نفسه، فازدَدتُ امتعاضًا لأنّ شيئًا بداخلي كان يُريدُه أن يترك تلك المرأة بعد أن يُدرك أنّها كانت بالنسبة له مُجرّد نزوة. لكنّ الحقيقة كانت مُخالفة إذ أنّه كان في قمّة السعادة معها. علِمتُ ذلك مِن أولادي الذين صاروا يُصرّون على زيارة أبيهم لأنّهم كانوا يستمتعون بالذهاب إلى هناك واللعب مع أخيهم الجديد. هل شعَرَ أحدٌ بمدى عُزلتي النفسيّة؟ صحيح أنّني كنتُ أبدو مُرتاحة وسعيدة ولكن هل صدّقَ فعلاً الناس ذلك؟!؟
بعد أشهر قليلة، تحوّل بيتي إلى دار حضانة، إذ أنّ أمير بدأ يطلب منّي الإعتناء بابنه الجديد كلّما أرادَ الخروج مع تلك الفاسقة أو السفَر معها للترفيه. وهو تحجّجَ برغبة أولادنا باللعب مع الصغير فلَم أشأ أن أكون التي تُفرّقُ بين الإخوة. ألَم أقُل لكم إنّ أمير يصل دائمًا إلى مُبتغاه معي؟ هل لأنّه ذكيّ للغاية أمّ لأنّني غبيّة وساذجة؟ المضحك في الأمر، هو أنّ كلّ ذلك لو حدَثَ مع صديقة لي، لكنتُ وبّختُها وأملَيتُ عليها أن ترفض هكذا مُعاملة. لكنّ الأمور تختلف عندما تُصيبنا.
وهكذا صِرتُ أستقبل في بيتي (أو بالأحرى بيت أمير الذي اشتراه بماله ولا يزال يدفع مصاريفه ومصاريفنا، كما بقيَ يُردّدُ لي شبه يوميًّا) سامر إبن زوجي الذي لَم يكن منّي. كنتُ أنظرُ إلى ذلك الولد بمزيج مِن الهمّ والكره، فلَم أكن طبعًا أحبُّه وكنتُ أخافُ أن يحصل له مكروه وهو في عهدتي، فأوّل شيء سيُقال عنّي هو إنّني أذيتُ أو تسبّبتُ بأذيّة إبن التي أخذًت مكاني. لكنّ شيئًا لَم يحصل وبقيَ أمير وسمَر يستمتعان بوقتهما بينما أهتمُّ بمَن ليس لي دخل فيه.
وذات يوم جاءَ أمير إليّ شاكيًا زوجته لي، وبدأَت دقّات قلبي تتسارَع ظنًا منّي أنّ زوجي كان قد أدركَ أخيرًا أنّ حبّه لسمَر لَم يكن سوى نزوة أربعينيّة وأنّني بالفعل حبّ حياته والمرأة المثاليّة بالنسبة له. لكنّني كنتُ طبعًا مُخطئة، فهو قال لي:
ـ لَم أعُد أطيقُ تذمّر سمَر... الأمر باتَ بغاية الإزعاج... عليّ التصرّف.
ـ ما الأمر يا أمير؟
ـ حضرة السيّدة سمَر تُريدُ العَيش في بلد آخر! تصوّري ذلك! لَم تعُد تُطيقُ البقاء في بلدنا. بالفعل عليّ التصرّف!
ـ ما عساني أفعل مِن أجلكَ؟ قل لي.
ـ أُريدُ منكِ أن تستقبلي إبننا سامر حالما نستقرّ في أوروبا.
ـ ماذا؟!؟
ـ لن يطول الأمر، أعدُكِ بذلك. لا تخافي، سأتكفّل بنفقاته كلّها! لقد اعتدتِ عليه وهو طفل لطيف وهادئ. ومَن يهتمّ بثلاثة أولاد لن يشعر بالفرق... أعلمُ مدى حبّكِ للأطفال.
ـ لا... لا أريدُ ذلك، أرجوكَ.
ـ ستقفين بوجه مُستقبل عائلة؟!؟ لَم أعهدكِ هكذا... أين المرأة التي عرَفتُها؟
كان يجدر بي الإجابة: "وماذا عن مُستقبلي الذي دمّرتَه، واستفادتكَ مِن طيبة قلبي وحبّي لكَ الذي لا أستطيع التخلّص منه؟". بدلاً مِن ذلك، إستشرتُ أولادي الذين فرحوا لفكرة وجود أخيهم معهم بصورة دائمة. قبِلتُ كالحمقاء شرط ألا يطول مكوث سامر أكثر مِن سنة. قبّلَني أمير على خدّي قبلةً قويّة وابتسَمَ لي الإبتسامة التي لطالما أحبَبتُها واشتقتُ لها، وسافَرَ مع زوجته.
بقيَ أمير على وعده لي، على الأقل في ما يخصّ إرساله للمال، لكنّه لَم يُطالب بابنه... أبداً! فمرَّت السنة ومِن ثمّ الثانية وتتالَت السنوات. كنتُ خلال ذلك الوقت قد اعتدتُ على سامر، وبدأتُ أعتبرُه إبني وهذا ما عوَّلَ عليه أمير لأنّه كان يعرفُني عن ظهر قلب.
كبُرَ سامر بعدما توقّفَ عن السؤال عن أبوَيه وصارَ يُناديني "ماما". للحقيقة، سماع تلك الكلمة مِن فمه كانت، وبطريقة ما، إنتصاري على التي أخذَت منّي زوجي. لكنّ تلك المرأة لَم تكن تُبالي، إذ أنّها أنجبَت ولدَين آخرَين ولَم تسأل عن بكرها يومًا. لَم أفهَم أبدًا كيف لأمّ أن تنسى ولدها هكذا في حين أنّني أحببتُ ابن غيري، لأنّني بالفعل أحببتُ سامر بعد أن كنتُ أشعرُ تجاهه بالغضب وشيئًا مِن الكره. لكن ما ذنبه إن كان أبوه وأمّه بلا مسؤوليّة أو عاطفة؟
تزوَّجَ أولادي الواحد تلوَ الأخر وبقيَ سامر معي في البيت. لَم نعُد بحاجة إلى مال أمير منذ فترة طويلة، لذا كنتُ أضَع ما يُرسله جانبًا مِن أجل إبنه مُعتبرةً أنّ ذلك المال مِن حقّه.
وذات يوم، عادَ أمير. وحين فتحتُ له الباب بالكاد عرفتُه لولا إبتسامته الشهيرة، وشعرتُ برغبة قويّة بطرده إلا أنّ سامر لحقَني إلى الباب وسألَ أمير مَن يكون:
ـ ماذا تُريدُ يا سيّدي؟
ـ أنا أبوكَ يا سامر! كَم أنّكَ كبرتَ! لقد أصبحتَ شابًّا وسيمًا.
ـ عذرًا سيّدي لكنّ أبي ماتَ عندما كنتُ صغيرًا... وكذلك أمّي... رحمها الله.
ـ ما هذا الكلام؟!؟ هل هذا ما قالَته لكَ زوجتي الأولى؟!؟
ـ أبدًا يا سيّدي... هذا استنتاجٌ شخصيّ... فليس مِن المعقول أن يتركَ أبوان وحيدهما ويُسافران بعيدًا لِمجرّد أنّه قد يُشكلّ عبئًا عليهما ولا يسألان عنه... لذا فهما حتمًا ماتا منذ زمَن بعيد.
ـ لَم نمُت لكنّ الظروف...
ـ كنتُ دعوكَ إلى الداخل سيّدي لكنّنا لا نستقبلُ الغرباء، أليس كذلك يا ماما؟
ـ ماما؟ تُناديها ماما؟
ـ بالتأكيد! فهي التي اهتمَّت بي وأعطَتني حمّامي وأطعمَتني وأخبرَتني القصص قبل النوم وواسَتني عندما كنتُ أبكي. هذا هو دور الأم وهي قامَت به على أكمَل وجه.
ـ لقد عدتُ يا سامر بصورة دائمة... أمّكَ الحقيقيّة وأخواك لا يزالون هناك.
ـ قلتُ لكَ إنّنا لا نستقبل الغرباء. أرجو منكَ المغادرة وعلى الفور وأنصحُكَ بعدَم العودة إلى هنا بتاتًا.
وأقفَلَ سامر الباب بوجه أبيه، ورأيتُه يرتجفُ مِن الغضب فعانقتُه وبكَينا سويًّا. ثمّ قال لي:
ـ ما فعلتِه مِن أجلي يا ماما ليس ضعفًا بل يتطلّبُ شجاعة لا مثيل لها وقدرًا مِن الحبّ غير مُتناهٍ... أنتِ بطلتي وليُقدّرني الله يومًا على مُعاملتكِ بالمثل.
حاورتها بولا جهشان