إنتابَني شعور بالقلَق يوم زرتُ أهل حبيبتي، وجلَستُ مع والدَيها في الصالون وبدأَت أمّها بالتكلّم معي. فتلك المرأة بدَت لي جريئة للغاية وتتحلّى بشخصيّة قويّة فوق العادة. أمّا بالنسبة لزوجها، فهو لَم يتفوّه إلّا ببضع كلمات، بينما كان ينظرُ إليها وكأنّه يطلبُ منها الموافقة على ما يقول. على كلّ الأحوال، هي لَم تترك له الفرصة بالكلام لأنّها، وبكلّ بساطة، لَم تسكُت. حاولَت وردة، حبيبتي، أن تقوم ببضع تدخّلات لكن مِن دون جدوى، فتابعَت أمّها لوحدها. سُئلتُ ألف سؤال، فشعرتُ أنّني في محكمة عُليا على رأسها قاضية عُظمى ستُحدِّد إن كنتُ أهلًا للزواج مِن "فلذة كبدها" أم لا. وحين خرجتُ مِن ذلك البيت، لَم أعُد واثِقًا مِن شيء، فخفتُ أن تبتلِعني أم وردة حين أصبح صهرها، أو تؤثِّر على ابنتها في ما يخصّ حياتنا الزوجيّة. شعرَت حبيبتي بقلَقي، وأخذَت تُطمئنني قائلة: "إنّها طيّبة القلب كثيرًا، وهذه مُجرّد حركات لإثبات نفسها أمامكَ ولتريكَ كَم هي تُحبُّني ومُتعلّقة بي". فالجدير بالذكر أنّ وردة هي ابنة وحيدة ومُدلّلة مِن قِبَل والدَيها.
تجاهلَتُ كلّ ذلك، وأخذتُ القرار بخطوبة التي كنتُ أحبُّها، وحذَّرتُ أهلي مِن أنّ التعامل مع حماتي سيكون صعبًا بعض الشيء. إبتسمَت والدتي قائلة: "صعبٌ عليّ؟ ألا تعرفُني؟ فالكلّ يُحبّني!". لكنّها تراجعَت يوم تعرّفَت على أمّ وردة، وفهِمتُ أنّ الأمور بين المرأتَين لَم ولن تكون كما أمِلتُ. فحماتي المُستقبليّة لَم تُحِبّ أمّي على عكس ما تصوّرَت هذه الأخيرة، بل أسمَعتها كلامًا مُبطّنًا مفاده أنّ علينا أن نكون ممنونين لها ولزوجها أنّهما قبِلا بي... وأشياءً مِن هذا القبيل. فعلَت والدتي جهدها للحفاظ على هدوئها، فقط لأنّها تعلَم كَم أُحِبّ وردة، لكنّها قالَت لي لاحقًا إنّها لا تُريدُ رؤية تلك المرأة إلّا عند الضرورة القصوى، كحفل الزواج ولاحقًا حين نُنجِب. حزنتُ كثيرًا لأنّني أردتُ العَيش وحبيبتي وسط مناخ عائليّ سليم ومليء بالحبّ والتفاهم. لكن إن كانت الظروف قد فرضَت هذا الواقع، فعلينا التماشي معه. وهكذا تزوّجنا ورحنا نعيش في شقّة ظريفة بالإيجار.
ولا أدري بأيّ سحر حصَلَ ذلك، لكنّ وردة استيقظَت في اليوم التالي وكأنّها شخص آخَر! فأوّل شيء قالَته لي حين فتحَت عَينَيها كان: "أين قهوتي؟ أين فطوري؟ ماذا تنتظِر؟!؟". في البدء لَم أفهَم تمامًا ما كانت تقوله ثمّ استوعَبتُ ما أرادَته فأجبتُها:
ـ لَم أفهَم... فطوركِ؟!؟
ـ أجل! أين فطوري؟ لقد اتّفقنا على أن تُحضِّره لي كلّ صباح!
ـ هذا لَم يحصل!
ـ ما بكَ؟!؟ هل أنّ ذاكرتكَ ضعيفة إلى هذا الحدّ؟!؟ أنتَ وعدتَني! أمّ أنّ ذلك كان فقط كلامًا معسولًا؟
للحقيقة لَم تُثِر وردة يومًا موضوع الفطور، لكنّها كانت بالفعل جدّيّة بما قالَته لدرجة أنّني رحتُ إلى المطبخ وحضّرتُ لها ما ارادَته ثمّ نادَيتُها لتوافيني، لكنّها صرخَت مِن الغرفة: "إجلِبه لي!". كنتُ على وشك أن أغضَب منها إلّا أنّني تداركتُ نفسي، فكنّا لا نزال في يومنا الأوّل ولا يجوزُ أن نتشاجَر. إبتسَمت لي زوجتي وعانقَتني قائلة: "هكذا أحبّكَ، فأنتَ أفضل زوج في العالم!". وبعد ذلك، وجَبَ عليّ الاستيقاظ باكرًا كلّ يوم لتحضير الفطور قَبل أن يذهب كلّ منّا إلى عمَله، وبقيتُ أُحاوِل تذكّر ذلك الحديث الذي لا أظنّ أنّه حدثَ على الاطلاق.
أهمَلَت وردة البيت لِدرجة أنّه أصبَحَ مكانًا لا يُعاش فيه. أعلَم أنّها إمرأة عامِلة وعليها أن ترتاح حين تعود مِن وظيفتها، لكن هناك حدودًا للإهمال! فمِن ناحيتي، كنتُ أُرتِّبُ أمتعتي بنفسي وأغسلُ ملابسي وأنظّفُ الأطباق التي أستعمِلُها، لأنّنا كنّا قد اتّفقنا قَبل الزواج على تقاسم المهام بهذا الشكل. إلّا أنّ زوجتي لَم تقُم بقسمها على الاطلاق، بل تركتُ أغراضها كما هي، فرفضتُ أن أصبَحَ خادمًا في بيتي وهي لَم تأبَه لشيء. إلى حين أخبرَتني زوجتي أنّها دعَت والدَيها وأمّي إلى العشاء في اليوم التالي. أيّ عشاء سألتُها، فهي لَم تطهُ منذ زواجنا، بل كان كلّ منّا يأكل في مكان عمَله، وفي المساء كنّا نتناول الأجبان واللحومات البارِدة، وهي أجابَت أنّنا سنطلُب الطعام مِن المطعم وحسب. ثمّ نظرتُ مِن حولي إلى الفوضى الموجودة في بيتنا، وخجِلتُ مِن الذي ستقوله أمّي عن زوجتي وتتساءَل كيف لي أن أقبَل بالعَيش هكذا، لِذا قمتُ بالترتيب والتنظيف إلى حين صارَ كلّ شيء جاهزًا كما يجِب. نظرَت وردة إليّ بفخر وعانقَتني قائلة: "كَم أُحبّكَ! فأنتَ أفضل زوج في العالمَ!". جرى العشاء بأقلّ قدر مِن التوتّر وحمَدتُ ربّي على ذلك.
تسألون أنفسكم لماذا بقيتُ ساكِتًا على ما يحصل، لكن اعلموا أنّني في ذلك الوقت كنتُ حقًّا سعيدًا مع زوجتي، فهي كانت تعلَم كيف تُسكتُني بِدلَعها وحركاتها الأنثويّة. فقلتُ لنفسي إنّني أفضِّل هكذا زوجة على أخرى تُنظِّف ليلًا نهارًا ولا تعلَم كيف تُعامِل زوجها. وكنتُ بالتأكيد مُخطئًا.
لَم تقبَل وردة أن تصبَحَ أمًّا، على الأقلّ ليس قَبل سنة كامِلة على الزواج. لَم أرَ مانِعًا بذلك، ففي آخِر المطاف كان ذلك قرارها إذ أنّها مَن ستحمَل وتلِد، وعليها أن تكون جاهزة. إضافة إلى ذلك، كنتُ قد تعلّمتُ أنّ وردة لا تفعَل سوى ما في بالها وحين هي تريدُ ذلك، فما النفَع مِن الإصرار؟ على كلّ الأحوال، كنّا مُنشغلين بمشروع شراء بيت جميل وبدأنا نجمَع المال له، إلّا أنّني كنتُ بالطبع أضَع المبلغ الأكبر جانبًا وهي قسمًا زهيدًا مِن راتبها، ألم أكن الرجُل وربّ العائلة القادِمة؟
لكن في مُعظم الأحيان، كنتُ أشعرُ بنوع مِن الوحدة الداخليّة المُزعِجة لَم أفهَم مصدرها. ألَم أكن زوجًا سعيدًا؟
وذات يوم جلَبَ أحَد أصدقائي كلبه معه لزيارتنا، وأخذتُ أُلاعِب ذلك الحيوان الظريف الذي أحبَّني كثيرًا لِدرجة أنّه قفَزَ عن الأرض وجلَسَ في حضني، وبدأ ينظرُ إليّ كما فقط الكلاب تفعل، أيّ بحبّ تامٍ وصافٍ لَم أختبِره مِن قَبل. وسكَنَني فجأة دفء عميق وصَل إلى قلبي، وفهمتُ كيف تكون فعلًا نظرات الحبّ. قد لا يفهمُ قصدي إلّا مَن ربّى كلبًا، لكنّني أؤكِّدُ لكم أنّ تلك التجربة لا تفوَّت. رحَلَ صديقي وكلبه، وبدأَت وردة بالتذمّر لأنّ ذلك الحيوان ترَكَ وبرَه على الأريكة، فصرختُ بها: "لماذا التذمّر؟ ألستُ مَن يُنظّف؟!؟ مِن فضلكِ لا تخربي عليّ فرحَتي!". هي لَم تفهم طبعًا عن أيّ فرحة أتكلّم، وخالَت أنّني أقصدُ زيارة صديقي لي، فسكتُّ. للحقيقة كنتُ غاضبًا لأنّني فهمتُ أخيرًا أنّ زوجتي لا تُحبُّني... بفضل ذلك الكلب ونظراته، وكم كان قلبي فارِغًا مِن قلّة الحنان. ثمّ قلتُ لزوجتي:
ـ لِماذا لا نأتي بِكلب؟
ـ ماذا؟!؟ إنّه حيوان قذِر!
ـ إنّه أفضل صديق للإنسان، يُحبّه مِن دون مُقابِل ويحميه بروحه.
ـ إيّاكَ أن تُثير الموضوع مُجدّدًا! لا أريدُ كلابًا في بيتي!
ـ في بيتنا، يا وردة.
ـ بل بيتي أنا! ألستُ سيّدة المنزل؟
ـ لِتستحقّي هذا اللقب عليكِ أن تتصرّفي كسيّدة منزل.
ـ حبيبي... هل تعلَم كَم أنّكَ رائع؟ تعالى إليّ.
ـ لا... لن تنجَحَ طريقتكِ هذه المرّة، فلا تُحَلّ المشاكل ببعض الكلمات الجميلة وعناقات زوجيّة.
ـ ماذا تقصد؟ أنتَ تعلَم كَم أُحبُّكَ.
ـ لا... للحقيقة لا أعلَم. كَم تُحبّيني؟
ـ لا فائدة مِن الكلام معكَ! أنا ذاهبة لزيارة أمّي!
بقيتُ جالِسًا لوحدي وأخذتُ أتذكّر نظرات ذلك الكلب لي، فابتسَمتُ مِن كلّ قلبي. متى كانت آخِر مرّة ابتسَمتُ فيها؟ ربّما يوم زفافي، لكن ليس بعده. ثمّ نظرتُ مِن حولي في البيت الذي أعيشُ فيه مع التي أحبَبتُها، فوجدتُه قبيحًا وحزينًا، لا روح فيه ولا بهجة. يا إلهي ماذا فعلتُ بنفسي؟ لقد جذبَني دلَع وردة وجمالها فتناسَيتُ أنّ الحبّ لا علاقة له بالشكل والحركات، بل بالتفاهم والتضحيات والتناغم بين روحَين. لكن مِن جهة أخرى، لَم تكن وردة تفعل أيّ شيء خطأ بكلّ ما للكلمة مِن معنى. صحيح أنّها لَم تكن تطهو أو تُنظِّف أو تُرتِّب أو تُريدُ الانجاب... مهلًا... ألَم تكن تلك الأمور أخطاء بِحَدّ ذاتها؟!؟
لَم أعُد أعلَم ماذا أقول لنفسي أو كيف أٌفكِّر، فطردتُ كلّ تلك الأفكار مِن رأسي، وحضّرتُ كوبًا مِن الشاي وشاهدتُ التلفاز إلى حين غرِقتُ في النوم. وبعد فترة لَم أعرف مدّتُها، سمعتُ وكأنّه صوت وردة وهي تتكلّم مع أحَدٍ همسًا على الهاتف، مع رجُل على ما يبدو، وتقولُ له أمورًا حميمة. فتحتُ عَينَي فوجدتُ زوجتي واقفة في المطبخ وظهرها لي. نادَيتُها، وحين هي وصلَت الصالون سألتُها:
ـ مع مَن كنتِ تتكلّمين؟ ومتى عدتِ؟
ـ أنا؟ لَم أكن أتكلّم مع أحَد، بل أٌحضِّر لكَ شيئًا لذيذًا يا حبيبي. لقد عدتُ منذ دقائق قليلة.
ـ أنتِ تُحضّرين لي شيئًا لذيذًا؟!؟ ومنذ متى؟
ـ ما دمتَ تتكلّم هكذا، فلَن أٌحضِّر لكَ شيئًا!
ـ مع مَن كنتِ تتكلّمين عبر الهاتف؟
ـ لا أحَد أقولُ لكَ، فلا بدّ أنّكَ كنتَ تحلُم، فقد وجدتُكَ نائمًا. أنا ذاهبة إلى الغرفة!
قمتُ مِن مكاني وقصدتُ المطبخ، وبالطبع لَم أجِد أيّ شيء قَيد التحضير. لكن بالرغم مِن ذلك، لَم أكن قادِرًا على الجزم بما يخصّ ما سمعتُه، هل كنتُ صاحيًا أم بالفعل نائمًا وحلِمتُ أنّ زوجتي تُغازِل رجُلًا آخَر؟ لكن آخِر شيء كنتُ أُريدُه هو أن أبدأ بالشكّ في وفاء وردة لي، فأقنَعتُ نفسي بأنّه كان مُجرّد حُلم ناتِج عن الأفكار التي كانت تدورُ في رأسي قَبل أن أغفو.
وافَيتُ زوجتي في الفراش... واعتذَرتُ لها على ما قلتُه، فعانقَتني وقالَت: "هكذا أُريدُكَ يا حبيبي... تعالَ".
لكن في الصباح، إستيقَظتُ وأنا على يقين أنّ هناك شيئًا مُريبًا يدور. هل أثِق بحالي أو بوردة؟ كان لا بدّ لي أن أجِد الجواب وبسرعة!