لا أدري كم من الوقت يلزم لمعرفة شخص جيداً. سنة؟ عشرة؟ العمر كلّه؟
خطبتُ مدحت سنة بكاملها وكنّا نرى بعضنا كلّ يوم قبل أن أتزوّج منه وأنجب منه ولدَين. أعلم أن لكلّ منّا ماضيه. ولكن ما اكتشفته من ماضي زوجي كان فظيعاً ومدهشاً في نفس الوقت.
كان لنا أنا وزوجي حساب مشترك على الفايسبوك نتواصل عليه مع أصحابنا وأقاربنا في المهجر. لم يكن "مدحت" مهتمّاً بالأمر، فكنتُ أنا التي تهتمّ بلمِّ شمل العائلة. وفي إحدى الأيام جاء على الـ inbox مكتوب غريب :
"مرحباً، أنا "وائل ق." أسكنُ في السنغال، وكنتُ أتساءل إنْ كنتَ "مدحت ق." الذي زار أفريقيا منذ 18 سنة وتزوّجت من "ثريّا م."؟"
لم أصدِّق عينيّ! مدحت كان متزوّجاً من قبل؟ لا... هذا لا يُعقل! لو كان هذا قد حصل فعلاً لكان أخبرني بالأمر. أخذتُ على عاتقي أن أجيب على هذا الشاب بنفسي:
"أنا آسف يا وائل ولكن لا بدّ من أنّك أخطأت بالشخص، فأنا لم أزر أفريقيا يوماً ولم أتزوّج من أحد هناك."
مرّت أيام على هذه الحادثة حين جاء مكتوب آخر من نفس الشاب:
"سيّد مدحت، أنا شبه متأكّد مما قلته في مكتوبي السابق، وها هي صورتك مع أمّي في يوم زفافكما. وأنا ابنك من "ثريّا"."
فتحتُ الصورة المرفقة ورأيتُ مدحت يُعانق امرأة بلباس عروس. أمعنتُ النظر لكي أتأكّد من هويّة الرجل. أجل، هو مدحت بكلّ تأكيد. بدأ قلبي يدقّ بسرعة. أقفلتُ الفايسبوك بسرعة وجلستُ أُفكِّر بما يحدث، ولكن كيف لي أن أُعالجُ الأمر؟ وَرَدَ على بالي أنْ أتّصل فوراً بزوجي وأسأله عن هذا الزواج، ولكنّي فضّلتُ الإنتظار إلى حين يعود من العمل.
وفي المساء جلسنا بعد العشاء نشاهد التلفاز. طلبتُ من الأولاد الذهاب للعب في غرفتهما وسألتُ مدحت:
- "كنتُ أفكّر في السفر هذه السنة. أودُّ زيارة أفريقيا. ما رأيك؟ هل سبق لكَ وذهبتَ إلى هناك؟"
- "لا أبداً. فأنا لا أحبّ تلك البلدان المجهولة. أفضِّل أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية. أرجوكِ لنذهب إلى روما، فأنا أعرفها جيّداً وأستطيع أن أُريكِ إيّاها."
لا أدري لماذا، ولكنّي لم أقلْ له شيئاً عن المراسلة على الفايسبوك. وفي اليوم التالي كتبتُ مكتوباً لـ "وائل":
"عزيزي وائل، أنا لستُ مدحت، أنا زوجته. أنا التي كتبتُ لك منذ البداية. لم أكن على علم بزواج مدحت السابق. لم أرد أن أُصدِّقك حتى رأيت الصورة. هل لكَ أن تزوّدني بكلّ ما لديك من معلومات حول الموضوع؟ شكراً."
لم يأتني الجواب إلاّ في اليوم التالي :
"سيّدتي، لا أريد أن أخلق مشاكل بينك وبين زوجك، ولكن لم يكن لي طريقة لأجده سوى الإنترنت. فأنا وأمّي كنّا نبحثُ عنه منذ سنين عديدة دون جدوى. لقد تركنا أبي عندما كنتُ رضيعاً. ذهبَ في ذات يوم إلى العمل ولم يعدْ. بحثتْ أمّي عنه في كلّ مكان ظنّاً منها أنّه قد تعرّض إلى حادث، ولكن في آخر المطاف تبيّن لها أنّه قد رحل بكلّ بساطة. عشنا بفقر كبير حتى أصبحتُ بعمرٍ يتيح لي أن أعمل وأجني بعض المال. صحّةُ أمّي تدهورت وهي الآن لا تُبارح الفراش. لا أريدُ شيئاً منه سوى أن أعلم لماذا تركنا هكذا بهذا البلد الصعب. ستجدين صوراً لنا معه مرفقة مع الرسالة."
غضبتُ جداً من مدحت عندما قرأتُ الرسالة. كيف يفعل هذا بزوجته وبإبنه؟ وفتحتُ الصور ورأيته يحضن زوجته وصبي صغير وعلى وجوههم علامات السعادة. بكيتُ جداً متخيّلة ماذا كان سيحدث لو فعل بنا هذا أيضاً. كتبتُ لـوائل:
"عزيزي وائل، أرجو منك أن تبعث لي وثيقة زواج مدحت بأمِّكَ وشهادة ميلادك. شكراً."
طلبتُ منه هذا ليكون عندي أدلّة عندما أواجه مدحت. كنتُ متأكّدة أنه سينكر الأمر، ولم أردْ أن أسمع أكاذيب. كفى أسرار!
أرسلَ لي وائل صورة عن المستندات التي طلبتها. واتّصلتُ بمدحت وطلبتُ منه أن يأتي فوراً لأن ابننا الصغير قد وقع وعلينا إحضاره إلى المستشفى. وصلَ إلى البيت بسرعة فائقة.
- "أين الصبي؟ هيّا بنا! ماذا تنتظرين؟"
- "غريب كيف أنك حضرت ببضعة دقائق!"
- "هذا ابني! كيف لا أجيء بسرعة؟ إنّه بحاجة لي!"
- "والإبن الذي تركته في افريقيا؟ ألم يقع هو أيضاً؟ ألم يكن يوماً بحاجة لك؟"
سكتَ مطوّلاً. جلس على الأريكة.
- "كيف علمتِ؟"
- "من ابنك وائل."
- "صحيح؟ كيف هو؟ أريته؟ أين هو؟"
- "لم أره. راسلني على الفايسبوك. ما زال حيث تركته في افريقيا. عار عليك ما فعلت به! عار عليّ انني تزوّجت من رجل مثلك!"
- "معكِ كلّ الحقّ..."
- "لماذا لم تقل لي شيئاً؟"
- "ماذا أقول لك؟ انني تركتُ زوجتي وابني وهربتُ إلى هنا! كيف كنتِ ستُحبّينني؟"
- "وهل تعتقد أني أحبّك الآن بعد معرفتي بالأمر؟ من أنتَ؟ هل أنتَ مدحت الذي تزوّجته أم مدحت الذي ترك عائلته في بلد غريب؟ أجبْ! من أنت؟؟؟"
- "أنا الإثنين معاً... صدّقيني حبيبتي. أنا لم أعدْ ذلك الرجل غير المسؤول."
- "هل ستتركنا أيضاً؟"
- "أبداً!!! لقد تعذّبتُ طوال سنين على ما فعلته بهما. لم يمرّ يوماً..."
- "أُسْكت! لو كنتَ فعلاً نادماً على فعلتك لذهبت إلى هناك وجلبتهما معك."
- "كنتُ أنوي فعل هذا، ولكن خفتُ من مواجهتهما. ماذا أقول لهما : مرحبا، أنا عدت؟ وقلتُ لنفسي انهما اعتادا على العيش هناك من دوني، وربما تزوّجت مجدداً من بعدي."
- "إنّها مريضة جداً، وعاشا بالفقر والقلّة كلّ هذه السنين. عليك فعل شيئاً بهذا الخصوص."
- ماذا تريدين مني أن أفعل؟"
- "ما يملي عليك ضميرك إنْ كان ما زال لديك ضمير. هذا اسم وائل على الفايسبوك."
- "لا تقسي عليّ أرجوكِ."
تركته جالساً وذهبتُ إلى غرفتي وأقفلتُ الباب ورائي.
في اليوم التالي جاء زوجي إلى غرفتي وقال لي : "أنا ذاهب إلى افريقيا". سُررتُ لهذا الخبر ولكن جعلته يُقسم أن يرجع لنا. فكما ترك عائلته السابقة، كان باستطاعته أن يتركنا أيضاً.
- "لا تخافي، أنا لستُ جباناً... أو بالأحرى لم أعد جباناً."
مكثَ هناك أسبوعين، وكان يُكلّمني من هناك بانتظام ليطمئنني. علمتُ منه أنّه قابل زوجته السابقة وابنه، واستقبلاه ببرودة أولاً. ثمّ كان هناك حواراً صريحاً بينهم جميعاً إعتذر من خلاله زوجي لهما وأخذ على عاتقه تسديد نفقات طبابة زوجته وتعليم ابنه. ووعدهم أن يزورهم من وقت لآخر. طلبتُ منه أن يرجع مع ابنه كي أراه وكي يتعرّف على أولادنا لأننا عائلة واحدة. سُرَّ وائل جداً لسماع هذا ووعدني أن يأتي حالما تتحسّن حال أمّه.
رجع مدحت من افريقيا مرتاحاً وسعيداً. أمسك بيدي وقبّلها وقال لي:
- أنتِ ملاك... أنتِ امرإة عظيمة. ما من زوجة ترضى أن يذهب زوجها إلى امرأة غيرها. أنتِ سبب سعادتي وسعادة هؤلاء. أنتِ ملاك!
- أنا لستُ ملاكاً، أنا أحبّكَ وأريد أن أفتخر بك، لا أن أخجل بك، وأريد أن يكبر أولادي مع حبّ الآخر والقلب الكبير والحنون. أستطيع الآن أن أقول أنني فخورة بك.
وجاء وائل ومكث عندنا مدّة شهر. فرح به الأولاد كثيراً رغم فرق العمر بينهم. وَعَدَنا أن يزورنا دائماً، ووعدناهُ أن يكون بيتنا دائماً مفتوحاً له ولأمّه.
حاورتها بولا جهشان