أحببتُ جواد من كل قلبي، وهو بادلَني حبّي، ولو كانت الظروف مختلفة، لقضينا باقي حياتنا سويّاً. ولكن حبّنا لم يكن ممكناً، لأنّني تزوّجتُ من رجل لا أحبّه بسبب غلطة إرتكبتُها قبل سنين.
فعندما كنتُ في الخامسة عشر من عمري، أخذَني أهلي عند خالتي لقضاء فرصة نهاية الأسبوع في بيتها في الجبل. كان الطقس مؤاتيّاً للإستمتاع بالمناخ النقيّ وللإسترخاء، فأخذنا أمتعتنا وقصدنا المكان. إستقبلَتنا خالتي بفرح وأخذَتنا إلى غرفنا وهناك رأيتُ لأوّل مرّة إبنها ربيع. لم أكن أعرفه لأنّه كان أكبر منّي بعشر سنوات وكان يدرس في الخارج. علمتُ أنّه أتى لزيارة ذويه وأنّه سيعود بعد أيّام إلى ألمانيا.
لا أعلم إن كنتُ قد أعجبتُ به فعلاً، لأنّني لم أكن أعرف آنذاك شيئاً عن الحب أو حتى الجنس، لأنّ أهلي كانوا أناس محافظين جداً ولم يروا الحاجة في إخباري عن أمور الحياة. ولو فعلوا لجنبّوا لي التعاسة التي أعيش فيها اليوم. لأنّ ربيع رأى فيّ البراءة والسذاجة التي كانت ستمكّنه من التلاعب بي لنيل مراده قبل رحيله.
فبعد أن وصلنا إلى بيتهم، أخذَ إبن خالتي بمرافقتي طوال الوقت بحجّة أنّه يعرّفني إلى المحيط وإصتحبَني إلى أماكن جميلة حتى أن إرتحتُ أخيراً له. لم أرَ فيه سوى القريب اللائق الذي يفعل ما بوسعه لترفيهي ولم يكن لأحد مانع بأن يقوم بدور الدليل الخاص بي. ولكن قبل مغادرتنا بيوم واحد، أخذَني ربيع في نزهة في البراري لنتفرّج على أنواع الورود والأشجار المجاورة. رحنا لوحدنا وحين وصلنا المكان، عرضَ عليّ الجلوس أرضاً معه. وحين فعلتُ، إقترب منّي وبدأ يداعب شعري ويقول لي أنّني جميلة وجذّابة وأنّه أُعجبَ بي من أوّل نظرة. وأحببتُ كلامه المعسول لأنّها كانت أوّل مرّة يقول لي أحد أنّني جميلة، فعندما قبّلني لم أمانع. شعرتُ بإحساس جميل ولكنّني خلتُ أنّ الأمور ستقف عند ذلك الحدّ. ولكن لم يكن في نيّة ربيع الإكتفاء بقبلة، فأخذ يلامسني. عندها إنتابَني شعور بالخجل وحاولتُ إبعاده عنّي، فقال لي أنّها أمور طبيعيّة تحدث بين الرجل والمرأة وبوجه خاص بين الأقارب وأنّها ليست أشياء معيبة. طلب منّي أن أثق به وأن أدعه يفعل لي أشياء جميلة. وهكذا إستسلمتُ له لا من باب الرغبة، بل بسبب جهلي وسنّي اليافع. وبعد أن إنتهى منّي قال لي:
- إيّاكِ أن تخبري أحداً بالذي حصل... قد يقتلكِ أبوكِ... سيظلّ هذا سرّنا الصغير نحن الإثنين.
عندها بكيتُ لأنّني أدركتُ أنّ ما فعلتُه كان غير مقبولاً وأنّني سأعيش مع سرّ أكبر منّي. وعدنا إلى المنزل ولاحظَت أمّي دموعي، فقال لها ربيع أنّني رأيتُ كلباً بريّاً وخفتُ منه. ضحكَ الجميع وأكملوا نهارهم. أمّا أنا فكنتُ كالضائعة وسط الفرح العائم وهمّي الجديد. وفي المساء عدنا إلى منزلنا وسافرَ إبن خالتي بعد يومين. تعذّبتُ كثيراً لأنّني كنتُ محتارة بين إخبار أمّي بالذي حصل والخوف من العقاب، فإخترتُ السكوت وبقيتُ أحمل لوحدي هذا العبء. ومرّت الأشهر والسنين وكان الزمن كافياً لنسيان تلك الحادثة ولو بعض الشيء ولكنّني أدركتُ خطورة وضعي، خاصة في عالمنا الذكوري والشرقي الذي يحاسب الفتاة على ماضيها ويسمح للشاب أن يختبر الحياة قدر ما يشاء.
لذا قرّرتُ أن أكرّس حياتي لتدريس تلاميذي الأحبّاء وإرضاء شعوري بالأمومة من خلالهم. فالزواج كان أصبح فكرة غير مقبولة بالنسبة لي وكذلك الحب.
ولكنّ الحياة لا تسير كما نخطّط لها وغالباً ما تلعب بنا كما تشاء. ففي ذاك يوم، إلتقيتُ بجواد صدفة عندما جاء ليأخذ إبن أخيه من المدرسة بدلاً عنه لأنّه كان مريضاً. وسألَني عن أحوال تلاميذي وتحدّثنا مطوّلاً عن الطرق التي تمكّنهم من التقدّم. وأصبحَ جواد يأتي يوميّاً تحت حجّة أنّ أخاه ما زال غير قادراً على المجيء ولكنّ الحقيقة كانت أنّه أقنعه بأن يجلب الصبي بدلاً عنه لكي يرى "الأستاذة الجميلة".
ومع الوقت أصبحتُ أنتظر قدومه بفارغ الصبر وعندما عرضَ عليّ أن نلتقي أسرعتُ بالقبول. وهكذا وجدنا أنفسنا مغرومين ببعضنا. ولكنّ فرحتي لم تكن كاملة وعدّة مرّات خطرَ على بالي أن أكفّ عن رؤية حبيبي لأنّني لم أكن قادرة على الإستمرار بالعلاقة. وعندما طلب منّي أن يأتي إلى بيتنا ويطلب يدي من أبي، قلتُ له لا. تفاجأ كثيراً بجوابي، لأنّه ظنّ أنّني سأكون سعيدة أن أعيش معه إلى الأبد. وعندما سألَني عن سبب رفضي كذبتُ عليه وقلتُ له:
- لا أظنّ أنّني أحبّكَ كفاية.
نظرَ إليّ بحزن دون أن يتفوّه بكلمة. ولم يعد يتّصل بي وأُصبتُ بإكتئاب شديد لدرجة أنّني بقيتُ أسبوعاً في السرير. وعندما عدتُ إلى المدرسة طلبَت المديرة أن تراني. وعندما أصبحتُ في مكتبها، قالت لي:
- كيف أصبحَت حالتكِ؟
- أفضل بكثير سيّدتي.
- ما الأمر؟ أتعلمين أنّكِ تستطعين إخباري بأيّ شيء؟ صحيح أنّني مديرتكِ ولكنّني إمرأة قبل كل شيء... وأعلم من نظرتكِ الحزينة أنّ هناك قصّة حبّ غير سعيدة... هل أنا على حقّ؟
- أجل سيّدتي... ولكنّني سأكون بخير
- هل تحبّينه؟
- أجل...
- وهو؟ أيحبّكِ؟
- جداً...
- ما المشكلة إذاً؟
- لا أستطيع إخباركِ... قد تأخذين فكرة سيّئة عنّي...
- لقد رأيتُ وسمعتُ أشياء كثيرة في حياتي وتعلّمتُ ألّا أحكم على الناس.
وأخبرتُها القصّة من أوّلها. سكتُت مطوّلاً، ثمّ قالت:
- الحل الوحيد هو أن تصارحي حبيبكِ... ربّما سيتفهّم وضعكِ... هذا إن كان فعلاً يحبّكِ... وإن لم يفعل فلا ضرر بذلك لأنّكِ تركتيه.
وشعرتُ أنّها على حق وأنّ عليّ المحاولة فمن يعلم؟ وقبل أن يتسنّى لي مصارحة جواد، حصل أمراً غير متوقّعاً: كان قد عادَ ربيع من المهجر وعلِم أنّني أواعد شاباً، الأمر الذي أثارَ غيرته. وبعد يومين على حديثي مع المديرة، رأيتُ ربيع ينتظرني خارج المدرسة. فوجئتُ كثيراً برؤيته وحاولتُ تجنبّه لأنّني كنتُ أشعر تجاهه بكره عميق. ولكنّه لحقَ بي ومسكَني بذراعي وأجبرَني على التحدّث معه. قال لي:
- لن تفلتي منّي... ولن يأخذكِ منّي ذلك الأحمق... هل يعلم ما حصل بيننا؟
- سأقول له كل شيء!
- لن يتسنّى لكِ الوقت لتفعلي! سأذهب الآن إلى أبيكِ وأقول له أنّ إبنته لم تعد عذراء... وعندما أعرض نفسي لأنقذ شرفكِ سيقبل فوراً... سترين!
- لماذا تفعل هذا بي؟ ألا يكفي أنّكَ خربتَ حياتي فيما مضى؟ ضحكتَ عليّ وإستغليّتَ سذاجتي... ماذا تريد بعد؟
- أنتِ لي ولي وحدي... أفعل ما أشاء بكِ... أنا أوّل رجل في حياتكِ وسأكون الأخير! أنا ذاهب لأبيكِ!
- لا! أرجوك لا تفعل! قلبه ضعيف وقد يقتله الخبر! سأفعل ما تريده...
وقبِل ربيع ألّا يقول شيئاً لأهلي شرط أن أتزوّجه وأذهب معه إلى ألمانيا ولم أستطع الرفض. ويوم زفافي كنتُ أحزن عروس في الدنيا وظنّ الناس أنّ الدموع التي كانت تنهال على خدودي، كانت بسبب الفرح. وسافرتُ مع ربيع وها نحن نعيش سويّاً منذ عشر سنوات. وما زلتُ أكرهه رغم أنّني أنجبتُ منه ولدَين ولن أحبّه يوماً. لقد أفسد حياتي كلّها وحرمني من الحب والسعادة. ولو كان مجتمعنا متفهّماً أكثر ما كنتُ سأقضي أيّامي سجينة إنسان بغيض مثله. وحسرتي الكبرى أنّ حبيبي جواد ظنّ أنّني لا أحبّه، خاصة بعد ما علِمَ أنّني تركتُ المدرسة لأتزوّج من غيره.
حاورتها بولا جهشان