لم تكن حياتنا سهلة بعد إصابة أخي وائل بالحمّى. فعندما إرتفعَت حرارته إلى حدّ خطير جداً نقلناه إلى المستشفى وقيل لنا حينها أنّ دماغه تأثّر بصورة دائمة. كنتُ صغيرة آنذاك ولم أدرك أبعاد هذا الخبر إلا عندما كبرتُ قليلاً ورأيتُ كم تعذّبَ أهلي بالتعامل مع فتى معاق عقلياًّ. وبالرغم أنّه كبِرَ جسدياًّ بقيَ تفكيره وتصرفاته كولد صغير. ولكننا لم نكفّ يوماً عن حبّه وإعتباره شخصاً مهماً في حياتنا. وكان أهلي قد قرّرا ألا نخفي عن أحد حالته لأننا لم نكن نخجل به ولأنّ ما حدث له ليس من ذنب أحد وخاصة ليس ذنبه.
ومع السنين لم أعد أحسب أنّ لدينا حالة خاصة في العائلة وعندما إلتقيتُ بمُحسن، الرجل الذي كان سيصبح زوجي، لم أخفي عنه إعاقة وائل بل أخذتُه إلى بيتنا وعرّفته إليه كما كنتُ سأفعل لو كان طبيعيّاً.
وتزوّجنا وكانت حياتي مليئة بالفرح والتفاؤل خاصة بعدما إكتشفتُ أنني حامل. لطالما أحببتُ الأطفال وأمنية حياتي كانَت أن أصبحَ أمّاً. وبدأنا نحضّر لمجيء الطفل فخصصنا له غرفة في البيت وفرشناها وزيّناها وإنتظرنا ولادته. ولكن بعد بضعة أشهر على حملي وحين ذهبتُ لأخضع لصورة صوتيّة كما يجري عادة قال لي طبيبي أن الجنين مصاب ب"متلازمة داون" أي أنّه سيكون عنده تأخير عقلي وملامح مختلفة عن باقي الأولاد ومضاعفات صحيّة.
وبعد أن بكيتُ كثيراً عند سماع هذا سألتُ الطبيب إن كنتُ أنا السبب فأجابني أنّ هذه الحالة تأتي من خلل في الكروموسومات أثناء تكوين الجنين ولا أحد يمكنه تنبؤ حدوث ذلك لأنّه ليس وراثيّاً. مكثتُ حوالي ساعة في العيادة أفكّر بالطريقة التي سأخبر بها مُحسِن وأتخيّل ما ستكون ردّة فعله. وذهبتُ إلى البيت أنتظر عودته إلى البيت من العمل. وحين دخل ورأى عيوني المتنفخة من البكاء عَلِمَ أنّ شيئاً فظيعاً قد حصل.
- ما الأمر؟ ما بكِ؟ هيّا تكلّمي!
أخذتُ نفساً عميقاً وأخبرته كل شيء. وأدهشتني جداً ردّة فعله:
- كان يجب أن أسمع من أمّي!
- ماذا تقصُد؟ ما دخل أمّك بالموضوع؟
- عندما قررتُ الزواج منكِ وعلِمَت بحالة أخيكِ نصحَتني بالعدول عن مشروعي. قالت لي أنّكِ ستولدين ولداً معاقاً.
- ولكن حالة الجنين ليست وراثيّة وأخي ولد طبيعيّاً وإعاقته سببها الحمّى! ما بالكَ؟
- لن أصدّق أنّها صدفة. لا بدّ من علاقة بين الحادثين. لن تقنعينني بعكس ذلك.
- ولكن الطبيب قال...
- كفى! كانت غلطة كبيرة.
وخرجَ من البيت ليذهب عند أمّه ويقول لها أنّها كانت محقّة وتركني لوحدي مع طفله في بطني. وعندما عاد في اليوم التالي قال لي دون أن ينظر إليّ:
- إذهبي وتخلصّي من هذا المسخ.
لم أتخيّل للحظة أن الرجل الذي تزوّجته يمكنه أن يكون يهذه القساوة والجهل. فالذي أسماه "المسخ" كان ولده ولا دخل له بما حصل له فهو ضحيّة خطأ تكويني وهذا لا يجعل منه شيئاً يتخلّص منه المرء بمجرّد أنّه ليس مثاليّاً.
ولكن من ناحية أخرى لم أكن متأكدّة إن كنتُ قادرة على التعامل مع حالة كهذه وإن كنتُ مستعدّة بأن أمرّ بما ذاقه أهلي مع أخي ناهيك عن شعور الولد نفسه عندما يلاحظ أنّه مختلف عن الباقي وصحّته التي ستكون مترديّة. فوجدتُ نفسي أمام معضلة حقيقيّة وكان عليّ أخذ قرار صعب فقصدتُ منزل جدّتي في ضيعة بعيدة لأفكّر مليّاً. إستقبلتني بفرح كبير وإستمعت إلى قصّتي التي رويتها لها وأنا أبكي. بعد أن إنتهيتُ من سردي لها قالت لي:
- هذا قرار يعود لكِ... لا أجرؤ على التأثير عليكِ بشيء... خذي وقتكِ فأنتِ هنا في بيتكِ... إمكثي هنا قدر ما تشائين.
وقضيتُ عندها أسبوعاً بكامله لم يتصل بي خلاله زوجي أبداً وكأنّه برفضه لولده كان قد رفضني أنا أيضاً وهنا فهمتُ كيف يكون شعور المرء عندما يُنبز ويتجاهله الناس وكأنّه ليس حتى موجوداً. يا للفرق بين مُحسن وبين أهلي الذين عاملا أخي بمنتهى الحب والحنان والإحترام رغم إعاقته! يُمكنني فهم خوف زوجي من مسؤولية تربية طفل مختلف ولكنني لم أفهم ولم أقبل موقفه منّي رغم أنني شرحتُ له أن علميّاً لا دخل لي. ولكن هناك أناس عديدين يبقون جهلة رغم دخولهم المدارس والجامعات.
وبعد عودتي إلى المنزل واجهتُ مُحسن بقراري إبقاء الجنين. سكتَ بضعة ثوان ثم قال لي بكل هدوء:
- حسناً... إذا كان هذا ما تريدينه... ولكنني لن أبقى...
- لن آسف عليكَ إن كنتَ لا تتحلّى بمعطيات الأبوّة فأنا أستطيع تربية الطفل لوحدي ولن آسف على إنسان يتخلّى عنّي في حين أكون بحاجة إلى دعمه. عُد إلى أمّك وإلى أفكارها المسبقة. أنا أمّ حقيقيّة لا تقتل جنينها لأنّه فيه خلل ما. سأحبّه كأنّه كأي طفل آخر وسأعتني به كما يجب. وحين أتعب أو تضيق الدنيا بي سأتذكّر تعب أمّي وتفانيها وآخذ منها القوة لأستمرّ. إذهب إلى حياة سهلة خالية من أيّ مسؤولية ولكن تذكّر أنّ لا أحد بمنأى من حادث أو مصيبة قد تحصل له وتجعله بحاجة إلى رعاية خاصة. هل يكون مقبولاً حينها أن يتخلّى عنكَ أقرب الناس إليك!
وفجأة كرجَت دموعه على خدّه وقال بصوت خافت:
- أنا خائف... جدّ خائف... من التعب والناس وكل الذي ينتظرنا...
- لا تخف فأنا هنا ولن يستطيع شيء أو أحد أن يطالنا إن كنّا عائلة متماسكة. سنتعلّم كيف نتعامل مع حالة داون وسترى كيف حبّنا لبعضنا سيعطينا القوّة لنستمرّ!
حاورتها بولا جهشان