حين استلَمتُ وزوجي عملَنا الجديد في المبنى، جِلتُ على سكّانه لأُعرّفَهم بنفسي وأعرضُ عليهم خدماتي كزوجة ناطور. كنتُ في الثالثة والعشرين مِن عمري، ولَم أكن أعرفُ بعد مدى الأذى الموجود في العالم، إلا أنّني كنتُ سأشهَد على قساوة قلوب أولاد تجاه أمّهم. وأستطيع القول إنّ ما جرى قد غيَّرَ نظرَتي إلى بني جنسي إلى الأبد.
الناس الذين أتكلّمُ عنهم سكَنوا الطابق الثالث سنوات طويلة قبل قدومي، فالمبنى كان قديم للغاية ويقَع في شارع ضاقَ مع الوقت بسبب العمار الذي حدَثَ فيه، وكثرة السيّارات التي صارَت تركنُ على جانبَي الطريق. كانت تلك العائلة مؤلّفة مِن الأب والأمّ وأربعة أولاد تخطّوا جميعًا الثلاثين مِن عمرهم. لَم يتزوّج أيّ منهم لأسباب مجهولة عنّي، فالبنات والشاب كانوا كاملي الأوصاف ومُتعلّمين. وحده الأب كان على ما يبدو يفتقدُ للعِلم والثقافة وحتى التهذيب، فهو كان يقضي وقته بالصراخ على زوجته ويشتمُها تحت أيّ ذريعة، وكانت المسكينة تبقى صامتة أمام هذا الكمّ مِن العنف المجّاني. أعلمُ ذلك مِن الذي كنّا نسمعه خاصّة ليلاً حين كانت تهدأ حركة المرور. أسفتُ مِن أجل الزوجة، السيّدة سامية، لأنّ لا أحد مِن أولادها كان يُدافعُ عنها أو يُحاول ردّ الأب عنها.
وحصَلَ أن ماتَ ربّ تلك العائلة بعد سنتَين على قدومنا المبنى، وأعترفُ أنّني شعرتُ بشيء مِن الراحة نيابةً عن زوجته التي كانت ستعيشُ أخيرًا بكرامة بعيدًا عن الإهانة اليوميّة. أقاموا له مأتمًا ولبسَت سامية الأسود كما تجري العادة. بعد فترة، تزوّجَت أخيرًا إحدى البنات ورحَلت إلى بيتها الجديد، وبقيَ ثلاثة برفقة أمّهم.
قد يظنُّ القارئ أنّ الأحوال هدأَت بعد موت ذلك الطاغي، إلا أنّ الإبن أخَذَ مكان أبيه في توبيخ أمّه على كلّ صغيرة. إنتابَني غضبٌ شديدٌ فقرّرتُ أن أتصرّف.
في أحد الأيّام، قرعتُ باب سامية بعدما ذهَبَ أولادها إلى أعمالهم، وعرضتُ عليها أن أساعدها في الأشغال المنزليّة بعدما لاحظتُ مرارًا أنّها كانت الوحيدة الموكلة بهذه المهام. رفضَت السيّدة عرضي فبقيتُ مُصرّة لِدرجة أنّني أخبرتُها أنّني لا أريدُ أجرًا. عندها غيَّرَت هي رأيها واتّفَقنا على مواعيد عمَلي. كنتُ بذلك أُريدُ التخفيف من مُعاناتها قدر المستطاع وأن تشعُرَ بأنّ هناك مَن يسألُ عنها.
عمَلي لدى سامية لَم يكن شاقًّا واعتبرتُه تسلية لي، فلَم أُنجِب بسبب مُشكلة لدى زوجي وكنت أنتظرُ أن ينجحَ علاجه وإلا رضَختُ لمشيئة الله.
تفاجأتُ بردّة فعل أولاد سامية لدى معرفتهم بأنّني سأُساعدها، فبدلاً مِن أن يفرحوا لها، هم عاتبوها ونعتوها، أمامي، بالكسولة. هدأَت حالهم فور معرفتهم بأنّهم لن يصرفوا قرشًا عليّ، لكنّهم لَم يكفّوا عن تسمَيتها بـ"غير النافعة". أحَببتُ طبعًا أن أُسكِتهم، إلا أنّ سامية أشارَت لي بيِدَها بألا أفعَل.
صرِتُ أقصدُ سامية كلّ يوم تقريبًا لمدى ساعة على الأكثر، ونجلسُ سويًّا نشرب القهوة وهي تروي لي كيف أنّها مِن عائلة مُقتدرة لكنّ أهلها قطعوا إتّصالهم بها عندما اختارَت زوجها، وهو إنسان لا منفعة منه على الإطلاق وذو طبع حاد. لَم يحرمها أهلها مِن الميراث بل هي لَم تُطالب بحقّها بعد موت أبيها كي لا يعلموا في أيّة حال هي.
بقيَ أولاد سامية يُعاملونها بقسوة كلّما أُتيحَت لهم الفرصة، وسألتُ نفسي عن السبب ولَم أجِده. أظنُّ أنّهم حذوا حذو أبيهم ورأوا أنّ أمّهم لا تتحلّى بشخصيّة قويّة لا بل العكس. هل كانت هكذا منذ البدء أم أنّ زوجها حطّمَها على مدى السنوات؟ لستُ أدري، إلا أنّها كانت تتحمّل الإهانات بصمت، وأرى في عَينَيها دموعًا حبسَتها كي لا تسمَع المزيد مِن الشتائم.
عمَلي لدى سامية ولَّدَ لدَيّ نوعًا مِن الإحباط، الأمر الذي لاحظَه عليّ زوجي فحاولَ إقناعي بالكفّ عن الذهاب إلى الطابق الثالث. كنتُ أودُّ لو أُريحَ أعصابي لكنّني رفضتُ التخلّي عن سامية.
بعد حوالي السنة، تزوّجَ إبن سامية وجلَبَ زوجته إلى البيت لتعيش معهم قائلاً لأمّه:
ـ لا تتفوّهي بكلمة! فتلك مكان أختي، أيّ أنّ لا شيء تغيَّر! أفهمتِ؟ ولا تنظري إليّ بعَينَين دامعتَين، فلن يُجدي ذلك. أدفعُ معظم راتبي على البيت إذًا هو لي وأفعلُ فيه ما أشاء!
وكالعادة لَم تُجِب أمّه وبقيَت صامتة تُنفّذُ ما تُؤمَر به.
مِن الجيّد أنّ سامية أعطَتني مفتاحًا لبيتها وإلا كيف كنتُ سأركضُ لإغاثتها يوم وقعَت واتّصلَت بي صارخةً مِن الوجع؟ أغرَب ما في الأمر أنّ كنّتها كانت في الغرفة المُجاورة إلا أنّها ادّعَت أنّها لَم تسمَع شيئًا. كان مِن الواضح أنّ إبن سامية قد تزوّجَ مِن إمرأة تُشبهه تمامًا. طلبتُ لسامية الإسعاف واتّصلتُ بابنتَيها لاخبارهما عمّا حصَل، ولتذهبا إلى المشفى حيث أُخِذَت أمّهما. قالَت لي إحداهنّ:
ـ يا إلهي! ألن تنتهي متاعب أمّي؟!؟ لدَيّ عمل ولستُ بصدد تركه مِن أجل هكذا تفاهات.
لَم أُصدِّق ما سمعتُه، فالأخت الأخرى، الأقل وقاحة، أكدَّت لي أنّها ستقصدُ المشفى بأسرع وقت إلا أنّني لَم أصدّقها. لِذا رحتُ أنا وجلستُ مع سامية طوال الوقت. أمّا الإبنة المتزوّجة، فهي لَم تُجِب على مكالمتي بالأساس. لَم يأتِ أيّ مِن أولادها أو الكنّة بل انتظروا رجوعها إلى البيت. بالكاد دفَعَ الإبن فاتورة الإستشفاء وعادَت أمّه إلى مسكنها ورجلها بالجبس وجسدها مُغطىً بالكدمات.
خَدَمتُ سامية قدر المستطاع وهي لَم تكفّ عن شكري وتمنَّت لو كنتُ إبنتها بدلاً مِن هؤلاء الأولاد العاقين.
لكنّ وقعة سامية لَم تؤذِ فقط جسدها بل أيضًا نفسيّتها، فهي صارَت أكثر صمتًا مِن قَبل وبالكاد تبتسمُ، حتى عندما أُحاولُ إفراحها ببعض الأخبار المُضحكة. شعرتُ بأنّ شيئًا خطيرًا قد أصابَها إلا أنّني لَم أُقدِّر مدى تلك الخطورة. بكلمة، سئمَت سامية مِن حياتها بعد أن عاشَت أكثر مِن ثلاثين سنة بالذل والشتائم والإهانات.
كنتُ مَن وجَدَ سامية ميّتة أو بالأحرى مشنوقة في سقف غرفتها وإلى جانبها كرسيّ مقلوب. على الطاولة الصغيرة كتبَت رسالة صغيرة تقولُ فيها: "أُريدُ أن أرتاح". كادَ أن يُغمى عليّ لكنّني تماسكتُ نفسي واستطعتُ قرع باب غرفة الكنّة التي، كعادتها، لم تسمَع شيئًا. أخبرتُها ما جرى وهي صرخَت: "ميّتة؟!؟ مشنوقة؟!؟ يا إلهي... إياكِ أن تطلبي منّي أن أراها، فهذا الأمر مُقزِّز للغاية!"
بكيتُ كلّ دموعي وسألتُ نفسي إن كنتُ قد أهملتُ الأشائر التي دلَّت على نيّة سامية بالإنتحار. طمأنَني زوجي بأنّني لستُ طبيبة نفسيّة وأنّ ما حصَلَ هو فوق قدُراتي.
بالكاد كان هناك عشرة أشخاص في مأتَم سامية، فعائلتها كانت قد عزلَتها عن الناس للإستفراد بها واستغلالها. شيء واحد عزّاني وهو أنّها ارتاحَت مِن هؤلاء القوم إلى الأبد.
علِمتُ أنّ أولاد سامية أوكلوا مُحاميًا للمُطالبة بميراث أمّهم بعد الجنازة بأيّام قليلة، واكتشَفتُ سبب لا مُبالاتهم بسامية، فهم أرادوها ميّتة ليقبضوا المال.
إلا أنّ هؤلاء الماكرين أُصيبوا بخَيبة كبيرة حين علِموا أنّ أمّهم كانت قد تنازلَت سرّيًّا وقانونيًّا عن ميراثها لصالح جمعيّة خيريّة، وذلك منذ سنوات عديدة. عندها سمعتُ الصراخ والشتائم الموجّهة للمرحومة، وكأنّها كانت قد أخذَت مالهم وليس مالها.
بعد فترة، قصدتُ تلك الجميعّة الخيريّة وطلبتُ رؤية المدير. بكلمات قليلة أطلعتُه على ظروف موت سامية، وطلبتُ منه أن يُقيمَ الصلوات عن نفس التي أعطَت للمؤسّسة ميراثها. تأثَّرَ الرجل كثيرًا واتّفقنا على موعد جمَعَ فيه كلّ العاملين والمُستفدين. أقيمَت الصلوات بحضوري، وطلَبنا جميعًا مِن الله غفرانه لسامية لأنّها أخذَت حياتها بنفسها ودعوناه ليرحمها بمحبّته اللامُتناهية.
هل ما فعلتُه مِن أجل سامية هو الذي شفى زوجي؟ لستُ أدري إلا أنّني وجدتُ نفسي حاملاً بعد فترة قصيرة وأنجبتُ ولدًا جميلاً. وإن لحقَت به إبنة فسأُسمّيها سامية طبعًا.
وفي أوّل فرصة تقدَّمَت لنا، ترَكنا ذلك المبنى المشؤوم كي لا أرى يومًا وجوه قاتلي سامية.
حاورتها بولا جهشان