قد يظنّ المرء عندما يراني أركض أنا وأولادي في باحة المطار نحو بوّابة الصّعود إلى الطائرة، أنّني هاربة مِن زوج طاغٍ كما يحصل في غالب الأحيان. ولكن في حالتي لم يكن الظلم آتيًا مِن غريب بل مِن أقرب الناس إليّ: عائلتي.
لا نختار أهلنا ولا هم يختاروننا، وكم مِن الصعب التعايش عندما تُفتَقد الإلفة أو المحبّة والتفاهم بين أفراد العائلة.
وُلِدتُ في بيئة صعبة لدَيها تقاليد قديمة وصارمة، لا تحترم المرأة إلا إذا تزوّجَت وابتعدَت عنها وأراحَتها مِن مصيبتها. وكلّما كان زواجها ناجحًا مِن الناحيّة الماديّة أو الإجتماعيّة كلّما رضيَ عليها ذووها. فمنذ أطلقتُ صرختي الأولى وفتحتُ عينيَّ على هذه الدنيا، كان مصيري معروفًا وبدأت تهيئتي لمهمّتي الوحيدة: أن أصبح زوجة ولاحقًا أمًّا.
وبالطبع لم يكن مِن الضروري أن أدخل المدرسة، فحسب قول أمّي "الزيجة لا تتطلّب سوى تدريب جيّد على التنظيف والطبخ والطاعة المطلقة للرجل". لكنّ الدولة كانت تفرض على الأهل إدخال اولادهم المدرسة على الأقل حتى الصفّ التاسع، لذا حظيتُ بسنوات قليلة مِن العلم والنور. ولكن سرعان ما نزَعوني عن مقاعد الدراسة لرميي في أحضان "الزوج اللقطة"، أي نبيه الذي عادَ إلى البلد مِن الولايات المتحدّة بحثًا عن عروس يأخذها معه. وأصبحتُ فجأة محبوبة العائلة، وتوقّفَت الإهانات وأيضًا التعنيف الذي كنتُ أتلقّاه مِن أبي وأمّي وأخوَتي على كلّ صغيرة وكبيرة. نعم، توقّفوا عن قهري لأنّ نبيه كان ثريًّا ودفَعَ الكثير ليحصل عليّ.
لم أحبّه لأنّه كان يكبرني بسنوات كثيرة وكان قبيحًا. ورفضتُه طبعًا فاضطّر أهلي لإفهامي، على طريقتهم، أنّ عليّ القبول به. أي أنّهم إنهالوا عليّ بالضرب حتى لم أعد أستطيع المشي أو الجلوس. عندها أدركتُ أنّ مهما كان ينتظرني مع نبيه فسيكون ألطف مِن الذي أنا فيه. وتزوّجتُ وقلبي مليء بالأمل. وعند لحظة الوداع، وبالرّغم مِن الإبتسامات والدموع والدعاءات بالتوفيق، لم أرَ الحبّ في عيون أيّ منهم.
وأخَذَني نبيه إلى بيته في كاليفورنيا فأحببتُ البلد وناسها، على الأقلّ قبل أن أستَوعب أنّني سأبقى سجينة المنزل لأقوم بالواجبات التي جاء بي زوجي مِن أجلها: خدمته وإنجاب الذريّة له. فبعد أن أراني نبيه بعض معالم المنطقة وأخَذَني إلى مطعم أو إثنَين، نسيني في الفيلا الجميلة التي يملكها وعادَ إلى أعماله. ولم يكن يتذكّرني إلا عندما تطلبني نفسه، حتى أنّه لم ينَم في الغرفة نفسها معي "لأنّ البيت كبير وعلى أحد أن يشغل الغرف".
في البدء ذُهِلتُ بمسكني الجديد وبالسيّارات الجميلة، خاصة أنّني آتية مِن عائلة فقيرة، ولكنّني لم أذق طعم السعادة. كان زوجي يغيب النهار بطوله وقسماً كبيراً مِن الليل. وفي تلك الأثناء كنتُ أهتمّ بالبيت والطعام الذي كنتُ آكله لوحدي وأشاهد التلفاز. كانت تأتي عاملة مرّتَين في الأسبوع لترتيب المنزل، وكانت تلك المرأة الإنسانة الوحيدة التي أتبادل معها الكلام.
وعندما اشتكَيتُ لزوجي مِن وحدَتي قال لي:
ـ أنظري حولكِ... أكنتِ يومًا تحلمين بهكذا حياة؟
ـ لا ولكن...
ـ ولكن ماذا؟ إنتشَلتكِ مِن الفقر وتتذمّرين؟ مئة فتاة كانت بانتظار لفتة منّي...
ـ ولكنّكَ تهملني.
ـ أعطيكِ المال!
ـ وأين سأصرفه؟ فأنا لا أذهب إلى أيّ مكان! طلبتُ منكَ أن أخرج قليلاً ولكنّكَ قلتَ لي إنّ مكان المرأة هو في بيتها... على الأقل إبقَ معي في البيت!
ـ لا تملي عليّ ما يجب أن أفعله! لم آتِ بكِ لتغيرّي حياتكِ بل...
ـ بل؟
ـ كفى جدلاً! ربمّا أخطأتُ الإختيار.
وحملتُ بأوّل ولد ومِن ثم بالثاني ومِن بعده بالثالِث. صحيحٌ أنّهم ملأوا حياتي وأنسوني وحدَتي بعض الشيء، إلا أنّ قلبي بقيَ حزينًا طوال الوقت.
وكان الوضع سيستمرّ على ذلك النحو لولا حدث مفاجئ. فذات مساء عاد نبيه إلى البيت وقال لي بكلّ بساطة:
ـ لم أعد أريدكِ... أنتِ مملّة وكنتِ شؤماً عليّ... فمنذ تزوّجتكِ وأعمالي تراوِح مكانها والسّبب هو أنتِ، فلطالما كانت تجارتي ناجحة.
ـ ما هذا الكلام السّخيف؟ وماذا تعني بـ ِ"لم أعد أريدكِ؟". وهل أنا غَرَض تسأم منه وترميه بكلّ بساطة أو تردّه إلى حيث ابتعتَه؟ أصبحتُ مواطنة أميركيّة ولدَيّ حقوق!
- ليس لديكِ شيء! ستوافقين على الطلاق ولن أعطيكِ قرشًا واحدًا... وإن وقفتِ بطريقي سآخذ منكِ الأولاد... سأدفع للعاملة مبلغًا كبيرًا لتشهد أنّكِ تأتين بعشاقكِ إلى البيت خلال غيابي وتتعاطون سويًّا الممنوعات، وسأحصل على الحضانة بكلّ سهولة... ما رأيكِ الآن يا شاطرة؟
ولأنّني كنتُ أعلم أنّ زوجي قادرٌ على تنفيذ تهديده، قبلتُ أن أغادر مع أولادي إلى بيت أهلي فارغة اليدَين. وهناك المصيبة! ففور دخولي البيت، إنهالَت عليّ الضربات والشتائم، ليس فقط لأنّني تطلّقتُ، بل لأنّ المال الذي كنتُ أبعثه لهم أنقطَعَ فجأة.
وتحمّلتُ كلّ ذلك بشجاعة مِن أجل أولادي. وكان المساكين يصرخون ويبكون كلّما رأوني أُضرَب، وكنتُ أخشى أن يُهانوا بدورهم بعدما رأيتُ نظرات الحقد تجاههم. وأبشع ما في الأمر هو أنّ أمّي كانت تتلذّذ بأذيّتي وكأنّني عدوّتها، ولم أفهم سبب هذا الغضب، فأنا لم أفعل لها شيء ولطالما كنتُ فتاة مطيعة لا مشاكل لها ولا طموحات.
ولِسخرية القدر، أعطَتني ومِن دون أن تعلم والدتي، الحلّ لوضعي المأساويّ. حصَلَ ذلك عندما كانت تشتمني وتهينني كعادتها حين قالت لي:
ـ يا أميركيّة أنتِ! تعتَبرين نفسكِ أفضل منّا؟ أين هم أصحابكِ الأمريكيّون الآن؟ هل بإمكانهم مساعدتكِ؟ هههههه!
وفي صباح اليوم التالي، تحَجَّجتُ بالذهاب إلى طبيب الأسنان بعدما ادّعيتُ ألمًا رهيبًا في أسناني، لأركض إلى السفارة الأميركيّة في العاصمة حاملة باسبوري. وهناك أرَيتهم كدماتي وأخبَرتهم قصّتي مِن أوّلها. ولأنّني مواطنة أميركيّة، وجبَ عليهم مساعدتي. فاتصلوا بجمعيّة لحماية النساء المعنّفات، ودبرّوا لي موعدًا مع المسؤولة في حَرَم السفارة. وعدتُ لزيارة "طبيب الأسنان" مرّات عدّة إلى أن دبّرَت لي السفارة ملجأً في الولايات المتحدّة وتذكرة سفر لي ولأولادي. وكان كلّ ما تبقى عليّ الخروج مِن بيت أهلي بدون عوائق. كنتُ خائفة جدًا، لأنّني كنتُ أعلم أنّهم لو علِموا بأمر هروبي لن يتأخّروا عن قتلي. فقد كان أهلي مِن دون أيّة رحمة.
جمعتُ أولادي وأطلعتَهم على الوضع، وجعلتُهم يحرصون على إبقاء أمر هروبنا سرّيًّا. كنتُ واثقة منهم لأنّهم كانوا يكرهون العيش حيث هم، بسبب الأجواء البشعة التي كانت تسود البيت. وأخبرتُهم أنّنا لا نستطيع أخذ أيّ شيء معنا كي لا نلفت الإنتباه.
ودرّبتُ إبني الصّغير على ما عليه فعله في اليوم المحدّد لرحيلنا إلى المطار، ودرّبت الآخرين على كيفيّة مساندته لإنجاح الخطّة. تلك الليالي لم أنَم حتى جاء ذلك الصباح المهيب. أيقظتُ أولادي وقلتُ لهم:" الآن!"
وصَرَخ صغيري مدّعيًا الألم وممسكًا بطنه، وجهّزَ ولَدايَ الآخران نفسهما للتظاهر بالدّوخة والتقيّؤ. وركَضَت أمّي لترى ما يحصل فقلتُ لها:
ـ أنظري إليهم! لا بّد أنّهم التقطوا فيروسًا! الصّغير بحالة مزرية ولقد نقَلَ العدوى إلى أخَوَيه! إقتربي وانظري بنفسكِ.
ـ لا! أبعديهم عنّي! خذيهم بعيدًا، فمناعتي محدودة!
ـ معكِ حق... عليّ أخذهم إلى المشفى... سأطلب سيّارة أجرة... هل أنتِ متأكّدة من أنّكِ لا تريدين المجيء؟
ـ جدّ متأكّدة! هيّا! إرحلوا!
كنتُ أعلم أنّها لن ترضى بمرافقتي خوفًا مِن العدوى، فلم تكن تحبّهم وكان وجودهم عبئًا عليها.
وركضتُ بأولادي إلى المطار حيث كان ينتظرنا ممثّل السّفارة. أعطاني بعض المال وعناوين مهمّة ودعا لي بالتوفيق. وبقيتُ ألتفِت مِن حولي حتى أصبحنا في الطائرة وأقلعَت بنا. وحين حطَّت في مطار الولاية التي قصدناها والتي تبعد ألاف الكيلومترات عن زوجي السّابق، عادَت إليَّ البسمة لأنّني شعرتُ أخيرًا بالأمان. وقصدنا الملجأ ومكثنا هناك أسبوعَين. إشتروا لنا الملابس وكلّ ما يلزمنا وأعطوني مالاً قبل أن أنتقل مع أولادي إلى شقّة صغيرة. وباشرتُ العمل في سوبر ماركت قريب ودخل أولادي المدرسة.
وبعد بضعة أشهر، تسجّلتُ بدوري في مدرسة لمتابعة عملي. إنّني أجد بعض الصعوبة في متابعة الدروس، ولكنّني لن أستسلم بعدما أعطَتني الحياة فرصة ثانية.
حاورتها بولا جهشان