يوم إنتقلنا إلى شقّتنا الجديدة أدركتُ ضخامة المبنى والعدد الهائل لسكّانه. كنتُ معتادة على سكننا القديم، حيث كنّا ثمانية عائلات فقط، أمّا هنا فكانت تجتمع ما لا يقل عن أربع وعشرين عائلة. عندها قررتُ أن الإبتعاد عن باقي السكان هو أفضل حلّ، تفادياً للمشاكل والتدخّلات التي يمكن أن تحصل في حياتنا الخاصة. ولكن لم أكن أدري أنّ للمبنى قواعد وقوانين خاصة جداً، وأنّ على كل من يسكن فيه إتباعها وإلا...
كل شيء بدأ حين أتَت نجلاء رئيسة اللجنة لزيارتنا ولترحّب بقدومنا. وصلَت ومعها سلّة مليئة بالحلويات ووجدتُ هذه اللفتة لطيفة جداً. مكثَت حوالي نصف ساعة، سألَت خلالها أسئلة كثيرة عن عمل زوجي وعملي وأحوال أولادنا في المدرسة. وحين رأت أنني بدأتُ أنزعج من هذا التحقيق إبتسمَت وقالت:
- أنا آسفة إن بدوتُ متطفّلة ولكننا نحبّ أن نعرف جيّداً من يسكن معنا... فنحن عائلة كبيرة ولزمَنا وقتاً طويلاً لتأسيس نوع من الإستقرار الدائم... لا تخافي، ستعتادين على الوضع...
في الحقيقة لم أفهم قصدها تماماً ولم أسأل. وتابعنا حياتنا في مسكننا الجديد، وكنتُ جدّ سعيدة بكبر الشقّة وبالديكور الذي تعبتُ عليه. وبعد فترة قصيرة، دقّ جار لنا بابنا وبعد أن عرّف عن نفسه طلب أن يتكلّم معي بشأن شراء سيّارة من المؤسسة التي أعمل بها. سررتُ جداً أن أكون الوسيطة في بيعة كهذه وسألتُه من بعثه إليّ فأجاب:
- رئيسة اللجنة بالطبع... نحن أعضاء عائلة واحدة ونحاول دائماً جعل أفرادها أوّل المستفيدين.
وعملتُ على بيعه السيّارة التي إختارها وأعطيته سعراً خاصاً كونه جاري. وفهمتُ كيف تجري الأمور في هذه "الخليّة" الكبيرة فكان هناك من جميع المهن والإختصاصات: كان لدينا طبيباً ومحامياً وسنكرياً ودهّان وهلمّ جرّى. وكان هناك نوعاً من إكتفاء ذاتي للمبنى وكأنّه دولة صغيرة تترأسها نجلاء وتديرها بشكل جيّد جداً.
زوجي كان مسروراً بهذا الوضع خاصة أن عمله في المحكمة كان يأخذ معظم وقته، ولم يكن لديه الإمكانيّة للركض وراء عمّال الصيانة، فعندما يتعطّل شيء عندنا، كل ما كان عليه فعله هو الإتصال بأحد جيراننا وكانت المسألة تُحل بأسرع وقت. أمّا بالنسبة لي، فكنتُ قد وقعتُ على كنز: كل من أراد من السكان مركبة جديدة، كان يأتي إليّ أو يرسل لي أقاربه وأصدقائه، حتى أنني حصلتُ على تهنئة من مدير المؤسسة وعلاوة لمكافأتي.
ولكن لكل شيء ثمن، وفرحتنا كان لها مقابل وإكتشفنا ذلك بعد سنة تقريباً، حين دُعينا إلى إجتماع عام في شقّة نجلاء. كان الكل موجوداً وكانت الأجواء رسميّة جداً. وبعد أن جلس الجميع، أخذَت الرئيسة تتلو علينا إنجازات اللجنة للعام الفائت وتطلّعاتها للعام القادم. ثم شكرَت بعض الأشخاص وأنّبَت آخرين وجاء دورنا:
- أودّ أن أعبّر عن فرحتي لوجود جيران جاؤوا من سنة وأثبتوا جدارتهم بالإنتماء هنا... وهناك موضوع مهمّ أريد مناقشته معهم ومعكم جميعاً... أحد سكّان المبنى بحاجة إلى مساعدة "خاصة"، ونحن نصرّ دائماً على مساعدة بعضنا البعض دون اللجوء إلى أشخاص من الخارج.
ثم نظرَت إلى زوجي وقالت:
- صاحب الشقّة رقم 12 وقّع شيكات بلا رصيد ويواجه عقوبات... ولا نريده أن يدخل السجن... وبما أنّكَ في القضاء تستطيع مساعدته...
- لا أظنّ أنني قادر على شيء، فأنا لستُ قاضياً بل أعمل في المحكمة في تخليص ملفّات.
- أنا متأكدة أنّ لديك أصدقاء كثر بين القضاة... إفعل اللازم، فنحن عائلة واحدة وأحد أفرادها في ورطة. ساعدناكم كثيراً والآن جاء دوركم.
وحُلَّ الإجتماع وعاد الجميع إلى بيته. سألتُ زوجي ما ينوي فعله، فأجابني أنّه لن يحاول شيئاً فسمعته نظيفة ولن يورّط نفسه بهذه القضيّة. أسفتُ قليلاً لأنني علمتُ أنّهم لن يشتروا سيّاراتهم من خلالي بعد هذا ولكن فهمتُ موقف زوجي وهنّاته على نزاهته. ولكنني لم أتخيّل أبداً ما سوف يحصل، وإلى أي حدّ يمكن لغضب المبنى أن يصل. فبعد أن علِمَت نجلاء برفض زوجي إنهالت علينا اللعنات بدءاً بإنقطاع التيار الكهربائي ثم التدفئة. وبعدها تلتها مشاكل بالهاتف وقساطر المياه. بكلمة أصبحَت حياتنا جحيم، وبالطبع كنّا نعلم من أين أتت الويلات ولكننا لم نقدر فعل شيء، لأنّهم جميعاً كانوا أخصائيين في مجالهم ولأنّهم كانوا كلّهم متواطئين. الحل وحيد الذي بقيَ لنا كان الرحيل! فكيف نعيش في شقّة كلّ شيء معطّل فيها وكلّما أصلحنا العطل رَجِعَ في اليوم التالي. ولِحسن حظّنا وجدنا بسرعة منزلاً آخراً وبدأنا فوراً بتوضيب أغراضنا. وعندما كنتُ أوضّب آخر طرد، سمعتُ قرعاً خفيفاً على الباب وفوجئتُ بوجود إحدى جيراننا واقفة أمامي ومعها قالب من الحلوى. قلتُ لها بمرارة:
- جئتِ بقالب مسمّماً؟
- لا... لماذا تقولين هذا؟ أنا... أقسمُ لكِ أننا أناس طيّبين ولكن نجلاء هي التي جعلَت منّا ما نحن عليه. كلّنا مررنا بما مررتم به ولكننا لم نقل لا... وعلِقنا ولا نستطيع التراجع الآن، خاصة بعد الخدمات التي حصلنا عليها والأخرى التي سددناها... جزء كبير منّا يحسدكم على رحيلكم.
- ولما لا تقفون في وجهها وترمونها خارجاً؟
- لأنّها تملك بحوذتها أدلّة ضدّنا جميعاً والثمن سيكون غالي جداً... إرحلوا ولا تعودوا أبداً!
وإنتقلنا إلى مبنى جديد تاركين وراءنا قذارة نجلاء وضعف باقي السكّان وعشنا هناك بسلام. أحمد ربّي كلّ يوم على نزاهة زوجي وإلا كنّا وقعنا في شباك "العائلة الكبيرة" وبقينا رهينتها لزمن طويل.
حاورتها بولا جهشان