عندما اكتشَفنا سبب تصرّفات أبينا العدائيّة والمُتقلِّبة، كان قد فاتَ الأوان، إذ أنّ تمّ القبض عليه بعد أن أبرَحَ رجُلًا ضربًا. فهو كان سكّيرًا ويفقِدُ السيطرة على أفعاله لِدرجة الأذيّة. حاولَت المسكينة أمّنا إخفاء كدماتها ودموعها عنّا، لكن مع الوقت كبِرنا قليلًا وفهمنا ما كان يحصل. ولدى غياب أبينا، تغيّرَ المناخ في بيتنا، وأصبحنا سعداء جميعًا وصارَت لنا حياة شِبه طبيعيّة. لَم نُبدِ أيّ رغبة بزيارته في الحَبس، بل قرّرنا التصرّف وكأنّنا أيتام الأب وأمّي أرملة. ليبقى حيث هو ويدَعنا نعيش بسلام! طلَّقَت أمّنا زوجها بسرعة وصارَت امرأة حرّة.
وبسبب فُقداننا لمُعيلنا، إضطرَّت والدتنا للعمَل، إذ كنّا جميعًا لا نزال صغارًا، ووفّقَها الله بأن تجِدَ عمَلًا يُبعِدُ عنا العوَز. مرَّت الأشهر والسنة وثمّ الأخرى، وتعرّفَت والدتنا على رجُل في مكان عمَلها. وهي أخفَت لفترة عنّا تلك العلاقة الرومنسيّة، إلى حين جاءَ اليوم حيث قدّمَته لنا قائلة: "إنّه إنسان طيّب ومُتواضع... وليس لدَيه مانِع لأن تكونوا بمثابة أولاده... ما رأيكم؟ لا تخافوا، لن نتزوّج إلّا بعد فترة، وسنكون مخطوبَين إلى حين نتأكّد مِن أنّنا بالفعل مُتناغمَين، فلن أقترِف الخطأ نفسه، بل تعلّمتُ الدرس، ولن أضعَكم في خطَر بعد أن نجَوتم مِن أبيكم".
أحبَبنا مازن، خطيب أمّنا، لأنّه عرفَ كيف يُعامِلنا، أيّ بمحبّة وهدوء كلّما إجتمَعنا به، لكن بقينا حذرين مِن ناحيته بسبب ما حصَلَ لنا مع أبينا. وفي آخِر المطاف، إعتَدنا عليه ووافَقنا على أن يتزوّج أمّنا، وأن نعيش معه في بيته الذي زيّنَته والدتنا بذوق وفرَح. بعد ذلك، بدأَت حياتنا العائليّة الجديدة وكنّا سعيدين.
لكنّ شخصًا آخَر لَم يكن سعيدًا، وهو أبونا الذي وصلَه خبَر زواج أمّنا وهو وراء القضبان. لِذا هو بدأ يُخطّط وينتظِر بصبر موعد خروجه. وفي تلك الأثناء، لَم نشكّ بشيء، بل خلنا جميعًا أنّنا لن نراه مُجدّدًا أو نسمَع عنه، لكنّنا كنّا مُخطئين.
في البدء، أوكَلَ أبونا أحَدًا لتخريب زواج أمّنا، وذلك بالاتّصال بمازن وتزويده بأخبار مُسيئة عن زوجته الجديدة، مفادُها أوّلًا أنّها إمرأة هستيريّة وأنّها كانت السبب في إدمان أبينا على الكحول. إستغرَبَ زوج أمّنا كثيرًا، إذ أنّه لَم يُلاحِظ شيئًا مِن هذا القبيل عليها، بل العكس لأنّها بدَت له مُتّزِنة تمامًا، وسألَ نفسه مِن هو صاحِب تلك الأخبار البغيضة. هو لَم يُخبر والدتنا عن الأمر ليُجنّبها الزعَل فأبقى الأمر لنفسه.
بعد فترة مِن الزمَن، صادَفَه رجُل في الشارع، مُدّعيًا معرفته به منذ زمَن بعيد، وقالَ له:
ـ سمِعتُ أنّكَ تزوّجتَ مؤخّرًا... كنتُ لأُبارِكَ لكَ، إلّا أنّني لستُ فرِحًا مِن أجلكَ.
ـ ما هذا الكلام الغريب؟
ـ أعذُرني، لكن ما سمعتُه عن زوجتكَ لا يدعو للتفاؤل.
ـ أوّلًا، لستُ مُتأكّدًا مِن أنّني أعرفُكَ. ثانيًا، لا أسمَح لكَ بأن تتدخّل في حياتي الشخصيّة وتتكلّم عن زوجتي.
ـ على الرجال أن يُسانِدوا بعضهم.
ـ لَم أطلُب مُساعدتكَ على الاطلاق.
ـ سمِعتُ أنّها إمرأة غير شريفة... فهي أقامَت علاقات عديدة بعد أن طلَّقَها زوجها ودخَلَ السجن.
ـ أوّلًا زوجتي هي أشرف النساء! ومِن ثمّ، هي التي طلّقَت زوجها لأنّه سكّير عدائيّ لا منفعة منه على الاطلاق! هيّا، إرحَل الآن قَبل أن أستعمِل معكَ أساليب مُختلِفة!
ـ حسنًا، لكنّكَ صِرت على علم بالحقيقة الآن!
إستاءَ مازن كثيرًا مِن ذلك الكلام الذي سمِعَه عن أمّنا، فواجهَها لكن ليس لأنّه صدّقَ تلك الأقاويل، بل ليعرف لماذا هناك حملة ضدّها لتشويه سمعتها. هو كان إنسانًا هادئًا ولا يُحبّ المشاكل، وكلّ ما أرادَه كان وضع حدّ لما يجري. وفور سماعها خبَر الاتّصالات المجهولة واللقاء في الشارع، هي قالَت له:
ـ إنّه زوجي.
ـ هو في السجن.
ـ لدَيه أصدقاء كثر، هم ذاتهم الذين كان يسكَر معهم في الليالي.
ـ ألن يترككِ وشأنكِ؟
ـ سيفعل إن تجاهلناه يا حبيبي. أنتَ تعرفُ مَن أكون، فلا داعٍ للانفعال.
ومع أنّها بدَت هادئة، غضِبَت والدتنا كثيرًا مِن الذي يُحاوِلُ أبونا فعله، وكيف أنّه يقِف في دَرب سعادتها مع أنّه كان السبب الوحيد للذي جرى له. لِذا، هي راحَت لأوّل مرّة لزيارته في السجن، وهذا ما دارَ بينهما:
ـ لماذا تُحاوِل تخريب زواجي؟
ـ لأنّكِ لي، ولي وحدي!
ـ كنتُ لكَ وأسأتَ مُعاملتي. أنسيتَ التعنيف اليوميّ والإهانات؟!؟ وماذا عن مُعاملتكَ السيّئة لأولادنا؟ أتُريدُهم أن يربوا في الخوف والإذلال؟ ودخولكَ السجن سببه إدمانكَ على الكحول، أنسيتَ ذلك؟
ـ لن يأخذَ أحدٌ مكاني.
ـ هذا ليس مكانكَ، فلقد خسِرتَه بإرادتكَ. أُتركني وشأني!
ـ أبدًا!
لَم تمُرّ سنة على زواج مازن مِن أمّنا، حتى اعترَضَه شخصان ليلًا في الشارع، وضرباه لدرجة أنّه أُدخِلَ المشفى بعد أن وجدَه شخص مرَّ مِن هناك. ركضنا لرؤيته وكانت أمّنا في حالة يُرثى لها حين قالَ لها زوجها:
ـ أُحبُّكِ كثيرًا وكذلك الأولاد، لكن ما حصل فوق التحمّل.
ـ أعرف يا حبيبي، أنا آسِفة، لكن ماذا تُريدُني أن أفعل؟
ـ أن تبتعدي عنّي.
ـ ماذا تقصد؟
ـ ربّما أنا جبان، لستُ أدري... لكن هل لي أن أموت؟
ـ بالطبع لا.
ـ لن يكفّ زوجكِ السابق عن محاولة أذيّتي، الأمر واضِح.
ـ دَعني أُحاوِل معه مرّة أخرى.
ـ زيارتكِ له في السجن أجّجَت غضبه، هذا ليس الحلّ... الحلّ هو أن نُطلِّق.
صرَخنا جميعًا مُستنكرين، ورأينا الدموع في عَينَيه وهو يقول لنا:
ـ أنتم بمثابة أولادي، صدّقوني، لكنّ الواقع ليس كما في الأفلام... لستُ بطَلًا خارِقًا وليست لدَيّ قُدرات لمواجهة عدوّ يأتي مِن كلّ جهة وفي أيّ وقت. أنا آسِف.
تطلّقَت أمّنا لكنّها لَم تبكِ، بل فهِمَت أنّ ذلك أفضل مِن أن تكون السبب في موت مازن، وأدركَت أنّ أبانا لن يكفّ عن مُلاحقتها. لِذا هي قرّرَت أنّ مِن الأفضل لو نذهب جميعًا بعيدًا.
إتّصلَت والدتنا بإحدى قريباتها في الخارج، ودبّرَت المرأتان خطّة لهجرة شرعيّة لنا. تطلّبَ الأمر وقتًا طويلًا وكان خوف أمّنا الوحيد ألّا نستطيع السفَر قبَل خروج أبينا مِن السجن. وطوال تلك الفترة الصعبة، رأيناها مهمومة ومتُشنِّجة وفهمنا أنّ الأمر خطير للغاية. ووسط ذلك القلق العارِم، نسينا حزننا على رحيل مازن لأنّ الوقت كان بالفعل للتصرّف.
عمِلَت والدتنا دوامًا إضافيًّا لتتمكّن مِن دفع أتعاب المُحامي المسؤول عن طلَب الهجرة، وبالكاد كنّا نراها، فاعتمَدنا على نفسنا في جميع الأمور، فكنّا نُحضِّر طعامنا ونُنظِّف ونغسل ونكوي. كانت فترة مُتعِبة على الجميع لكن مُفيدة لتقويَتنا مِن كلّ النواحي.
وصلَت أوراقنا أخيرًا، أيّ بعد أكثر مِن سنة، وبكينا جميعًا مِن كثرة ارتياحنا. حزَمنا أمتعتنا وطِرنا سرًّا إلى وجهتنا المُقرّرة، أيّ إلى حياتنا الجديدة البعيدة عن الخوف والقلَق. لَم تُخبِر أمّنا أحَدًا على الاطلاق أين نحن ذاهبون، لتفادي وصول الخبَر لوالدنا.
تعلَّمنا جميعًا لغة ذلك البلَد، ودبَّرَت قريبة أمّي لها عمَلًا ودخلنا المدارس. عشنا في شقّة صغيرة للغاية استأجرَتها والدتنا بفضل المال الذي تُخصِّصه تلك الدولة للمُهاجرين. وبالرغم مِن الصعوبات، كنّا سعيدين لأنّنا بنَينا لنفسنا مُستقبلًا جديدًا مليئًا بالأمل وبعيدًا عن الخوف.
خرَجَ أبونا مِن السجن وبحَثَ عنّا حتمًا مِن دون أن يجِدنا. لَم نسمَع منه على الاطلاق، لأنّه لَم يستطِع تحديد مكاننا، فما مِن أحَد كان يعلَم أين نحن. لا أستطيع إخباركم عمّا حلَّ به ولا يهمّني الأمر على الاطلاق، لكنّني مُتأكِّدة مِن أنّه يواجِه المتاعِب مِن جديد بسبب طَبعه وإدمانه، فأمثاله لا يتغيّرون أبدًا.
حاورتها بولا جهشان