وضّبتُ حقائبي بفرح شديد، فكانت هذه أوّل مرّة أسافر فيها بحياتي وشاءت الظروف أن تبعث الشركة التي أعمل فيها بي وبزملائي إلى خارج البلاد، كوفد يمثّلها ويلقي الكلمات ويتبع ندوات. وإنطلقنا إلى هولندا واعدين أنفسنا بأوقات ممتعة.
وفور وصولنا إلى الفندق، وضعنا أمتعتنا وركضنا نجوب شوارع أمستردام. كانت فرحتي لا تُقاس وأنا أدخل المحلات التجاريّة وأزور الأماكن المشهورة. ولكن، في المساء عندما عدنا إلى الفندق، وجدنا أنّ بعض زملائنا كانوا قد بدأوا بالشرب وباتوا يتصرّفون معنا ويمازحوننا بطريقة أكثر من ودّية. قلتُ لزميلتي التي كنتُ أتقاسم معها الغرفة، أنّ من الأفضل أن نصعد تفادياً للمشاكل ولكنّها رفضَت:
- لا... إنّهم مضحكون... أريد أن أبقى... إذهبي أنتِ... لطالما كنتِ هكذا، جديّة أكثر من اللازم.
وتركتها معهم وذهبتُ للنوم.
وفي اليوم التالي، بدأ عملنا وتوجهنا إلى قاعة المحاضرات وإستمعنا إلى أخصائيين وعدنا إلى الفندق. وفي المساء ذهبنا جميعاً إلى مطعم، حيث أكلنا وشربنا ورقصنا. ولاحظتُ مجدداً أنّ الأجواء تتحوّل، وأنّ الموظفين باتوا يرقصون بطريقة حميمة، فإنزعجتُ كثيراً إلى درجة أنني إستقليتُ سيّارة أجرة وعدتُ لوحدي. وكانت الساعة متأخّرة جداً، عندما عادت زميلتي إلى الغرفة وكان يبدو عليها علامات الثمل الشديد. عندما سألتُها لماذا هذا التأخير قالت لي:
- أنتِ لستِ أمّي! أعود ساعة أشاء!
وهذا الوضع إستمرّ على إمتداد كل فترة مكوثنا في هولندا، أي أنّ كل ليلة كان الجميع يتصرّف بجنون ويختلط مع الآخر وكانت تجري أمور لا أريد التفكير بها حتى. أمّا أنا، فكنتُ ألازم غرفتي عند غروب الشمس، لكي لا أتواجد وسط هكذا جوّ، خوفاً من أن أُجبر على فعل شيء لا أريد فعله. ولاحظتُ على صديقتي، أنّها بدأت تبتعد عنّي وتنظر إليّ وكأنني عدوّتها، حتى أنّها طلبَت من إدارة الفندق نقلها إلى غرفة أخرى. إستغربتُ كثيراً طلبها هذا، فسألتُها عن السبب:
- هل هناك من خطب؟ هل أُزعجُكِ بشيء؟ لماذا أنتِ ذاهبة إلى غرفة أخرى؟
- لأنّكِ لستِ مثلنا... تنظرين إلينا وكأننا أناس فاسدين... كل ما نريده هو إمضاء وقتاً ممتعاً قبل عودتنا.
- وقتاً ممتعاً؟؟ أهذا ما تسّمين ما تفعلونه؟ معظم الرجال معنا هم متزوّجين ولديهم عائلات والبعض من الفتيات أيضاً. أنسيتي أنّ لديكِ حبيباً في البلد؟
- هنا كل شيء يتوقف وما يحصل لا يُحسب، فنحن لسنا في بلدنا.
- آه... فهمتُ... ولكن أعذريني لأنني لا أوافق على ما يجري ولا أريد الإشتراك به.
- لأنّكِ أفضل منّا؟ من تخالين نفسكِ؟؟
- لا أخال نفسي، بل أعرف نفسي وأعرف أنّني إذا أردتُ فعل أي شيء، لن أنتظر أن أكون خارج البلاد لأنه ليس لديّ شيء أخفيه. إذهبي من هنا، فعلتِ الصواب عندما طلبتِ نقلكِ!
وشكرتُ نفسي أنّه بقيَ يوم واحد على رحلتنا، لأنني لم أعد سعيدة، فالكل بات يتفاداني وكأنهم يخجلون منّي أو يخافون أن أحكم عليهم.
وفي آخر ليلة لنا في أمستردام، حصل ما لم أتوقّعه. كنتُ نائمة في سريري عندما فُتحَ الباب ودخَلت مجموعة من زملائي وحملوني إلى الخارج رغماً عنّي. في البدء لم أفهم ما الذي يجري ولزمَني بضعة ثواني لأدرك أنني أصبحتُ في غرفة ثانية وأنا ما زلتُ أرتدي قميص نومي. وفي تلك الغرفة، تجمّع الموظفين يرقصون ويغنون ويقبّلون بعضهم. صرختُ بهم:
- ما الذي يحصل؟ لما أنا هنا؟
أجابت التي كانت تدّعي أنّها صديقتي:
- لن تفلتي هذه المرّة... ستفعلين مثلنا شئتِ أم أبيتِ!
ودفشتني إلى ذراع زميل لي، حاول تقبيلي. ولا أدري كيف وجدتُ القوّة لأتخلّص من قبضته وركضتُ إلى الخارج ونزلتُ السلالم لأصل إلى مكتب الإستقبال حيث بدأتُ أصرخ وأبكي:
- يريدون إغتصابي! من أعطاهم مفتاح غرفتي؟؟؟
حاول عامل الإستقبال تهدئتي وسألني إن كنتُ أريد إستدعاء الشرطة. كنتُ سأوافق حين أدركتُ أنّها ستكون كلمتي ضد كلمتهم وأنّهم سينكرون كل شيء. فطلبتُ أن أُنقل إلى غرفة أخرى وألا يعلم الآخرون أين أنا. وفي الصباح الباكر، توجّهنا جميعاً إلى المطار. وعلى متن الباص الذي كان يقلّنا، لم أتكلّم مع أحد منهم ولم أنظر إليهم حتى. ولكن عندما أصبحنا في الطائرة، جاءَت زميلتي وقالَت لي مهدّدة:
- ها نحن عائدون تاركين وراءنا كل كا فعلناه هنا. ولا نريد أن يعلم أحد بما حصل أثناء الإجازة. هل كلامي واضح؟ ولا أنصحكِ حتى بالتفكير بفضحنا وإلا...
وصلَتني الرسالة وبوضوح وفإن أردتُ العمل بسلام وسط زملائي كان عليَ نسيان أمر الأيّام التي مَضَت. ولكن هل كان بإمكاني غض النظر عمّا حاولوا فعله بي؟
وبعد بضعة أيّام وجدتُ أنني لا أستطيع التواجد مع هؤلاء الناس، بعد كل ما حصل وفضّلتُ تقديم إستقالتي. إستغربَ مديري من رغبتي المفاجئة بالرحيل وسألني عن السبب ولكنني لم أستطع إخباره بالحقيقة، فمَن يدخل إلى غرفتي ويخطفني لكي أُغتصّب، يستطيع فعل أمور أكثر خطورة. وحتى بعد أن علموا أنني إستقلتُ وصلتني رسالة مجهولة المصدر على هاتفي تقول: "نحن نراقبكِ".
لا أخفي أنّه إنتابني خوف شديد دام أشهر ولكن مع الوقت ومع عملي الجديد نسيتُ كل شيء. ولم تمرّ سنة حتى علمتُ أنّ الشركة التي كنتُ أعمل فيها أُقفلَت ولأسباب غامضة. إكتفَيتُ بهذا القدر من المعلومات، لأنني لم أعد أريد التفكير بهم جميعاً.
ومنذ ذلك الحين أرفض الذهاب إلى أي بعثة خارج البلاد.
حاورتها بولا جهشان