قضيتُ وقتًا صعبًا للغاية في المشفى بعد مُحاولتي الإنتحار، ليس فقط لأتعافى مِن جروح مُعصمَيّ بل لأستوعِب أنّني لا أزال على قَيد الحياة. كنتُ آنذاك شابًّا في الثامنة عشرة مِن عمري، ولَم أتحمَّل فكرة رسوبي في شهادة البكالوريا، ففضَّلتُ الموت على مواجهة الفشَل. ولتعرفوا ما كانت دوافعي، عليّ إخباركم عن عائلتي وظروف العَيش وسطهم.
لَم يتسنّ لأيّ مِن أمّي أو أبي مواصلة تعليمهما، إذ أنّهما كانا مِن بيئة فقيرة تُحبّذُ العمَل على العِلم. تعِبا كثيرًا إلى أن التقيا وتزوّجا وقرّرا إنشاء عائلة. ومِن أولويّاتهما أن يحظى أولادُهما على أكبر قدر مِن الشهادات لتجنيبهم ما مرّا هما به.
وحين أبصرتُ النور، كان أبي قد نجَحَ أخيرًا في الوصول إلى قدر عالٍ مِن المدخول، ونقلَنا إلى سكَن أفضل وحَيّ أرقى. وطبعًا أمِلَ وزوجته أن يتقبّلنا مُحيطُنا الجديد. ولكن جميع جيراننا رأوا أنّنا لَم نكن فعلاً مِن مُستواهم فابتعدوا عنّا. أسِفَ أبي كثيرًا ألا يكون ماله قادرًا على محو جذوره المُتواضعة، فركّزَ على مُستقبلي الذي أرادَه متفوّقًا مِن أجلي... ومِن أجله وأمّي. فكنتُ أنا تذكرتهما إلى عالمٍ حلِما به سرًّا وبدا لهما بعيد المنال.
قرَّرَت أمّي عدَم الإنجاب مِن بَعدي، كَي يتسنّى لها ولأبي التركيز على إعطائي الأفضل وتحويلي إلى "ابن ذوات". فسجّلاني في حضانة مرموقة تعلّمتُ فيها بديهيّات اللغة الفرنسيّة، ولعبتُ بألعاب مُستوردة بين رفاق مُميّزين. قيل لأهلي إنّني ولَدٌ واعٍ وذكيٍّ وأتعامَل جيّدًا مع باقي الأولاد، الأمر الذي أعطى لأمّي وأبي أملاً بأنّهما إختارا جيّدًا تلك الحضانة. في الواقع، يُقال الشيء نفسه لجميع الأهل، إلا في حال كان الولَد يُعاني مِن مُشكلة عقليّة أو تصرّفيّة واضحة.
بعد ذلك، قصدتُ مدرسة إبتدائيّة أجنبيّة، وصرَفَ أبي مالاً وفيرًا على الأقساط، لأنّ الأماكن كانت محدودة، ولأنّ الإدارة تتّبعُ سياسة إخافة الأهل مِن فقدان حقّ أولادهم بالتواجد في هكذا مؤسّسة مرموقة.
وفي تلك الحقبة بالذات، بدأتُ أشعرُ بالضغط الذي يُمارَس عليّ للنجاح والتفوّق. في بادئ الأمر، كان ذلك الضغط خفيفًا بسبب سنّي اليافع وبُعدي عن الشهادات المُهمّة. لكنّني كنتُ أعي ضرورة الحصول على أفضل العلامات وإلا...
فلقد بدأَت التهديدات حين دخلتُ المرحلة المتوسّطة في المدرسة، إذ تبيّنَ لأهلي أنّني لَم أكن بالفعل مُميّزًا كتلميذ، بل أحصلُ على علامات ليست مُشرِّفة على الاطلاق. جلَبَ لي أبي مُدرّسًا خاصًّا، لكنّني لَم أتحسَّن كثيرًا، فقرَّر أنّ الرّعب والعنف سيأتيان بنتائج أفضل. ولَم أفهَم طبعًا ما هي دوافع أبي الحقيقيّة، بل صرتُ أعتبرُه طاغيًا وأمّي شريكة له. أظنُّ أنّ تركيزهما على هدفهما الذي صارَ شبيهًا بالهوَس، وقلّة ثقافتهما هما السبب لتحوّلهما مِن أبوَين مُحبَّين إلى جلادَين.
تلقَّيتُ عقوبات عديدة بدأَت، مِن حرماني مِن الذي أُحبُّه إلى حبسي في البيت ومَنعي مِن الإلتقاء بأصدقائي. لكن حين رسبتُ في الشهادة المتوسّطة، ضربَني أبي بواسطة حزام بنطلونه وكأنّني حيوان. بكيتُ كثيرًا ورحتُ ألتجئ إلى أمّي التي أزاحَتني عنها قائلة: "أبوكَ لا يُريدُ سوى مصلحتكَ". أيّ مصلحة هي تتكلّم عنها؟ هل تقصد الضرب والإهانة؟ ما ذنبي إن كنتُ غير فالِح في المدرسة؟ أقسمُ أنّني بذلتُ جهدي للدّرس والحفظ لكنّني رسبتُ رغمًا مِن ذلك. ومنذ ذلك اليوم، عشتُ في الخوف والحذَر، وفاتَتني أجمَل أيّام المُراهقة التي كان يجدر بي أن أقضيها بالفرَح واللامُبالاة.
تعرّضتُ لشتّى العقوبات بعد رسوبي بتلك الشهادة اللعينة، ولَم أعُد أُبارِح البيت بل أُمِرتُ بالدّرس مِن دون توقّف. نجحتُ أخيرًا في الدورة الثانية وصعدتُ صفًّا. إستمرَّ كابوسي تصاعديًّا للثلاث السنوات التي فصلَتني عن شهادة البكالوريا. وأستطيع القول إنّني عشتُها بالفعل كالسجين آكلُ وأشربُ الدّرس ثمّ الدّرس. لَم يأبَه أيّ مِن والدَيَّ لشعوري أو لحالتي النفسيّة، وعاملاني وكأنّني مخلوق عليهما ترويضه للقيام بحركة بهلوانيّة. أجل، لقد عانَيتُ الكثير ليُحقِّقَ غيري أحلامه مِن خلالي. أين ذهبَت نيّة أبوَيّ في تأمين مُستقبل مُريح لي؟ وهل حاضري كان مُريحًا أو حتى مقبولاً؟!؟
درستُ كالمجنون... ورسبتُ في إمتحان شهادة البكالوريا.
علِمتُ على الفور أنّ ما سيحدثُ لي سيكون رهيبًا، ولَم يعُد لي القوّة الكافية لتحمُّل الإهانات والتعنيفات أو حتى الدّرس، إلى حين تأتي الدورة الثانية. فكان مِن الواضح أنّني لستُ ذكيًّا على الإطلاق. رأيتُ إستحالة الإستمرار في العَيش، فحياتي كانت سلسلة خَيبات ولن أصبَحَ يومًا رجُلاً ناجحًا. لِذا أخذتُ شفرة حادّة وقطعتُ عروق مُعصمَيّ، وجلستُ في أرض الحمّام أنتظرُ بهدوء نفاذ دمي ولفظ آخر نفس لي. إلا أنّ أبي دخَلَ الحمّام بغرَض تأنيبي وتأديبي ورأى مشهدًا مُخيفًا: رأى إبنه سابحًا في بركة دماء. حمَلَني إلى المشفى ولحِقَت به أمّي وانتظرا بهمّ شديد آراء الأطبّاء.
ويوم عدتُ إلى المنزل، كان والدي قد قرَّرَ ألا يتكلَّم معي عن الدّرس، لكنّه قال لي بصوت جدّيّ للغاية: "عندما تشفى كلّيًّا سترحَل إلى عمّكَ في أوروبا. هناك قد تحظى بِفرَص أوفَر، أقصدُ العمَل في مصنعه". كان مِن الواضح أنّه يُريدُ إبعادي عنه كي لا أُذكِّره يوميًّا أنّ إبنه أضاعَ الفرصة التي لَم يحظَ هو بها. سافَرتُ مِن دون أن أنظُر ورائي، فماذا كنتُ تاركًا؟ أبوَين نسِيا أن يُعطياني الحبّ والحنان والتفاهم؟
عمِلتُ في مصنع عمّي على الفور، وأعترِف أنّني أحبَبتُ ذلك الرجُل الذي لَم أرَه مذ ما كنتُ في الثالثة مِن عمري. أحبَبتُ أيضًا تلك الماكينات الضخمة التي تحيكَ القماش مِن دون ملَل، مُصدِرةً صوتًا رهيبًا طوال النهار. مهامي كانت مُراقبة عمَل السيّدات الموكَلات بالماكينات. أردتُ أن أفعَل أكثر مِن ذلك، لكنّ عمّي طلَبَ منّي أن أصبُر إلى حين أصيرُ مُعتادًا أكثر على سَير العمَل.
مرَّت الأشهر ثمّ السنة، تواصلتُ خلالها مع أهلي بضع مرّات فقط، وكنتُ للصراحة مُرتاحًا لهذا الوضع. فمنذ رحيلي، زالَ عنّي ضغط الهمّ والخوف، وأصبحتُ شابًّا أكثر فرَحًا وبهجة. والفضل يعود أوّلاً لعمّي وزوجته وأولادهما، الذين عمِلوا جهدهم كي أشعرُ أنّني وسط عائلتي.
بعد ذلك، سمَحَ لي عمّي بالعمَل على الماكينات الواحدة تلوَ الأخرى، لأفهَم كيف تتمّ فعلاً الحياكة، وشعرتُ وكأنّني واحدٌ معها، أيّ أنّ ذلك المنوَال الكبير هو إمتداد لِذراعَيّ. يا لهذا الشعور اللذيذ! وسرعان ما صرتُ أقضي ساعات إضافيّة ليلاً في المصنع، فقط لأستمِع لذلك الهدير وأتفرَّج على الخيوط وهي تتحوّل إلى قماش.
وذات يوم، تعطّلَت إحدى الماكينات، فطلبوا بسرعة المسؤول عن الصيانة، لكنّه كان بإجازة ولن يعود قَبل أيّام. عندها عرضتُ على عمّي أن أقومَ بنفسي بالتصليح اللازم. وهو نظَرَ إليّ بإندهاش، ورفَضَ رفضًا قاطعًا مُفضِّلاً إنتظار الشخص المُختصّ. إلا أنّني لَم أستسلِم، بل إنتظرتُ أن يذهبَ عمّي إلى بيته لأٌباشِر بالتصليح.
وفي اليوم التالي، تفاجأَ عمّي كثيرًا حين رأى تلك الماكينة وهي تعمَل بشكل طبيعيّ. وقيل له إنّني مَن أصلحَها فنادى عليّ وقال لي:
ـ كيف عرفتَ ما عليكَ فعله لتصليح ماكينة الحياكة؟ فأنت لا تعرفُ شيئًا عنها!
ـ مَن قالَ لكَ ذلك؟ لقد قضيتُ وقتًا لا يُحصى وأنا أنظرُ إليها كالفتى المُغرَم بحبيبته. أعرفُ أين يقَع كلّ برغي وكلّ مفصَل فيها وأين يدخلُ الخَيط وكيف يخرج. أعرفُ هدير صوتها عندما تكون تعمَل جيّدًا، وعنينها حين تُعاني مِن مُشكلة ولو صغيرة. أُحبُّ كلّ ما يتعلَّق بها لِدرجة أنّني تمنَّيتُ لو أستطيع النوم ليلاً على أرض المصنع.
ـ لَم أكن أعرِف يا بُنيّ مدى تعلّقكَ بالمصنع والماكينات، فأولادي بعيدون كلّ البعُد عن هذه المصلحة التي يصفونها بالوضيعة والبسيطة. كَبُرَ قلبي بكَ وتفاجأتُ بمهارتكَ، فأبوكَ...
ـ لا تخجَل يا عمّي، وقُل إنّ أبي نبّهكَ منّي وقالَ إنّني لستُ نافعًا لشيء!
ـ ما بالنا وبال أبيكَ! هيّا بنا نحتفِل!
ـ نحتفِل بماذا؟
ـ بأنّكَ منذ هذه اللحظة ذراعي الأيمَن! فلقد وجدتُ أخيرًا مَن يُشاركني حبّ مصلحتي، ولن أجِدَ أفضل منكَ، أنا مُتأكّد مِن ذلك. لكن إيّاكَ أن تتركني وتعود إلى أبوَيكَ!
ـ أنا سعيد هنا، لا تخَف. إضافة إلى ذلك يا عمّي... هناك عاملة جميلة ولطيفة و...
ـ هاهاها! أنتَ لا تُضيّعُ وقتكَ!
ـ هي لا تعرفُ أنّني مُعجَبٌ بها. أتظنّ أنّني لا أزالُ يافعًا لتأسيس عائلة؟
ـ لو سألَني شاب آخر السؤال نفسه لأجبتُه بِنعم، لكنّكَ بالفعل إنسان عاقل وناضج وكفوء.
ـ يا لَيت أبي يسمعُكَ الآن! فهو لا يؤمِن بي.
ـ أنا اؤمِن بكَ! هيّا، تعالَ معي نحتفِل... بمنصبكَ الجديد وزواجكَ القريب!
ماذا أخبرُكم عن حياتي بعد ذلك؟ لقد عِشتُ أجمَل سنواتي في المصنع، ومع جانيت التي صارَت زوجتي وأمّ أولادي. ماتَ عمّي بعد أن ترَكَ لي حصّته في المصنع، واشترَيتُ لاحقًا حصَص أولاده لأصبحَ صاحب عمَل كبير. زرتُ البلَد مرّات قليلة لكن كافية ليتعرّف والدَيّ إلى زوجتي وأولادي. وبالرّغم مِن أنّ أبي كان يعلَم مدى نجاحي وشطارتي، فهو لَم يثنَ على ذلك يومًا، ربّما كيّ لا يعترِف أنّه كان مُخطأً بِحقّي. فالنجاح المدرسيّ والجامعيّ مهمّ جدًّا، لكنّه ليس مقياسًا للذكاء أو الشطارة، وهناك أولاد يفلحون أكثر في مجال العمَل حيث تظهَر مهاراتهم وقدراتهم. فلِكلّ ولد موهبة، وعلى الأهل أن يبحثوا عنها ويُنمّونها.
حاورته بولا جهشان