منذ صغري وأنا أرى العَمّ إيهاب يتصرّف بِغرابة مع صديقه أيمَن الذي كان يملك دكّانة في أوّل الشارع. وكلّما كانت ترسلني أمّي لِشراء حاجات البيت مِن هناك كنتُ أرى مشهداً غير مألوفاً: العَمّ إيهاب وهو يخدم صديقه وكأنّه موظّفاً بسيطاً لَدَيه بالرغم أنّه كان يكبره سنّاً ويفوقه ثراءً. فكان يحضّر له القهوى ويسكبها له بإحترام ويسأله إن كانت على ذوقه ومِن ثم يأخذ المكنسة وينظّف المحل.
ولم أعرف سرّ هذا الأمر الغريب إلاّ بعد حوالي الخمسة عشر سنة حين حضرتُ مأتم العَمّ إيهاب. كان هناك العديد مِن الناس فإلى جانب أهالي الحَي حَضَر أقرباؤه وأصدقاؤه القدامى.
وجَلَس بِقربي رجل مسنّ لم أرَه بِحياتي وعندما رأى أيمَن باكياً قال بِصوت عالٍ:
ـ الآن تندَم يا أيمَن على ما فعلتَه بإيهاب؟
ولكنّ أيمَن لم يسمعه فسألتُه عمّا يتكلّم. سَكَتَ الرجل بضعة ثوان ثم بدأ يقصّ لي ما حَدَث بينَ الرجلَين في زمَن لم أكن قد أطلَّيتُ عليه بعد.
ـ تعرّف أيمَن على إيهاب حين كانا يعملان في معمل للورق، وبِسبب أحوالهما المتشابهة نشأت بينهما صداقة جميلة كأي صداقة نراها بينَ شابَين همّهما الوحيد هو كسب مالهما وصرفه على بسطهما. وبما أنّ إيهاب كان يكبر صديقه سنّاً، كان هو يقرّر ما سيفعلانه بعد العمل وأين سيذهبان. وثقة أيمَن به كانت عمياء ربمّا لأنّه كان يفتقد إلى وجود رجل معه بعدما كبر وسط خمس أخوات. والكل كان يتكلّم عن السهرات التي كانا يذهبان إليها للأمور التي كانت تدور فيها. أعني أنّه كان يوجد في تلك الأماكن أناساً لا يهمّهم العيب والحرام... أفهمتَ قصدي يافتى؟
ـ أجل... فهمتُ قصدكَ... أكمل مِن فضلكَ.
ـ وفي إحدى السهرات تعرّفَ أيمَن على زينة إحدى الشابّات اللواتي كانت تبعنَ خدماتهنّ للرجال... أفهمتَ قصدي يا بنَيّ؟
ـ أجل... أجل... وما حصلَ بعد ذلك؟
ـ ولأنّه كان طريّ القلب أُغرِم أيمَن بِزينة التي عَرَفَت كيف تستميله لتأخذ منه أكبر قدر مِن المال. ولكنّ إيهاب ولِكثرة محبّته لِصديقه قرّر أن يضع حدّاً لِتلاعب تلك الفتاة. والطريقة الوحيدة التي وجَدَها كانت أن يعرض عليها أن تصبح عشيقته وتترك أيمَن. فَعَل ذلك لأنّه كان بإمكانه بِسبب سنّه كبح جشع الفتاة على عكس أيمَن الذي كان غارقا بِحبّها ولا يرى أبعاد هذا الحب.
وأرتمَت زينة في أحضان إيهاب ووقَعَ الخلاف بين الرجلَين وبلغَ حدّاً خطيراً جدّاً. وعندما حاولَ إيهاب شرح أسباب ما فعلَه لِصديقه أصطدمَ معه لأنّ أيمَن شعَرَ بأّنّه كالطفل الذي هو بِحاجة إلى مَن يرعاه ويحميه ناهيك عن وجعَه لِرحيل حبيبته.
أمّا زينة فكانت مسرورة أن يتصارع الرجلان مِن أجلها متأمّلة أن يزيد ذلك مِن سعرها وبدأت تلعب لعبة مزدوجة قادَت إلى هلاكها.
ففي إحدى الليالي أعطَت الفتاة موعداً لأيمَن عندها في غرفتها الصغيرة وتدبّرَت أن يعلم إيهاب بالأمر. وركضَ هذا الأخير ليضع حدّاً لِعلاقة صديقه مع المومس وينقذه مِن شباكها بِصورة نهائيّة، فأخَذَ معه سكيناً كبيراً لإخافتهما. ولكن هذا السلاح كان سيغيّر مجرى حياتهم جميعاً.
حين وصَلَ إيهاب الغرفة قرعَ على الباب مدّعياً أنّه شخص آخر. وقام أيمَن مِن السرير حيث كان مع زينة وفتحَ له. عندها هدّده إيهاب بالسكين وأمرَه بأن يخرج على الفور ولكنّه لم يستطع أقناعه بذلك. وأنضمَّت إليهما زينة وبدأت تصرخ على إيهاب وتأمره بِتركهما وتعاركَت معه محاولة دفشه إلى الخارج.
وبعد لحظة سقطَت أرضاً بعدما أنغرزَ السكين سهواً في بطنها. ووقفا الرجلان مذعوران عند رؤية كميّة الدم الهائلة التي خَرَجت مِن الفتاة لِيستوعبا أخيراً أنّها ماتت. عندها صَرَخ أيمَن: "ما الذي فعلتَه؟ قتلتَها! ستمضي أيّامكَ في السجن إن لم يعدموكَ!" وبدأ إيهاب يشرح له بأنّه لم يقصد قتل أحد بل أنّ زينة رمَت نفسها على السكين ولكنّ صديقه بقيَ يردّد بأنّه قاتل يستحقّ العقاب.
ـ وكيف تعرف كل هذه التفاصيل؟ أم أنّكَ أخترَعتَ تلك القصّة؟
ـ أعلم كل تفاصيل ما جرى لأنّ إيهاب ألتجأ إليّ بعد الحادثة... فعندما رأى أنّ أيمَن أنقلبَ ضدّه وينوي سجنه خرجَ مِن الغرفة وركضَ إليّ لأنّني إبن عمّه وصديق الطفولة ولأنّه يعلم أنّني سأكتم سرّه.
ـ حتى اليوم.
ـ أجل... فها هو قد مات... ما نفع الأسرار الآن؟
ـ أكمل مِن فضلكَ... فلم تقل لي سبب خضوع إيهاب لأيمَن كل تلك السنين.
ـ أين كنتُ... آه... أجل... جاء إيهاب إليّ وروى لي القصّة مِن أوّلها وطلبَ منّي أن أساعده على الهروب مِن البلاد. ولكنّني لم أكن أملك المال الكافي أو المعارف اللازمة لأخرجه مِن هنا. كل ما كنتُ قادراً على فعله هو أن أخبّأه إلى حين زوال القضيّة.
وفي هذه الأثناء اكتشفَت الشرطة جثّة زينة وبعد أن وجدوا شهوداً على الحادثة أستدعوا أيمَن وحقّقوا معه لأنّ أحداً رآه يدخل إلى غرفة الضحيّة مساء الجريمة. وكي يفلت مِن التهمّة قال أنّه كان بِرفقة إيهاب في مكان آخر. قالَ ذلك لِينقذ نفسه وليس لإعطاء حجّة لِصديقه. كان بإمكانه قول حقيقة ما حصل ولكنّه خافَ أن يلصق إيهاب التهمة به خاصة بِغياب شهود في الغرفة. ولكنّ إيهاب كان متواريّاً عن الأنظار أي عندي. وكان مِن المهم جدّاً بالنسبة لأيمَن أن يظهر صديقه لِتبرأته. لِذا أرسَل مِن سجنه إبن عمّه ليفتّش عن إيهاب.
وبعد جهد جهيد وجدَه وجاءَ إلينا للمساعدة. وبالطبع قرّرَ نسيبي أن يقصد فوراً الشرطة والإعتراف بِجريمته ولكنّني أقنعتُه بأنّ يكتفي بِقصّة أيمَن أيّ أنّهما كانا سويّاً بعيداً عن مكان سكن زينة. وهكذا حصل وخرجَ أيمَن مِن السجن ولكن بِقلب مليء بالحقد والإنتقام. فلم يكن مستعدّاً أبداً أن يسامح صديقه على قتل حبيبته أمام عينَيه وعلى إدخاله السجن. لِذا بقيَ يهدّد إيهاب بأنّه سيشي به في أي وقت حتى يبقيه في قلق دائم.
ومقابل سكوته عقَدَ معه أتفاق: على إيهاب خدمته يوميّاً حتى آخر أيّامه. وكان ذلك الاتفاق يتضمّن شرطاً مهمّاً جداً وهو أن يبقى إيهاب عازباً طوال حياته حتى لا يدعه يذوق طعم السعادة مع إمرأة.
ـ ولماذا قَبِلَ معه في حين كان مستعدّاً أن يقول ما حصل حقيقةً للشرطة؟
ـ سألتُه نفس السؤال فأجابَني أنّه لا يستطيع تحطيم قلب أبوَيه اللذان كان يفخران به. وهكذا بدأ عذاب إيهاب. لا أتكلّم فقط عن طلبات أيمَن البشعة والشبه مستحيلة ولكن عن الوحدة الذي عاش فيها قريبي. فكَي لا يقع في غرام فتاة حبَسَ نفسه في المنزل يخدم فيه أهله ولا يخرج منه سوى للذهاب إلى العمل ومِن ثمّ إلى إيهاب لتلقّي التعليمات. دفعَ ثمن حبّه لِصديقه غالياً.
ـ وماذا عن أيمَن؟ ألم يتزوّج هو الآخر؟
ـ لا... ولا أدري تماماً لماذا... هل لأنّه صُدِمَ لِموت زينة التي أحبّها بكل جوارحه أم لأنّه كان يريد أن يتفرّغ للانتقام؟
ـ ولكنّه يبكي صديقه الآن.
ـ أجل وهذا ما أدهشَني.
هل تعتقد أنّه نادم؟
ـ كان لدَيه العمر بِطوله لِيَندم... لا... ربمّا كان يحبّه فعلاً.
ـ أو ربمّا رأى نفسه وحيداً الآن مِن دون أحد ليعذّبه.
ـ أنتَ ذكيّ للغاية يا فتى... قد يكون هذا السبب... سأذهب الآن... تشرّفتُ بِمعرفتكَ... آسف إن كنتُ قد أطَلتُ الكلام.
ـ بالعكس... لقد فكَّيتَ لغزاً كان يشغلني منذ سنين وأنَرتَ الضوء على عتمة النفس البشريّة... لما لا يكتفون الناس بالعيش بِسلام مع الآخرين؟ أم أنّ الحقد يعطي لِحياتهم التافهة المزيد مِن المعنى؟
حاورته بولا جهشان