صحيح أنّني كنتُ لا أزال صغيرة عندما وقعتُ بِحب حسّان ولكنّني كنتُ متأكّدة مِن مشاعري نحوه ومِن مشاعره تجاهي. والعائق الوحيد الذي حال دون زواجنا الفوريّ هو عدم جهوزيّته فكان بِحاجة إلى إنهاء اختصاصه في الطب لِيستطيع بناء عائلة والاعتناء بها كما يجب. لِذا أتّفقنا سويّاً أن أنتظره حتى يعود مِن فرنسا لنتزوّج. وهذا ما شرحَه حسّان لأبي عندما جاء بِصحبة أمّه للتعرّف على العائلة وتوضيح نيّته تجاهي.
وقَبِلَ أبي وبِسرور أن نعلن خطبتنا وأن نؤجّل موضوع الزواج أربعة سنوات. وعمّ الفرح وتبادلَ الجميع القبلات والتصافح وبعد أسبوعَين سافرَ حبيبي إلى مدينة ليون. وبالرغم مِن البعد الذي أصبحَ بيننا بقينا على أتصال يوميّ عبر الهاتف والإنترنِت ومع مرور الأيّام باتَ حبّنا أقوى مِن السابق.
وكان قد مضى على غياب حسّان سنة حين بدأ والدي ينزعج مِن طول الخطبة مع أنّه كان يعلم أنّ الأمر سيستغرق أكثر مِن ذلك. وصارَ أبي يُسمعني كلاماً مزعجاً مفادَه أنّ بنات الناس ليست لعبة وأنّ مَن ليس قادراً على الزواج لا يجب أن يربطَ أحداً معه. ودافعَت أمّي عنّي كثيراً وحاولَت تهدئته مستعملة حجج كثيرة كالحبّ الذي يربطنا أو حسب ونسب حسّان أو حتى أنّه سيصبح طبيباً مختصّاً ويؤمِنّ لي حياة جميلة. وسكتَ أبي فترة أشهر ومِن ثمّ عادَ إلى استنكاره حتى أن طفحَ كيلي وسألتُه لماذا يفتعل المشاكل هكذا فأجابَني:
ـ أنتِ ابنتي الوحيدة ولا أريد أن تضيّعي حياتكِ بالانتظار.
ـ ولكنّها حياتي أنا... أنتَ تعلم كم أحبّ حسّان وكم هو شاب لطيف ومهذّب... وقريباً سيعود مع شهادته ويفتح عيادة وسيكون أفضل طبيب بالعالم! وأظنّ أنّني لن أعثر على أفضل منه.
ـ مَن قال لكِ ذلك؟ العديد مِن الشباب يتمنّون الزواج منكِ!
ـ ولكنّ حسّان هو مَن أحبّ.
وظننتُ أنّ الموضوع أنتهى وأنّه فهمَ أنّني لا أريد سوى خطيبي. ولكنّ السبب الحقيقيّ وراء انزعاجه مِن حسّان كان أنّه يريدني أن أتزوّج مِن وئام ابن صديقه الذي كان أيضاً مِن عائلة جيّدة ولدَيه شركة كبيرة. وعلِمتُ لاحقاً أنّ أبي كان قد أتّفق مع صديقه منذ فترة طويلة أن يزوّجا أولادهما ليصبحا عائلة واحدة.
ولم يمضِ أسبوع حتى جاء وئام مع أهله لِقضاء سهرة عندنا. ورغم عدم معرفتي بالذي يجري لم أستلطف أبداً ذلك الشاب بل وجدتُه غليظاً وقبيحاً. وفي اليوم التالي أُخبِرتُ أنّني سأتزوّج مِن وئام. وبالطبع قاومتُ وصرختُ وبكيتُ وهدّدتُ ولكن دون جدوى. وأسرعتُ بإخبار حسّان بالذي يجري ووعَدَني أن يأتي إلى البلد فور إنهاءه امتحاناته لأنّها كانت مُلزمة لنَيل شهادته.
وجَرَت خطوبتي مِن وئام في سرعة هائلة لِدرجة أنّني خِلتُ أنّني في وسط حلم مزعج وحُدِّدَ موعد الزفاف بعد شهر. ولكثرة حزني أصَابَتني حمّة قويّة أجَبَرتني على البقاء في الفراش وتناول عقاقير عديدة.
وأستغلّ أبي وضعي هذا لِيجيب عنّي على مكالمات حسّان وأفهامه أنّه غير مرغوب به وطلبَ منه ألاّ يتصل بي مجدّداً. ولم أعلم بالذي جرى إلاّ بعد أيّام حين قال لي حسّان عبر رسالة:"لا تخافي... أنا آتٍ... جهّزي نفسكِ." وأسرعتُ بِمحو الرسالة كي لا يقرأها أحد وصليّتُ مِن كل قلبي لينصرنا الله. ووصَلَ حسّان وأتَجه فوراً إلى منزلنا ليقابل أبي ويستفهم منه ما حدث ولماذا. عندها أجابَه والدي:
ـ يا بنيّ... لقد غِبتَ طويلاً وابنتي قد تخسر عرساناً بِسبَبكَ.
ـ ولكنّنا اتفقنا على المدّة مسبقاً وأعطَيتَنا بركتكَ!
ـ وغيّرتُ رأيي!
ـ ولكنّنا متحبّان... وابنتكَ لا تحبّ ذلك الشاب الآخر ما يعني أنّها ستقضي حياتها بتعاسة وأنا أيضاً!
ـ هذه ابنتي وأزوّجها لمَن أرغب... أرجو منكَ أن ترحل وتنسانا.
وخرجَ حبيبي مكسور الخاطر ووعَدَني لاحقاً في رسالة أنّه لن يستسلم. ولم يخطر على بالي أبداً أن شاباً مثقّفاً ومهذّباً مثله سيلجأ إلى أساليب متطرّفة لِذا تفاجأتُ كثيراً عندما وصَلَ وئام في ذاك ليلة وقال لنا أنّ رجلاً مقنّعاً أوقَفه عند المدخل وطلبَ منه ألاّ يصعد إلى شقّتنا وإلاّ سيندم كثيراً. طمأنَه أبي بأنّ المسألة مجرّد مزاح مِن قبل أحد جيراننا ولكنّه لم يبدُ مقتنعاً بالذي قاله.
للحقيقة لم يخطر على بالي أنّ المقنّع هو حسّان للأسباب التي ردّدتُها سابقاً ولكنّني فرحتُ أنّ أحد دسَّ الرعب بِقلب الذي يسمّي نفسه خطيبي. ولكنّ الأمور أخَذَت تتصاعد عندما رأى حسّان أنّ وئام لم يلتزم بتهديداته فقرّرَ أن يثقب إطارات سيّارته عندما ركنَها قرب منزلنا وجاء لِيراني. عندها تأكّدَ الخطيب أنّه مقصود شخصيّاً وطلبَ مِن أبي أن يشرح له ما الذي يحصل. عندها قال له هذا الأخير:
ـ أظنّ أنّ الفاعل هو خطيب ابنتي السابق.
ـ كانت مخطوبة؟ لِمَن؟ ولماذا فُسِخَت الخطوبة؟
ـ قصّة طويلة... لا عليكَ... سأعالج الأمر بِنفسي.
ولكنّ أبي لم يفعل شيئاً لأنّه كان يعلم أنّه قد أساء معاملة حسّان وفضّل الانتظار راجياً أن تهدأ الأحوال. أمّا أنا بِدوري اتصلتُ بِحبيبي وسألتُه إن كان هو الذي خرّبَ السيّارة فأحابَني بِنعم. وطلبتُ منه أن يحترس فلم أكن أريده أن يقحم نفسه بِمشاكل قد تؤذي مستقبله. ولكنّه لم يهدأ بل العكس. ففي ذاك ليلة عندما جاء وئام إلينا مشياً على الأقدام خوفاً على سيّارته وقَعَ بين أيدي حسّان الذي كان ينتظره عند زاوية المبنى حاملاً مسدّساً في يده قائلاً:
ـ اسمع... لا أريد أذّيتكَ ولكنّني سأفعل إن عدتَ ولو مرّة واحدة إلى هنا.
ـ سأقدّم شكوى ضدّكَ! أعرف مَن تكون!
ـ على وجهي قناعاً... ليس لديكَ إي إثبات ضدّي... إن عُدتَ سأقتلكَ!
وارتعبَ وئام وأخَذَ يركض مِن الخوف وعادَ مِن حيث أتى. وحين وصَلَ بيته أتصل بأبي وقال له أنّه لم يعد يريد الزواج منّي لأنّ مجنوناً هدّدَه بالقتل. وبدأ أبي يصرخ مِن الغضب ويتّهمني بالتواطؤ مع حسّان وأخبرَني بالذي حصَلَ مع وئام وأقسَمَ أنّني لن أتزوّج مِن ذلك اللص.
استغربتُ كثيراً أن يكون حسّان قد أستعملَ مسدّساً لأنّني كنتُ أعرفه جيّداً فعندما اتصلتُ به وسألتُه إن كان قد فقدَ عقله قال لي:"لا تخافي... أنا طبيب ولا يمكنّني إيذاء أيّ كان... كان ذلك مسدّس ابن أختي البلاستيكيّ.
ولأنّ والدي كان قد عزّزَ رفضَه لحسّان قرّرَ حبيبي أن يريه أنّه بأقصى الجديّة. لِذا بدأ حسّان يأتي إلى حينّا ويقف تحت المبنى ويصرخ بأعلى صوته:"أعيدوا لي حبيبتي داليا!!!" وأشياء مماثلة. وقصده مِن ذلك كان أن يفهمَ أبي أنّه سيخبر الجميع بأنّني وعِدتُ له وأنّ لا أحد سيرغب بي بعد ذلك خاصة بعدما خطبتُ مرّتَين. واستمرّ الصراخ الليليّ حوالي أسبوع حتى أن طفح كيل والدي واستدعاه إلى البيت لِيتفاهم معه ولِيسأله عما يريده لكي يتركنا بِسلام. فأجابَه حسّان:
ـ الأمر بسيط جدّاً... أريد خطيبتي... وإلاّ سأبقى أضايقكم كل يوم مِن كل أسبوع مِن كل شهر مِن كل سنة!
ـ وتترك دراستكَ؟
ـ حبّ داليا أهمّ مِن كل شيء! لقد أخليّتَ بوعدكَ لي وها أنا هنا ومستعدّ لِفعل أيّ شيء لأستردّها حتى لو أقتضى الأمر خطفها وأخذها بعيداً.
وأدركَ والدي جديّة كلام حبيبي واستنتجَ أنّ ذلك الشاب لن يتراجع. لِذا قال له:
ـ حسناً... لن تكون داليا سوى لكَ.
ـ سأعود إذاً لِمتابعة دراستي... ولكن إذا علِمتُ أنّكَ ستزوّجها أو جوّزتَها لِغيري أقسم...
ـ لا داعي لذلك... فهمتُ الدرس جيّداً.
وطِرتً مِن الفرح لأنّ خطيبي وحبيبي هو رجل بِكل معنى الكلمة وعلِمتُ أنّني سأكون بأمان معه بعدما رأيتُ إصراره عليّ. وبعد سنتَين تزوّجنا أخيراً وها أنا اليوم أمّ أولاد الدكتور حسّان الذي يحبّ الناس ويساعدهم ويعمل على إراحة أوجاعهم.
حاورتها بولا جهشان