في فجر المراهقة، يعشش في جسد الفتاة ويجتاح روحها ويبعث الشتاء في قلبها. وعلى الرغم كونه غير معدٍ، فإن هذا "المرض الخبيث" يرجم كل أفراد الأسرة بالندم، والحزن وعدم الفهم. لطرده، لا حاجة إلى معجزات، بل إلى أطنان من الحب والصبر...
يسود اعتقاد قائل بأن كل شيء يبدأ مع رغبة بالتخلص من بضعة كيلوغرامات زائدة لكي تتحلى "بجسد جميل ورشيق كعارضة أزياء"... فتبدأ المراهقة حمية قاسية لتنجرف في تيار السعرات الحرارية الجارف بمنتجاته الـ "لايت" والخالية من الدسم، إلخ... ويقول الآخرون: "هذه غلطتها! ما عليها سوى أن تقلل من غنجها!". لكن بين ما يعتقده الناس والحقيقة المرّة هوّة كبيرة من عدم الفهم والألم! وهنا صلب المشكلة: فإن كان صعباً على المصابات بالأنوريكسيا الشفاء، فلأنهن يشعرن دوماً بأن أحداً لا يفهمهن وبأن الجميع يحكم عليهن خطأً. "صحيح أننا نفقد الشهية على الطعام لأننا نريد أن ننحف"، تشرح ليز، ابنة الـ 15 ربيعاً، "لكن ما نريده ضمناً هو الهروب من هذا العالم الذي يجعلنا بائسات، والهروب من عقد النقص الوهمية، وأيضاً ـ وخصوصاً! ـ لكي نثبت بأننا قادرات على ضرب هذا المجتمع المهترىء وأحكامه عرض الحائط". أما خبراء النفس فمتفقون على أن الأنوريكسيا هي انتحار بطيء. وفي الواقع، فإن نسبة تتراوح بين 6 و 10 في المئة من المصابين بها يموتون!
نصر بالكيلوغرامات
كانت ليز، صغيرة أسرة من 3 أطفال، فتاة لامعة، جميلة وسعيدة، وخجولة قليلاً أيضاً. عند بلوغها سن 13، راحت تخسر وزناً بشكل ملحوظ وتعاني من نوبات غثيان كلما حاولت ابتلاع لقمة طعام. وقد أصبح وزنها 34 كيلوغراماً بعد أن كان 48، في غضون أشهر قليلة. ونتذكر أمها: "كانت تحتاج إلى أكثر من ساعة لإنهاء وجبة طفل رضيع، كان الأمر أشبه بالجحيم!". وقد كانت نتائج جميع الفحوصات المخبرية جيدة، لكن التقرير الطبي كان قاطعاً: ليز تعاني من فقدان شهية مصحوب باكتئاب حاد. في البدء شعر ذوي ليز بالارتياح لأنهما كانا يخشيان الأسوأ... لكنهما ما لبثا أن اكتشفا أن الأسوأ هو تحديداً فقدان الشهية!
قلبت حالة ليز حياة أسرتها رأساً على عقب. وكان هذا المرض غير معروفٍ أبداً في لبنان وغير مفهومٍ حتى في أماكن أخرى من العالم، ويتطلب متابعة سيكولوجية خاصة والكثير من الحنان ممزوجاً بكثير من الصلابة، وخصوصاً بحرٌ من الصبر.
"بعد أول دخول إلى المستشفى، في قسم الأمراض النفسيّة، استعادت ليز بعض الوزن ولم تعد تواجه صعوبة في الأكل، لكن مراقبتها كانت ضرورية دائماً. "كنت أجد الطعام في جيوب ثيابها، تحت أثاث المنزل... كانت تبتكر ألف حيلة وحيلة لكي لا تأكل، وكان جعلها تكستب 200 غراماً بمثابة مباراة شاقة. فكل كيلوغرام كان نصراً!، تقول أمها.
لسوء الحظ، يدوم النجاح طويلاً لأن المرحلة الثانية من فقدان الشهية تصاحبها نوبات شراهة كبيرة. "كانت ليز ترتمي على ألواح الشوكولا تلتهمها بكميات كبيرة، ولو طلبت تناول الطعام بدلاً منها، أصيبت بنوبة عصبية ونعتتني بالكاذبة ولم تعد تريد تناول أي شيء طيلة أيام... وكنا نعود إلى خانة الصفر! وإن لم أقل لها شيئاً، ازداد وزنها، وكان هذا أسوأ!".
أسوأ، لأن زيادة الوزن بالنسبة لشخص مصاب بالأنوريكسيا هو بمثابة بداية شفاء... وهو ما لا يريده أبداً! وتعترف ليز: "حين أنظر إلى نفسي في المرآة، إذا ما وجدت نفسي بدينة، فذلك ارغمني بأن أكون أكثر نحافة! وحين يلاحظ الجميع إصابتي بفقدان الشهية، أشعر براحة نفسية، وأفكر بأنني لا أريد الشفاء من ذلك المرض، بل أرغب بقضاء العمر في السرير، في عالمي الخاص الذي لا أريد مشاركته مع أحد".
فكل علامة صحة جيدة هي كدليل فشل للمريض. هلهذا، فإن عودة الدورة الشهرية إلى ليز، بعد أشهر من الانقطاع، كان كحاجز كبير أعاد الفتاة، وأهلها وكل الفريق الطبي إلى خانة الانطلاق. "بما أنني أريد أن أموت، فلا أريد أن أكون بصحة جيدة!"، ترد ليز على معالجتها النفسية التي تشرح لها بأن الدورة الشهرية دليل صحة وعافية "أنا أخجل من حصول دورتي، ومن بروز نهديّ... فأنا أفضل أن أكون "أنوريكسية" على أن أكون "طبيعية"! لا أريد أن أكبر لأن ابنة 10 سنوات تبدو أكثر كشخص مصاب بالأنوريكسيا من مراهقة عمرها 15 سنة!".
مرض نرفض الشفاء منه
تلزم وحتى سنوات أحياناً للأقارب ليفهموا طبيعة هذا المرض. فالأنوريكسيون أشبه بمتعاطي الكحول أو المخدرات: لا أحد يعرف لماذا، لكنهم وجدوا استقراراً واكتفاءً ذاتياً في حالتهم، وخروجهم منها يعني العودة إلى حياتهم السابقة، وهو ما لا يريدون أبداً سماعه. ويرتكز علاج فقدان الشهية على إطعام الفتاة لإبعاد خطر الموت عنها ومساعدتها لاستعادة سلوك غذائي طبيعي أو شبه طبيعي. ثم يجب حملها على وعي مرضها، وزيادة ثقتها بذاتها، وإثبات أن الحياة جميلة تستحق أن تعيشها.
وتتم هذه المتابعة على مراحل، قدوم شهوراً طوال وحتى سنين، وتتطلب تعاون فريق طبي ونفسي (طبيب عام، اختصاصي تغذية، طبيب نفسي، معالج نفسي...) وجميع أفراد العائلة عبر علاج عائلي أيضاً.
واليوم، بعد سنتين من الجهود الخارقة، تحسّنت حالة ليز... قليلاً! وهي تتابع دراستها وقد أصبح لديها من جديد بعض الأصدقاء واستعادت بعض نشاطاتها السابقة. ومع أنها ما تزال تتناول الأدوية المضادة للاكتئاب وتتابع زيارة الأخصّائيين النفسيين، لكن ابتسامتها عادت تعلو وجهها من وقت لآخر: "أعرف أنه ما يزال أمامنا طريق طويل قبل إعلان النصر على هذا "المرض الخبيث"، لكن في كل مرة تبتسم فيها ليز، أشعر بها كنعمة من السماء أو نفحة أوكسيجين تعطيني القوة لأتابع دفع طفلتي إلى حياة يمكن لها أن تكون جميلة للغاية!".
ـ حين بدأت أنحف، كنت أحس بلذّة كبيرة لأنني استحوذت على اهتمام أهلي واعتقدت بأنني أتحول إلى نجمة في نظر رفيقاتي! لكنني في الواقع فقدت لذّة العيش، وظللت أخفي ذلك.
ـ ثم فقدت القدرة على التظاهر بالابتسام، فرحت أطرد جميع صديقاتي من حياتي، وجميع الشبان المعجبين بي لكي أكون وحيدة. لم تعد لي مشاعر، صرت أعتبر أفراد أسرتي أعداء لي ولم أعد أحتملهم، لم أعد أستطيع تناول أي طعام لأنني كنت في حالة نفسية سيئة.
ـ بعد فترة قصيرة، حين لاحظ الجميع مرضي، شعرت بالراحة: كنت سعيدة بوضعي وأفعل كل شيء لكي لا أشفى.
ما أشعر به:
ـ أشعر دائماً بأنني مذنبة في كل شيء، حتى في الحرب.
ـ أحدّث نفسي لأنه لم يعد لي أحد أحدّثه ما عدا الأخصائيين النفسيين.
ـ أشعر بالتعب.
ـ أجد نفسي غير نافعة لشيء.
ـ أكره الاستهلال المفرط.
ـ أريد دائماً إثبات عكس ما يقوله الناس.
ـ أشعر بأنني أدنى من كل أترابي.
ـ لا أخاف أحداً وفقدت حياتي لأن كل شيء عندي أصبح بلا قيمة.
ـ أغضب بسرعة.
ـ أزن نفسي 15 مرة في اليوم وأتناول علبة كاملة من المسهلات.
ـ أرى نفسي بدينة. فحين أتخيّل نفسي ممتلئة بالدهون، يصبح لدي دافعاً لكي أنحف أكثر بعد.
ـ لا أطيق رؤية جسدي ينمو.
ـ إن كنت أرفض أن أنمو، فلأنني أرفض أن أشفى.
ـ إن كنت أرفض أن أشفى، فلأن شفائي يعيد إلي ذكريات سيئة.
ألين طوق