أمضت الفنّانة العراقية هيف كهرمان سنوات عمرها الأولى بالانزواء داخل الاستوديو الخاص بها وكان الراديو رفيقها الوحيد. أمّا الأخبار المقلقة فكانت تعجّ في أذنيها بينما كانت تعمل على أقمشتها. وراحت تلك الأنباء تتزايد ففاضت رؤتها بأفكارٍ غريبة حيال ذاك المكان البعيد الذي كانت تقول عنها وطناً. هكذا، إلى أن تحوّلت الأحاسيس إلى أفعالٍ فصوّبت ريشتها في اتّجاهٍ جديد وصحيح.
اليوم، اكتسبت هيف كهرمان شهرةً عالمية وصارت واحدة من أهم الفنّانات المعاصرات في الشرق الأوسط، وذلك بفضل تعبيرها المحزن ولكن الجميل عن عدم المساواة بين الجنسين وعن الحرب والشتات الثقافي. ولدت هيف في بغداد في العام 1981 وبعد 11 سنة فقط هربت من العراق مع عائلتها والتجأت إلى السويد. درست في أكاديمية الفنّ والتصميم في فلورنسا حيث تأثّرت بعصر النهضة الإيطالية واكتسبت مهاراتها التقنية المذهلة قبل أن تنتقل للعيش في لوس أنجليس.
منذ ذاك الحين وفي أقلّ من عقد من الزمن، عُرضت أعمال هيف في أهمّ الصالات وقد فازت بجائزة جميل في متحف فكتوريا وألبرت وطُرح اسمها لقائمة كريستيز التي تضمّ 11 إسماً من الشرق الأوسط لا بدّ من التعرّف إليهم في عالم الفنّ الحديث والمعاصر. ومؤخراً، عُرضت لوحتها The Kawliya Dance في المزاد العلني بمبلغ يفوق 110 آلاف جنيه استرليني. ويمكن فهم قصة نجاح أعمالها بسهولة إذا تابعنا تدرّج حكاية ملهمتها، صاحبة الشعر الداكن والفم المتلوّن بالأحمر، والتي تظهر من خلال أعمالها وتتطوّر مع تطوّر الفنّانة. وتجسّد هذه الملهمة الجميلة قضايا مهمّة ومثيرة للجدل حول الجندر والثقافة والحرب وهوية المرأة ومفاهيم عن الشتات.
"في البداية، كنت أتمسّك بقصص فردية تروي حكايات الظلم تجاه النساء بطريقة شخصية للغاية"، بحسب ما تقول هيف وهي تتحدّث عن أعمالها التي تعود إلى العام 2009. انتقلت هيف إلى الولايات المتّحدة الأميركية ولاحظت أنّها لا تتأثر ولا تُدهش بالفنّ المحيط بها بل تحتاج إلى سلسلة تتماشى مع آرائها ومشاعرها بطريقة عملية أكثر، ومع أفكار الترابط والتبعية. في الوقت عينه، كانت هيف تسمع باستمرار عن الأحداث التي تقطّع القلب وعن الأعمال الهمجية التي تحدث في العراق. بقيت في ذهنها حكايات تشويه الأعضاء التناسلية عند النساء وجرائم الشرف، وتركت بصمةً في فكرها، ما ولّد لديها الحاجة إلى نقل صرخات النساء اليائسة إلى عالم الفنّ وخارجه. أمّا نتيجة تلك المشاعر فيستحيل تجاهلها إذ لا يمكن أن نمرّ مرور الكرام أمام مجموعة Disguised Marionettes التي ابتكرتها هيف، فهي ليست مجرّد لوحات زيتية وحسب. وهذه أيضاً من الأعمال التي لا يمكن تجاهلها والتي تدور حول مواضيع محزنة. أتقنت هيف تعبيراً فنّياً فريداً من نوعه يقيم توازناً داخل المواضيع الصعبة من خلال تلك الملهمة الرزينة والجميلة التي نراها باستمرارٍ لديها.
إنّ هذا العمل الذي يُظهر ثلاث نساء معلّقات في شجرة من مجموعة Disguised Marionettes هو نمطي أكثر من أن يكون مزعجاً. هو غير مريح بما فيه الكفاية ليبعث في الناظر الرغبة في فهم الحكاية، لكنّه في الوقت عينه جميل. ويكمن الجمال في اتّحاد النساء كما تُظهر حركات أياديهنّ وأقدامهنّ، من دون أن ننسى أناقة الوجوه ورقيّ الإحساس. يتدلّى الشعر بكلّ حريةٍ في الهواء وهذا يجسّد فكرة أنّهنّ لم يكنّ متحرّرات في الحياة أمّا الآن فقد تحرّرنَ. "حين أنظر إلى هذه القطعة اليوم، أشعر بذاك الخضوع وبتلك الصرخة الواضحة التي تطلب المساعدة. إنّه عمل يضجّ بالمواجهة أبصر النور خلال فترة مظلمة من حياتي".
خلال هذه الفترة، اكتشفت هيف أيضاً أفكاراً مثيرة للجدل عن الأنوثة وحاولت تبديلها. يكشف عمل Hold Still عن الحميمية والأفعال الأنثوية التي يتوقّعها المجتمع من النساء، وهي أمور لا يراها الرجل ولا يختبرها بنفسه. ويُظهر هذا العمل سيّدتين تتعاونان لإزالة الشعر من فوق الشفة العلوية لكلّ منهما. وهذا يلقي الضوء على رغبة الفنّانة في الكشف عن هذه الأوقات الحميمة بغية تشجيع الناظر إلى اللّوحة على التفكير حيال الضغط الذي يمارسه المجتمع على النساء وحيال الهوية الثقافية وقوّة التماسك بين النساء.
إذا تقدّمنا بضع سنوات إلى الأمام، نلاحظ أنّ هيف تعمّقت أكثر في مواضيع الحرب والشتات. فإنّ الوجوه التي تظهر في مجموعة Search هي مصمّمة بحسب صورٍ مأخوذة من "البطاقات الذكية للترجمة اللغوية البصرية"، وهي كتيّبات عسكرية بحجم الجيب يتمّ توزيعها على القوات الأميركية التي تصل إلى العراق، بغية التواصل مع العراقيّين الذين لا يتحدّثون اللّغة الانكليزية. وتعرض البطاقات سيناريوهات مرتبطة بالحرب. تقوم بطاقة الترجمة اللّغوية البصرية على صورٍ توضيحية تقدّم تعليمات مرسومة. على سبيل المثال، تقوم فكرة رجلٍ مطلوب يتمّ البحث عنه على صورٍ عديدة: صورة لرجل يرفع يديه إلى الأعلى، صورة له وهو يقع على الأرض وأخيراً صورة توضيحية له وهو عارٍ. في وقتٍ تتطرّق فيه أعمال هيف إلى مواضيع مثيرة للجدل تدور حول الجنس والهوية والحرب والسياسة، تجسّد مجموعة Search مرحلة محورية ومهمة في مسار تطوّرها ووضعها الفيزيولوجي. وتبدأ بالتساؤل عمّا إذا كانت تخون نفسها وتراثها، وهذا شعور يواجه العديد من اللاّجئين حين يصيرون في المنفى، كما تشرح. ويظهر ذلك في أجزاء جسم المرأة المتفرّقة والتي يعاد ترتيبها على قطع قماش في وضعيات "بحث" قوية ومختلفة. "بالتأكيد لم يكن تقليد تلك الصور التوضيحية مريحاً بالرغم من أنّها تبدو مألوفة. إنّه حسّ الاندماج، كما لو أنّني أقول أنا الآن واحداً منكم أو بالحري أنا كما تريدونني أن أكون، إنسانٌ ما دون الإنسانية". فإنّ التقطّعات والثقوب والتكسّرات في القماش ترتبط بالأضرار الجسديّة وتُلمح الأطراف الموضوعة في غير مكانها إلى النزوح الفيزيولوجي للنساء وللفنّانة أيضاً. ويُطلب من مشاهد اللّوحة أن يتساءل عمّن هو ذاك "الآخر" وعمّا يعنيه الإنسان. وهذا يؤدّي إلى دائرة علم الوجود. فهل هو إنسان بما فيه الكفاية؟ يوضح تكوين العمل بحدّ ذاته هيكليةً هرمية من خلال التباين في مستويات وضعيات النساء الموجودات في عملية البحث. "في إطار تعقيد الأدوار ضمن ترتيب مستويات الإنسانية من خلال تسليط الضوء على مسارات أخرى وحيثيات ذاتية وتجارب من الحياة، لاحظت أنّ العمل يقاوم ومن ثمّ ينوجد من جديد في عالم جديد من الاحتمالات والتعدّديّات. ويكون هناك نوع من الشفاء في نفسية المهاجر. مساحةٌ يمكن أن يتمّ فيها إصلاح عنف الماضي".
تماماً في أعمال الفنّانة السابقة، تُظهر الملهمات الكثير من الجمال والأناقة في الحركات، فضلاً عن الخضوع. بيد أنّ نظرة الوجه الكائن في أعلى اللّوحة من اليسار فتبدو واثقة وتتّجه مباشرةً نحو الناظر إلى اللّوحة مع اليدين المرفوعتين إلى الأعلى، وهذا يجسّد الخضوع والقوّة في الوقت ذاته. في المقابل، تتّجه نزولاً نظرات وأيادي وأصابع الشخصيات الأربعة الأخرى وتوحي الأجواء برقصة باليه جميلة. تبعث أعمال مجموعة Search رسالة ضعفٍ لكنّها في الوقت عينه تكتسب حساسيةً أقوى. وقد علّقت هيف قائلةً: "كان هناك نوعٌ من التحوّل التدريجي الحاصل بهدف تقوية شخصية المرأة".
وقد رأينا هذا التحوّل التدريجي يتطوّر أكثر وأكثر في الأعمال التي نفّذتها هيف مؤخراً. ففي العام 2019، جاء عمل Not Quite Human ليسلّط الضوء على جسد المرأة، فظهرت الأجسام بصورٍ متطرّفة، ملتوية وغريبة. وإنّ تشوّهاتها الجسدية لا تنتمي إلى صورة امرأة أو أي كائن بشري متروك لوحده. وخلافاً لأعمالها السابقة، نجد في هذه اللّوحة عزماً قوياً وهو يبدو واضحاً من خلال الخطوط الحادّة والنظرات الثاقبة. إذ لم تعد المرأة خاضغة بل قابلة للمواجهة. وطوال الوقت، تبقى في داخلها مسألة التحكّم بالأقدار.
في هذه المجموعة، تركّز هيف على مواضيع السيطرة والجسم. وخلال أكثر الأوقات صعوبةً، خلال وقت الصراع على البقاء تبقى "المساحة الأخيرة للمواجهة هي الجسد". فحين نخسر السيطرة يكون الجسد الملاذ الأخير ويكون الجسد هو الذي يتفاعل. ومن أجل إضافة طبقة أخرى إلى هذه الفكرة، تشرح هيف أنّ الجسد هو أيضاً أول وسيلة تُقدّم لنا لمنح معنى للعالم بالتالي فهو أيضاً زناد التحرّر والمخالفة والتواجد من جديد. "بالتالي، هل يمكن لهذا الجسد "المشوّه" الذي يُنظر إليه على أنّه غير نسائي أن يشكّك في تلك التصنيفات وأن يعيد كتابتها ويقيم شكلاً من أشكال الشفاء البعيد عن الإستعمار".
لوحة The Contortionist 1 من مجموعة Not Quite Human هي متضاربة ومغرية ومثيرة ومحزنة. والوصول إلى هنا يشير إلى أنّ الفنّانة وملهمتها قد خاضتا رحلةً معقّدة، رحلة من التقدّم والتطوّر. على مرّ أكثر من عقد من الزمن، انتقلت الملهمة في مغامرتها من كونها ضحية إلى صفوف المواجهة واكتسبت قوّةً جديدة. تتبدّل ظروف تلك أولئك النساء وتتحسّن، ولكن ببطء. هناك تقدّم وهناك تغيير بيد أنّ النضال يستمرّ ومعه تستمرّ الحاجة إلى توحّد النساء وقوّتهنّ.
نص فيليسيتي ستوكس