أصدرت مؤسّسة الفكر العربيّ كتاباً جديداً بعنوان: "شيون تسي بين الكونفوشيوسيّة والقانونيّة" للفيلسوف والمعلّم الصيني شيون كوانغ (المعروف باسم شيون تسي)، وذلك في إطار سلسلة "حضارة واحدة" التي تُصدرها المؤسّسة، وتُعنى بترجمة أمّهات الكتب من الحضارات والثقافات الأخرى، ولاسيّما الآسيويّة منها، إلى اللّغة العربية.
قام بتعريب الكتاب عن الصينية مباشرة البروفسور وانغ يويونغ (فيصل)، أستاذ اللّغة العربيّة وآدابها في جامعة شانغهاي للدراسات الدولية في الصين، وقامت بمراجعته البروفسورة تشي مينغمين (ليلى)، أستاذة اللّغة العربية وآدابها في جامعة الدراسات الأجنبية في العاصمة الصينية بكين. وهي المرّة الأولى التي يُترجم فيها الكتاب إلى العربيّة، بعدما تُرْجِمَ إلى ثلاث لغات أجنبية هي الإنكليزية واليابانية والألمانية.
يُعتبر الكتاب أحد أهمّ المؤلّفات الفكرية الكلاسيكية الصينية التي تعود إلى أواخر عصر الدول الصينية المُتحاربة، أي قبل الميلاد بأكثر من مئتي عام؛ وهو يتكوّن من 32 فصلاً، ويتميّز بسعةٍ وعمقٍ في الأفكار، وقوّة ورصانة في الأسلوب. وقد استخلص المؤلّف جواهر المدارس الفكرية المتعدّدة في تاريخ الصين القديم، كالمدرسة الكونفوشيوسية والمدرسة التاوية والمدرسة الموهية، والمدرسة الشرعية، واستوعب جواهر العلوم المتنوّعة، كعلم الطبيعة وعلم السياسة وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد والفلسفة والعسكرة والأدب، حتى استحقّ أن يكون هذا المؤلَّف سِفراً جامعاً لبانوراما الحال الفكرية والثقافية في أواخر عصر الدول المتحاربة في الصين.
ينتقد الكتاب نظريّة منشيوس التي تقول "إن الإنسان خيّر بطبعه"، موضِحاً مفهومَه الاجتماعي المتعلّق بالطبع الشرّير للإنسان؛ وإن نظريّة "الطبع الشرّير للإنسان"، وهي أشهر نظريّة بين نظريّات "شيون تسي" الفكريّة، هي أيضاً حَجَر الزاوية في أطروحاته السياسية.
يؤكّد "شيون تسي" في كتابه على التعليم والتأثير البيئيّ، داعياً إلى البحث عن المعلّمين الفاضلين واختيار الأصحاب النُجباء المميَّزين من جهة، ومُتقصّياً الأدوار التي تقوم بها السياسات في إطار "توكيل الملك بالسلطة، وتبيين الأدب والمروءة لتهذيبه، وتفعيل القوانين والأحكام لتنظيمه، وتشديد الجنايات والعقوبات لتقييده" من جهة ثانية.
أما في المسائل المتعلّقة بنظرية السياسة، فيتحدّث "شيون تسي" عن المُثل العليا لسلطة الدولة المركزيّة، وذلك حتى يصبح كلّ ما في العالم موحّداً، أو من ضمن أسرة واحدة. وركّز على تمجيد الآداب وتشديد القوانين وتقدير الفاضلين وتنصيب القادرين ومكافأة المناقب ومعاقبة الجرائم. واعتقد أن الأساس لتنظيم الدولة هو نظام الدرجات المتمثّل في أنّ بين النبلاء والدهماء درجات، وبين الكبار والصغار فوارق، ولكلّ من الفقراء والأغنياء أو الضؤلاء والعظماء مبادئ لائقة بهم، والسبيل إلى إغناء الدولة هو تأسيس الزراعة والاهتمام بها، وتوسيع المنابع، مع تقليص المصاريف، وتيسير الشعب مع توفير التكاليف.
وفي المسائل المتعلّقة بنظرية المعرفة، يعتبر "شيون تسي" أنّ القدرة على معرفة الأشياء هي في الغالب من طبع الإنسان؛ والقابلية للمعرفة هي سُنّةُ الأشياء. ورأى أنّ للإنسان قُدرة على معرفة الأشياء الواقعية، وللأشياء الواقعية قابلية للمعرفة، غير أنّه يرتكب الأخطاء دائماً، فهو مُعتاد على النظر إليها من طرفٍ واحد ويُغَشَّى بجزئيّة واحدة، حتى يكون جاهلاً عن كليّة كاملة؛ فلا بدّ له من أن يصل إلى درجة التفريغ والتركيز والتهدِئة، لكي يعرف سنن الطبيعة ومبادئ الحكم معرفة صحيحة، حتى يُسمّى بأعظم عاقل بيِّن.
يولي "شيون تسي" اهتماماً خاصّاً بأدوار "التنفيذ"، مؤكّداً أنّ الإنسان في معرفته لا يكتفي إلى حدٍّ بعيد بالفهم، بل يعتبر "التنفيذ" غاية ونهاية للمعرفة، حيث قال إنّ ما فهمه، ليس خيراً مما نفَّذه، ودراسته تبلغ غايتها إذا وُضعتْ موْضعَ التنفيذ. وهذه الوحدة بين المعرفة والتنفيذ لها مغازٍ عميقة في تاريخ الفلسفة الصينية.
يتميّز "شيون تسي" بالقوّة والرصانة في أسلوبه العام، وهو يُعتَبر من أفضل كتَّاب النثر في تاريخ الصين، ويرى أنّ الكتابة لا بدّ لها من أن تمتاز برونق أدبيّ، وتعتني بتنميق الألفاظ، وتكون مُتناوبة في البواطن والظواهر للطقوس والمراسم والعواطف والآلات، مؤكّداً على ضرورة مطابقة الأقوال للمبادئ، وضرورة مطابقة العبارات والكلمات للأدب والمروءة.
يتميّز الكتاب بوضوح في المَنهجية والتنسيق، وقوّة التحليل والتعليل، ودقّة التفسير والتبيين، وبراعة التشبيه والجُمل التوكيدية والطباق والمقابلة، وغيرها من الأساليب البلاغية، ما جعلها رائعة في التعبير وغنيّة بالإيقاعات والأوزان. وكان الأديب الصيني "قوه موه روه" يعتبر "منشيوس" و"تشوان تسي" و"شيون تسي" و"هانفي تسي"، هم أربعة أعمدة في صرح النثر الصيني في عصر ما قبل تشين، واصفاً أسلوب منشيوس بالحادّ، وأسلوب تشوان تسي بالجامح، وأسلوب شيون تسي بالقويّ، وأسلوب هانفي تسي بالصارم. وعلى الرغم من أنّ هذه الأقوال صادرة عن دراسة نقديّة، إلّا أن شيون تسي، يُعدّ من الناحية العلميّة، مُفكّراً كبيراً شامخ القوام ومُنقطع المثيل بين المدارس الفكرية المتعدّدة.