تعبتُ كثيراً لأصل إلى ما أنا عليه اليوم. ناضلتُ لأشقّ طريقي وسط عالم ذكوري يرى المرأة كعاملة منزل فقط. فبعد دراسات طويلة إستطعتُ تحقيقها بفضل منحات حصلتُ عليها من جرّاء علاماتي المرتفعة أصبحتُ أخيراً أجلس على الكرسي الذي أستحقّه: مديرة فرع لشركة عالميّة مقرّها الأساسي نيويورك.
لم أجد الوقت اللازم لأتزوّج وأؤسس عائلة وللحقيقة لم أشعر بأي نقص أو فراغ بسبب أعمالي الكثيرة وإنشغالاتي العديدة فكنتُ أسافر كل أسبوع إلى مختلف أنحاء العالم لألتقي بعملاء أو أحضُر ندوات لأحسّن عملي.
وعندما كنتُ أصبحتُ في أوّج حياتي المهنيّة ومحط أنظار الجميع وقدوة لكل إمرأة تطمح للوصول إلى القمّة عندما حدثَ ما لم أحسب له حساب: في إحدى سفراتي إلتقيتُ على متن الطائرة بشخص كنتُ أعرفه منذ زمن بعيد ولم أكن مسرورة لرؤيته فلقد عملتُ لسنين لمحوه من ذاكرتي. شاء القدر أن يكون جالساً إلى جانبي فلم أستطع تفاديهه. بعد ما ألقى التحيّة عليّ سألني عن أحوالي وأخبرته عن عملي فضحكَ وقال:
- أعرف جيّداً تلك الشركة ولديّ أصدقاء في مجلس الإدارة. كم أنّ العالم صغير... من كان ليقول أنّكِ... أنتِ بالذات تصبحين مديرة... أنا مندهش...
علمتُ جيّداً ما كان يقصده. حاولتُ تغيير الموضوع بالتكلّم عن مشقّات السفر ولكنّه تابع:
- أسأل نفسي ما قد يحصل إن علموا...
- ومن سيقول لهم؟
- ربّما شخص عرفكِ في الماضي... ستكون حتماً كارثة على مستقبلكِ... ألا تظنّين ذلك؟
- لو علِمتَ كم عملي هو مهمُ بالنسبة لي كنتَ زنتَ كلامكَ. ناضلتُ كثيراً لأصل إلى هنا ولن أدعَ أحد يفسد كل شيء.
ثم وضعتُ السّماعات على أذنييّ طيلة الرحلة لكي لا أسمع كلامه المبطّن ولكن في الواقع كنتُ قلقة جداً.
عندما حطّت الطائرة قال لي وهو يأخذ حقيبته:
- سأكون على إتصال معكِ فلم ينتهي حديثنا بعد.
وإختفى. بقيتُ جالسة على مقعدي حتى جاءت المضيفة وطلبَت منّي النزول من الطائرة.هل كان سينهار كل ما بنيته بسبب هذا الرجل؟ هل صحيح أن ماضي الإنسان يلحق به أينما ذهب؟ كنتُ سأجد جواباً على هذه الأسئلة بعد بضعة أيّام حين جاءني أوّل إتصال من راكب الطائرة:
- لاقيني في المقهى المقابل لعملكِ في تمام الساعة العاشرة أو... تعرفين ما قد يحصل.
وبالطبع ذهبتُ إلى الموعد. كان فإنتظاري جالساً على طاولة في الزاوية. قال لي:
- لن أطول الحديث فأنتِ إمرأة مشغولة جداً... حتى الآن. أريد مالاً والكثير منه. لا تخافي أستطيع تقسيم المبلغ إلى دفعات شهريّة... كان يوماً سعيداً عندما إلتقيتُ بكِ على الطائرة... وجالست بقربكِ أيضاً... بدأتُ أؤمنُ بالقدر... هل تؤمنين بالقدر يا أمينة؟
- أؤمنُ بالفرص الثانية. أؤمنُ بقدرة الإنسان على البدء من جديد وطيّ صفحات الماضي... أؤمنُ بالقدرات الشخصيّة والعمل الدؤوب. ولكنني لا أؤمنُ بالخوف والإختباء.
- برافو... خطاب جميل جدّاً! أريد مالاً! أفهمتِ؟
- إسمعني جيداً... أمامكَ إمرأة عانت الكثير وأنتَ تعلم بما مررتُ به في الماضي. خلال هذه التجارب تعلّمتُ أشياء كثيرة ودفعتُ ثمن تلك الدروس غالياً. والشيء الأهم الذي حفظتُه هو أنني قادرة على قلب حياتي والبدء من الصفر لو إضطررتُ على ذلك. أنتَ تهدّدني؟ من قالَ لكَ أنني خائفة؟ سيطردونني من عملي؟ أجد عملاً آخراً لأنني موهوبة وقادرة على التأقلم بسرعة. أمّا أنتَ فستكون وراء القضبان لأن الإبتزاز يعاقِب عليه القانون. كيف أُثبتُ عمليّة الإبتزاز؟ بهذا!
وأريته هاتفي الذي كنتُ أسجل به مقابلتنا صوتاً وصورة.
ورأيتُ الخوف في عينيه وهنا علمتُ أنني إنتصرتُ ومن الفريسة إنقلبتُ إلى المفترِسة. حاولَ مجدداً:
- ستخسرين كل شيء... عملكِ وسمعتكِ وأصدقاءكِ... يمكنني تخفيض المبلغ... نحن معارف قديمة و...
- لن ترى قرشاً واحداً مني.
وخرجتُ من المقهى وقلبي يدقّ بسرعة ورجليّ بالكاد تحملني فما زال بإمكانه المضي بخططه وفضح ماضيي للجميع وينتهي كل شيء. لم يبقى لي سوى الإنتظار. مَضَت بضعةِ أيّام كانت من الأصعب ما يمكن فلم أذق خلالها طعم النوم أو ألأكل وكلّما كان يدقّ هاتفي كنتُ أقول لنفسي أن كل شيء إنتهى بالنسبة لي حتى أن إلتقيتُ بالرجل أمام مدخل الشركة. ركضتُ نحوه وصرختُ به:
- أليس عندك ذرّة أخلاق لتأتي حتى هنا؟
- لم آتي لأؤذيكِ... كانَت هذه نيّتي في البدء ولكن... عندما رأيتُ كيف أصبحتِ... أعني إصراركِ وتصميمكِ... أدركتُ أنّكِ لم تعودي تلك المرأة التي عرفتُها وأنّ الماضي أصبح فعلاً وراءك ولن تدعيه يؤذيكِ. أنا راحل ولن أعود فلا تخافي.
- أنا لستُ خائفة!
- أعلم... وعدم خوفكِ هذا هو الذي أخافني.
ورحل وتنفستُ الصعداء فلقد زال كابوسي عني وشبح الماضي إختفى معه. نظرتُ إلى السماء ووجدتها زرقاء ومشمسة كمستقبلي الذي بنيتُه من لا شيء.
حاورتها بولا جهشان