كان قد مضى على زواجنا 25 سنة و كانت حياتي هنيئة. عندما تعّرفتُ الى فؤاد كنّا ما زلنا في الجامعة ندرس الطبّ سوياً. كنا نتنافس على من سيحصد علامات أكثر وكنتُ أربحه دائماً. وعندما تخرجنا طلب يدي وقبلتُ بسرور أن أصبح زوجته. إستمثرنا سويّاً في شراء شقّة وجهّزناها لتصلح لعيادة.
كنّا قد إتفقنا أن نؤجّل موضوع الإنجاب ونركّز في السنين الأولى على العيادة فأنا لم أمضِ نصف عمري أدرس لأجلس في البيت. الطب كان حياتي ولم أتصوّر نفسي أفعل شيئاً آخراً.
ولكن فوراً بعد زواجنا طلب مني فؤاد ألاّ آخذ حبوب منع الحمل كونه يحلم بولد يحمل إسم العائلة. تشاجرنا لأنّ هذا لم يكن ما قرّرناه سويّاً وعندما بدا لي أنّ الأمور ستسوء كثيراً بيننا رضختُ لرغبته متأمّلةً أنّ وجود الطفل لن يمنعني من مزاولة مهنتي. وبعد فترة قصيرة علمتُ أنني حامل بتوأم وأن وضع الجنينين يتطلّب الراحة التامة فوضعتُ مستقبلي المهني جانباً. بدأ فؤاد بالعمل وأنا مكثتُ في السرير أنتظر مجيء طفليَّ آملة أن أبدأ ممارسة الطب في وقت قريب. وُلد طفليّ وانشغلتُ بهماً. وبعد بضعة أشهر حملتُ بطفل آخر. هنا علمتُ أن لا عودة إلى الوراء وأن مستقبلي هو عائلتي فقط.
في هذه الأثناء أصبح زوجي طبيباً مطلوباً وكنتُ فخورةً به فكان زوجاً محبّاً وأباً مثالياً ولكن لم يزل شعوري بالندم على عدم مشاركتي إيّاٍه بالنجاح.
وفي مناسبة يوبيلنا الفضي عرضتُ على فؤاد أن نجدد زواجنا بحفلة رمزيّة كما يفعلون في الغرب. كنتُ قد شاهدتُ هذا التقليد في الأفلام ووجدته رومانسياً جداً ولكن زوجي لم يشاركني الرأي. تجادلنا قليلاً ثم قَبِل على مضض. باشرتُ بالتحضيرات وكأنه زفاف حقيقي: فستاناً جميلاً ودعوات للأصدقاء والأقارب وورود مستوردة من الخارج وبوفيه فاخر.
وعندما جاء اليوم المنتظر كنتُ كالمراهقة أقفز من ضيف إلى آخر ماسكة بيَد زوجي الحبيب. أولادي الثلاث كانوا معنا ليشاركونا فرحتنا وكل شيء كان عظيماً. حتى جاءت لحظة تجديد النذر.
حينها ظهرت إمرأة شابة من بين المدعوين وصرخت لفؤاد:
ماذا تفغل؟ قلتَ لي أنك ستتركها وها أنتَ تجدد نذركَ لها؟
وقبل أن أستوعب ما الذي حصل ركض زوجي نحوها ومسك بذراعها وأخرجها من الصالة وهو يقول لها:
سنتكلم لاحقاً. الآن عودي إلى البيت.
ساد الصمت العميق بين المدعوّين. نظرتُ إلى الجميع بتعجّب ثم إلى فؤاد الذي كان قد عاد وسألته إن كانت هذه مزحة. فقال لي بخجل:
- كنتُ على وشك أن أطلب الطلاق منكِ عندما عرضتِ عليّ وبإصرار هذا الاحتفال. وتلك المرأة هي مساعدتي في العيادة وعشيقتي وأنوي الزواج منها قريباً. لم أكن أعرف أنها ستأتي اليوم إلى هنا وبما أنكِ أصبحتِ على علم بالحقيقة لم يبقَ لي سوى الرحيل. أنا آسف ولكن لم أعد أحبّكِ فلم أعد أرى فيكِ المرأة التي تزوّجتها.
ورحل بصمت وببضع دقائق فرغ المكان من الناس وبقيتُ أنا وأولادي وحدنا. حاولت إستيعاب ما حصل فاليوم الذي رغبته أن يكون تتويجاً لحبّ دام 25 سنة تحوّل إلى كابوساً. نظرتُ إلى أولادي وعلمتُ أنهم كانوا يعلمون الحقيقة. إبني الصغير مسك بيدي وقال:
نعم كنا كّلنا نعلم بهذه العلاقة وحاولنا إقناع والدنا أن يعدل عن قراره وظننا أن تجديد نذركما سيؤثّر على مجرى الأحداث.
حين سمعتُ هذا انهالت دموعي فأحسستُ ليس فقط بالخيانة بل بخيبة الأمل. كنت قد وهبتُ هذا الرجل أفضل سنين عمري و أنفقتُ كل مالي الخاص على العيادة وتركت مهنتي كي أوفّر له ولأولادي مناخاً عائلياً سليماً وها أنا أُرمى كغرض قديم لا حاجة له. ركضتُ إلى غرفتي وأقفلتُ الباب ورائي وبكيتُ كثيراً.
في الصباح إرتديتُ ملابسي الرياضية وذهبتُ إلى الكورنيش لأمشي وأفكّر ماليّاً بمصيبتي. كيف لم ألاحظ شيئاً كل هذا الوقت؟ هل لأنه كان بارعاً بالغش والمكر أو لأنني كنت منشغلة بتأمين كل سبل الراحة له ولأولادي؟
والغريب في تلك اللحظة أنني رغم حزني العميق لم أفكّر إلاّ بشيء واحد: إستعادة حياتي التي ضاعت منّي وبأسرع وقت.
فتوجّهت فوراً إلى منزل صديقتي التي كانت أيضاً محامية لأستشيرها. وعندما أخبرتها بما حصل تفاجأت كثيراً:
فؤاد فعل هذا؟ وبعد كل هذه السنين؟
يريد الطلاق ليتزوّج من هذه الفتاة. جئتُ إليك لأوكّلكِ بقضيّتي. أريد أن يدفع الثمن. لا ترحميه فهو لم يرحمني. أخذ شبابي ومستقبلي ومالي وأهانني أمام عائلتي وأصدقائي وكل هذا من أجل امرأة شابة تجعله يشعر أنه قوي وجذّاب. أما شعوري أنا، فلم يكترث له. لطالما كان يغار مني... منذ ما كنا في الجامعة وكان يحاول أن يكسرني. جعلني حامل مرّتين متتاليتين ليقضي عليّ وينعم بالعيادة لوحده.
ونفّذت صديقتي ما طلبته منها. حاول فؤاد التفاوض ولكنني لم ألين. أُجبر على القبول بشروطي لأنه وعد عشيقته بالزواج ولأنه علم أنني لن أقبل به بعد الآن. أخذتُ منه المنزل والسيّارة ونصف العيادة ونصف ثروته. ولم أكتفِ بهذا فبعد بضعة أياّم إنتظرتُ بسيّارتي "خطيبة" فؤاد عند خروجها من العيادة وطلبتُ منها الصعود معي. خافت منّي:
- لا تؤذيني أرجوكِ فأنا لا ذنب لي
- أنتِ لا تهمّينني فلو لم تكوني أنتِ فكانت ستكون فتاة أخرى. إصعدي بالسيّارة لديّ عرض لكِ.
وعندما أصبحنا لوحدنا قلتُ لها:
- إسمعيني جيّداً... الآن وقد أخذتُ تقريباً كل ما يملكه فلم يعد سوى رجل عادي يكبركِ بعشرين سنة. وقبل فترة طويلة لن يستطيع أخذكِ الى عواصم أوروبيّة أو شراء الجزادين والأحذية الفاخرة لكِ. ستهدربن شبابكِ مع عجوز فقير. هل هذا ما تحلمين به؟
- لا...
- لذا أعرض عليكِ التالي: مبلغ من المال يخوّلكِ فتح بوتيك بإنتظار قدوم الشاب الذي سيختاره قلبكِ مقابل ترك فؤاد فوراً وعدم رؤيته إلى الأبد. ما رأيكِ؟
لم يلزمها سوى لحظات لتقتنع فتركَت فؤاد الذي وجد نفسه وحيداً يندم على حياته معي. أمّا أنا، فلم يكن لديّ الوقت لأفكّر به فكنتُ مشغولة بتحويل قسمي من العيادة إلى مركز لمعالجة المشاكل الزوجيّة بمساعدة طبيب نفسي. كانت هذه طريقتي لمنع ما حصل لي أن يحصل للآخرين.
حاورتها بولا جهشان