دخلت صفّ التأمل واليوغا، في واحد من أبراج دبي العملاقة، وجلست القرفصاء بانتظار أن أسمع قصة المُرشدة التي تشاركنا نبذات من حياتها الخاصّة لعلّ ذلك يقرّبنا منها، ويمنحنا بالتالي مادة روحيّة للاتعاظ بها. بصوتها الهادئ والمُطمئن، قالت:
"بدأت الحالة بعقدةٍ صغيرةٍ في معدتي، جعلتني أستوي في جلستي خلف المقود وأضع يدي بحركة لاإرادية على بطني وكأنني أتحسّس مصدر العقدة. لم أُعر الأمر انتباهاً.
ثانية، ثانيتان، ثلاث ثوانٍ.
تعود العقدة من جديد. هذه المرة، هي تحكم بقبضتها على معدتي وكأنها تلفها بالحبال. أضغط بيدي من جديد على مصدر الإحساس وأبدي الانزعاج لبداية ألم لا مبرّر له.
ثانية، ثانيتان.
وإذا بالعقدة تتحوّل شيئاً فشيئاً الى موجةٍ عارمة، حارّة ثم باردة تصعد إلى صدري، ثمّ حلقي فإلى رأسي، فيعرق جبيني ويداي تنزلقان على المقود بسبب العرق الذي أصابهما. تتسارع دقّات قلبي وكأنني أرى خفقانه الأهوج وأسمع طرقاته بمطرقة على الرأس. أطرافي تنمّل. ينقطع نفسي أكثر. يضيق بي فضاء سيارتي. أحس بالاختناق وضغط السقف عليّ. يا ربّي! هناك موجة أخرى تمعن في مدّها وجزرها داخلي، وتلحق بها أخرى...
ها هي تصل الى وجهي فأشعر به يلتهب وفجأة يتصبّب بالعرق البارد، وأمام عينيّ غشاء أسقط فجأة. ماذا يحصل لي؟ ما حالة الهلع هذه التي تصيبني فجأة؟
قلبٌ هائج، نفسٌ متقطّع، صدرٌ ثقيل، ومعدةٌ معقودة. وكمٌّ من الأحاسيس المخيفة التي لا توصف... الضوضاء لا تحتمل! أجهش بالبكاء. دموعي تنهمر. طعمها مرير. تثقل رِجلي اليمنى على دوّاسة الوقود. فتزيد سرعتي.
"تن... تن... تن..." يتكفلّ صوت مؤشّر السرعة في سيارتي بإعادتي بأن أستردّ انتباهي الى الطريق. كنت، في حالتي هذه، قد تجاوزت حدّ السرعة المسموح به. وفي أي لحظة، كنت سأتسبّب لنفسي بحادث سير مروّع".
أخذت نفسا عميقاً، ثمّ تابعت: "توقّفت على يمين الطريق. أطفأت السيارة وترجلت منها أستنشق الأوكسيجين برغم الحرّ القائظ. وتذكرت حينها، بعد أن هدأت أعصابي، وخفتت العاصفة في رأسي، أنني قد سمعت عن حالة مماثلة كالتي أصابتني، في إحدى حلقات التأمل وصفوف اليوغا التي بدأت بالانضمام إليها في ذلك الوقت. فمنذ فترةٍ كنت أحسّ بالضغط الشديد بسبب ساعات العمل المُرهقة.
رجعت الى البيت، وفوراً بدأت بالبحث عن توصيف لحالاتي عبر صفحات الانترنت. وبالفعل وجدت لحالتي اسماً: لقد أصبت بنوبة ضغط وهلع، سببها الرئيسي الضغط المتواصل والممتدّ على فترة طويلة، وتكديس المشاعر السلبية بدل تصريفها بطريقة صحية".
كانت مرشدتي، وهي صديقتي أوّلاً، بدأت بحياتها المهنيّة مُبكراً وهي في مطلع العشرينات. وكانت قد أخبرتني قبلاً كيف أنّها تسلّمت منصب مديرة للإعلام والعلاقات العامة في شركة عالمية بالرّغم من صغر عُمرها. فتسلّمت مهمّات كبيرة وقامت بعملها باحترافيّة عالية بَنَت لها سريعاً صيتاً قويّاً في الوسط الإعلاميّ العربي. واكتسبت حياتها وقتها نمط المدينة في صعود نجمها السريع وفوران حركة العمران ووفرة الاستثمارات للمشاريع العملاقة. فكلما صعد برجٌ وشُّقت طريق "هايواي"، رأت نهارها يتمدّد ويتوسّع ليستقبل فرصاً لامتناهية للتقدّم المهني، وطموحاً جارفاً لا حدود له إلا المقدرة العقلية. تذكر كيف أنّها اعتدّت بنفسها، وبشخصيّة "البيزنس وومن"، امرأة الأعمال التي صقلَتها بتأنّ شبكة العلاقات العامّة الواسعة، والسفر الدائم في درجة الأعمال، وفريق العمل الكبير الذي يأتمر بطقطقة أصابعها، وبالطبع المردود الماليّ الدسم.
جالت صديقتي بعينيها على الحاضرين: وأعلنت: "للنجاح ثمن غالٍ، يرتفع سعره أكثر حين يكون الثمن هو الصحة والحياة الشخصية. لم أعِ لهذه الحقيقة إلا بعدما تكرّرت نوبات الضغط والهلع، وقَصُر الوقت بين الواحدة والأخرى. فعلمت بأن النوبات ما هي إلّا إنذار ينبئني بالخطر وبضرورة التمهّل حفاظاً على صحتي، العقليّة والجسديّة على السواء. فقرّرت حينها أن أستشير معالجة نفسانية ساعدتني على ترتيب الأفكار المتواردة الى ذهني في لحظات الضغط الشديد، والعمل عليها لتحويلها إلى منحىً إيجابيّ. وأخذت قراراً بالتخفيف من وتيرة حياتي، والاهتمام بذاتي، ولو لمرة، بدل الاهتمام برصيدي المصرفيّ".
"فكّروا بإيجابيّة"، قالت لنا صديقتي المُرشدة. "خذوا نفساً عميقاً، أغمضوا أعينكم وتأمّلوا". أنتم لستم السرعة. أنتم لست الفوران. أنتم من تقرّرون أن تكونوا. الجسم السليم، والعقل السويّ".
"تن... تن... تن... تن...". هذا ليس طنين مؤشر السرعة. إنه رنين هاتفي المحمول، الذي أشار الى أن ساعة التأمّل اليوميّة التي علّمتني إيّاها مُرشدتي، قد انتهت. آخذ نفساً عميقاً. أفتح عينيّ، وأنهض الى يوم هندسته على شاكلتي: متوازنٌ وإيجابيّ.
دلال حرب.