هل زوجة أبي مسكينة أم شريرة؟ (الجزء الثاني)

إحتارَ المُحقِّق هو الآخَر، فكيف له أن يعرِفَ مَن يكذِب: أبي أو وسلام، ومَن يقول الحقيقة؟ بقيَ أبي على أقواله وزوجته على أقوالها، فرحتُ إلى المشفى لأسأل والدي عمّا جرى بالتفاصيل في تلك الليلة. هو استاءَ، لأنّ الشرطة طرَحَت عليه مئة سؤال وسؤال، وملَّ مِن رواية القصّة نفسها، خاصّة أنّه كان في حالة صعبة. لكنّني بقيتُ مُصِرًّا على معرفة الحقيقة. عندها هو قال:

ـ كان يومًا كباقي الأيّام وكنتُ وسلام نمزَح ونضحَك كعادتنا. دخلتُ المطبخ لأرى ما سنأكله عند المساء، ففتحتُ الوعاء لأرى ما في داخله عندما نادَتني سلام، فاستدَرتُ نحوها ورأيتُها وبِيَدها سكّين كبير غرسَته في صدري وهي تصرخ: "مُت أيّها العجوز!". بعد ذلك، كلّ ما أتذكّره هو أنّها تكلّمَت عبر الهاتف مع أحَد وقالَت: "لقد فعلتُها... هو مات! ولدى سماعي أنّني مُتُّ، فقدتُ وعيي واستفَقتُ هنا في المشفى. تصوَّر أنّني رأيتُ دَمي يسيل على أرض المطبخ، يا بُني! هل تتصوّر ذلك؟!؟ دَمي!

 

هدّأتُ أبي الذي بدأ يبكي بحرارة، وتركتُه لأقصد القسم وأتحدَّث مع المُحقِّق، لأعرفَ منه أين أصبحَت القضيّة بعد أن أدلى أبي بشهادته، وهو قال:

ـ للحقيقة سيّدي، إنّها كلمة أبيكَ ضدّ كلمة زوجته... بفارِق أنّ سلام قد أخبرَتكم أنّه يُعنِّفُها.

 

ـ صحيح ذلك.

 

ـ فرواية الدفاع عن النفس مُقنِعة، مع أنّ أباكَ يرفضُ تهمة التعنيف.

 

ـ صحيح أيضًا... لكن أرجوكَ أن تُتابِع القضيّة، فيصعَب عليّ أن يكون أبي بريئًا ولا يُصدِّقه أحَد.

 

ـ لَم نُقفِل التحقيق بعد، لا تخَف سيّدي.

 

عدتُ إلى بيتي قلِقًا، فكيف أنظر إلى سلام مِن دون أن تمُرّ برأسي فكرة أنّها قد تكون كاذِبة ومُجرِمة، وتعيشُ تحت سقف واحِد معنا؟ ماذا عن أولادي وزوجتي، هل هم بخطر؟ لِذا خطرَت ببالي طريقة لإبعادها مِن دون أن أتّهمها:

ـ سلام... كنتُ لتوّي عند المُحقِّق، وهو اتّهمَني بالاصطفاف معكِ وحَجب الحقيقة عن التحقيق... يجِب أن ننفصِل، فهذا ليس لصالحكِ أبدًا... سآخذُ وأخي لكِ غرفة في فندق، وهكذا لن يتّهمُنا أحَد بالتآمُر.

 

قبِلَت زوجة أبي بالعرض، ونقَلَت أمتعتها إلى ذلك الفندق مِن دون أن تطرَح أيّ سؤال. أسرَعتُ بإخبار المُحقِّق أين هي سلام، وهو استاء منّي لأنّني كنتُ قد وعَدتُ بإبقائها معنا، لكنّه تراجَعَ قائلًا:

ـ لا... بل إنّها فكرة مُمتازة... الفندق فكرة مُمتازة!

 

لَم أفهَم قصده، لكن لاحقًا إتّضَحَ أنّه وضعَها تحت المُراقبة، فلوحدها، ربما قد تشعُر سلام بحريّة التصرّف وتُفضَح بسرعة وسهولة أكبَر. مرَّت الأيّام والأسابيع، وعادَ أبي خلالها إلى بيته، فقرَّرتُ أن أسندَ له عامِلة منزل لتهتمّ به لأنّه كان لا يزال ضعيفًا، لكنّه رفَضَ قطعيًّا وجود أيّ أحَد معه قائلًا إنّه قادِر على الاهتمام بنفسه. بقيتُ وأخي وزوجتانا نزورُه بشكل دائم، حتّى لو لَم يُعجِبه الأمر، فكِدتُ أن أفقِده، وتلك الفكرة كانت صعبة الاستيعاب.

إتّصَلَ بي المُحقِّق ذات يوم طالِبًا رؤيتي، وكان قد مرَّ وقت لا بأس به، فاستغرَبتُ الأمر. لكنّني تفاجأتُ حين هو قالَ لي:

ـ لدى زوجة أبيكَ زائر دائم.

 

ـ ماذا تعني؟!؟

 

ـ هناك رجُل يزورُها في الفندق باستمرار. لقد التقَطنا هذه الصورة له هل تعرِفُه؟

 

ـ لا... وجهُه غريبٌ عنّي تمامًا. قد يكون أحَد أقارِب سلام.

 

ـ نحن بصدَد التفتيش عن هويّته.

 

ـ لماذا لا توقِفوه؟

 

ـ نحن الآن نُراقِب ما يدورُ، لا عليكَ.

 

أخبَرتُ زوجتي عن الأمر، وهي، ليُسامحها الله، راحَت إلى سلام لتُعاتِبها بقوّة لاستقبالها رجُل في الفندق. لكنّ زوجة أبي نكرَت أن يكون عشيقها، بل هو ابن عمّها الذي يأتي إليها ليطمئنّ على حالها. ومنذ ذلك الحديث، إختفى الرجُل نهائيًّا. دارَ شجار بيني وبين زوجتي، فهي مِن دون قصد طبعًا، أخافَت الثنائيّ الذي قرَّرَ عدَم اللقاء مُجدّدًا بعد أن فهِما أنّ الشرطة تُراقِبهما. لَم أقُل شيئًا للمُحقِّق كَي لا يعتقِد أنّ لزوجتي ضلع في القضيّة، وظنَنتُ أنّنا لن نعرف الحقيقة أبدًا.

طلََّقَ أبي زوجته طبعًا، واحتَرتُ ماذا سأفعَل بسلام، فهي لَم تكن قادِرة على العودة إلى أهلها، خاصّة أنّ هناك شكوكًا حولها، وأنا مِن جهتي لَم أكن قادِرًا أن أصرِف على غرفة الفندق إلى أجَلٍ غير مُسمّى. لكن في أحَد الأيّام، إختفَت سلام بدورها مِن دون أن تودِّعنا، فهي أخذَت أمتعتها وغادرَت الفندق ليلًا وأقفلَت خطّ هاتفها. للحقيقة، جزء منّي ارتاحَ مِن تلك المسؤوليّة، لكنّ الشرطة بحثَت عنها مِن دون أن تجِدها، واستنتجوا أنّها غادَرت البلاد بطريقة غير شرعيّة.

الحمد لله، إنتهَت المسألة مِن تلقاء نفسها... أو هكذا ظنَنّا.

فبعد أن تحسّنَت حالة أبي تمامًا... أرادَ الزواج مُجدّدًا! وقَفتُ وأخي في وجهه وحاوَلنا مَنعه مِن ارتكاب خطأ آخَر، لكنّه رفَضَ كلّ الحجَجَ التي قدّمناها له. وذات يوم، راحَت زوجتي وزوجة أخي إليه لإقناعه بالتراجع عن الزواج، وعادَت المرأتان مُرتعبتَين إلى حدّ لا يوصَف. وهذا ما أخبرَتني زوجتي:

ـ كنّا مع أبيكَ في الصالون نتحدّث معه عن عدَم وجوبه الزواج مُجدّدًا، نظرًا لِما حدَثَ مع سلام وكيف كادَ أن يموت، وإذ به يصرخ بنا: "رجُل مثلي لا يموت! يموت الجميع إلّا أنا! كان يجدرُ بي أن أطعَن أنا تلك الغبيّة البلهاء حين تسنّى لي الأمر! فالدروس التي كنتُ أُلقِّنها لها منذ مجيئها لَم تكن على ما يبدو كافية! هؤلاء جلدهم قاسٍ للغاية! أجل، الضرب والتجويع لَم يكونا كافيَين، فكان عليّ قتلها!"... فهرَبنا بسرعة إلى هنا!

 

لو لَم تكن زوجتي هي التي تروي لي تلك الأحداث، لمَا صدَّقتُها على الاطلاق! مسكينة يا سلام، هي كانت تقولُ الحقيقة! رحتُ إلى القسم بسرعة وبرّأتُ سلام على الفور، وقالَ لي المُحقِّق إنّ الرجُل الغامِض هو بالفعل ابن عمّها. أمّا بالنسبة إلى مكان وجودها، فهي لا تزال في البلَد، وبالتحديد عند ذلك الابن العمّ وعائلته بعد أن مكثَت لفترة في قرية بعيدة.

سُعِدتُ لسلام، فهي صارَت بعيدة عن أبي، ذلك الجلاّد القاسيّ الذي أخفى لعبته جيّدًا. لكنّني طرَحتُ على نفسي وعلى أخي سؤالًا بغاية الأهمّيّة: هل كانت أمّي أيضًا ضحيّته؟ فإن كانت سلام قد أخبرَتنا ما يحصل لها، فربّما حفظَت أمّنا سرّها لنفسها مِن أجلنا ومِن أجل الحفاظ على عائلتنا؟ يا إلهي... فكرة أن تكون والدتي عانَت بصمت لسنوات طويلة كانت لا تُطاق!

لِذا رحتُ أرى أبي الذي قاطعتُه منذ ما علِمتُ حقيقته، وتحدّثتُ معه عن أمور عديدة ثمّ سألتُه عن مشروع زواجه الجديد، وهو قال:

ـ ربّما أنتم على حقّ فلا يجب أن أتزوّج، فلا أريدُ "سلام" أخرى!

 

ـ لَم يكن حظّكَ جيّدًا معها... لكن مع أمّي كنتَ سعيدًا.

 

ـ سعيدًا؟!؟ دَعني أضحَك! كلّهنّ سواء! لسنَ فالِحات إلّا بالتذمّر طوال النهار!

 

ـ لكنّني لَم أسمَع أمّي تتذمَّر يومًا.

 

ـ هذا لأنّني ربَّيتُها جيّدًا! إسمَع يا بُنَي... النساء كالحيوانات، علينا تربيتهنّ منذ البدء على الطاعة وتقبّل كلّ شيء، منذ البداية!

 

ونظَرَ إليّ أبي وابتسَمَ... وكرهتُه إلى أقصى درجة! غادَرتُ منزله صامِتًا ولَم أعُد إلى هناك حتّى اليوم، وكذلك أخي الذي بدأ بالبكاء لدى سماعه ما جرى لأمّنا. بقيَ أبي لوحده تمامًا إلى حين تزوَّجَ أخيرًا مِن امرأة قيلَ لنا إنّها قويّة وذات شخصيّة لا تُقهَر. لا أدري ما يدورُ بينهما، لكنّها تبدو وكأنّها هي مَن يحكم في البيت، وأنا سعيد مِن أجلها!

وحتّى اليوم، لَم أستوعِب كيف أنّ أمّي عانَت بصمت مِن حياة مليئة بالذلّ والألَم والخذلان وأضاعَت عمرها وماتَت كئيبة. كَم كانت تُحِبّنا لتفعَل ذلك! لكنّ الثمَن كان باهِظًا للغاية!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button