هل زوجة أبي مسكينة أم شريرة؟ (الجزء الأول)

أتذكّرُ تمامًا يوم عرّفَنا أبونا على زوجته الجديدة وكيف أنّني وأخي ذُهِلنا بجمالها وصِغَر سنّها. غضِبنا منه كثيرًا لأنّه وجَدَ بسرعة التي ستَحلُّ مكان أمّنا التي كانت قد ماتَت قبل شهرَين فقط. لكنّنا لَم نُجادِله لأنّه كان انسانًا يعرفُ تمامًا ماذا يُريد ولا يقبَل النقاش. على كلّ الأحوال، كنتُ وأخي قد كبِرنا وتزوّجَ كلّ منّا، فليفعَل أبونا ما يحلو له! مِن جهّتها، كان مِن الواضح أنّ سلام، زوجة أبي الجديدة، كانت تسعى وراء الراحة المادّيّة التي سيؤمِّنها لها والدُنا إذ أنّها كانت مِن عائلة فقيرة.

حاوَلنا تقبّل وجود سلام في حياتنا وعائلتنا، وعلى مرّ الوقت استطَعنا إعتبارها وكأنّها واحِدة منّا مع أنّها لَم تكن تبدو لنا مُرتاحة أو سعيدة. فكان هناك حزن دائم في عَينَيها وكانت بالكاد تبتسِم. سألناها عن الأمر وهي أجابَت أنّ عليها الاعتياد على حياتها الجديدة وأنّها ستكون بخير بعد فترة. لكنّ أبانا كان سعيدًا للغاية وبدا لنا أنّه يُعامِل عروسه برفق ومحبّة ويجلِبُ لها الهدايا ويأخذها إلى أفضل الأماكن.

زياراتنا للثنائيّ كانت أسبوعيّة لحضور الغداء العائليّ الذي جمَعَنا كلّنا حين كانت لا تزال أمّنا على قيَد الحياة، والذي أرادَ أبونا أن نُحافِظ عليه بعد مماتها، ليس مِن أجل ذكراها، بل ليرانا جميعًا ويقصَّ لنا كعادته أخباره التي تُبرِز تفوّقه الدائم على الكلّ وفي كلّ شيء. وأثناء تلك الغدوات، كانت سلام تجلِسُ صامتة بيننا وتبتسِم رغمًا عنها لأخبار زوجها المُضحِكة. زوجتي وزوجة أخي حاوَلتا الترفيه عنها قدر المُستطاع لكن مِن دون جدوى. فكان مِن الواضِح أنّ تلك المرأة الجميلة والصبيّة كانت تعيسة. شيء واحِد كان يُفرِحها، وهو أولادنا الصغار، فهي كانت تجِدُ فيهم رفاق لعِب لأنّها كانت لا تزال صغيرة، خاصّة بالنسبة لرجُل مِن سنّ أبيها لبَل أكبر. لكنّنا لَم نكن نعرِف إن كانت قد انجذبَت إليه بسبب حالته المادّيّة أو لأنّها أحبَّته.

تكلَّمتُ وزوجتي عن حزن سلام وهي قرّرَت أن تستفسِر منها أكثر، وهكذا تقرّبَت المرأتان مِن بعضهما وعلِمنا أنّ أبي، ليُسامحه الله، عصبيّ للغاية معها، فهو يشتُمها ويضربها ويُعيّرُها بأصلها المتواضِع. إضافة إلى ذلك، المسكينة لا تأكل شبَعَها، بل تنتظرُ بفارغ الصبر أن تجتمِع العائلة لتذوق المأكولات الطيّبة.

في بادئ الأمر لَم أُصدِّق كلامها على الاطلاق، فصحيح أنّ لأبي شخصيّة قويّة وأنّه يُحِبّ أن يُطاع وأن تكون الكلمة الأخيرة له، لكن أن يُعامِل زوجته هكذا، فلا! لَم أثِر الموضوع أمامه لأنّ زوجتي أقسمَت لسلام أنّها لن توصِل الكلام لأبي، فذلك الأخير قد يؤذيها أكثر.

لكن في لقائنا العائليّ الذي تلا، فعلتُ جهدي لأرى كيف كانت الديناميكيّة بين والدي وزوجته، ولاحظتُ تمامًا نفوره منها وكيف كان ينظرُ إليها بغضب واضِح وبالكاد يردّ عليها عندما تُكلّمه. حزِنتُ كثيرًا، ليس فقط مِن أجل سلام، بل أيضًا مِن أجل أبي لأنّه تحوَّلَ إلى انسان بغيض ذو تصرّفات لا يتقبّلها أحَد. فكنتُ وأخي نُعامِل زوجتَينا باحترام ومحبّة، حتّى عندما كان يقَع شجار بيننا. ما الذي حصَلَ له ليصِل إلى هذا الحدّ مِن العنف؟ هل هو ندِمَ على زواجه مِن سلام؟ على كلّ الأحوال، هذا لا يعذُر تصرّفاته معها على الاطلاق!

تقرّبَت زوجتي وزوجة أخي مِن سلام وصارَتا تتّصلان بها يوميًّا للاطمئنان عليها، وبقيَ الوضع على حاله في ما يخصّ تعدّيات أبي عليها. وأطلَعَت سلام المرأتَين على نيّتها بإخبار الشرطة عمّا يجري إذ أنّها تخاف على حياتها. لكنّنا جميعًا أقنعناها بعدَم قصد الشرطة بل الانتظار قليلًا ريثما نجِد حلَّا لمُشكلتها. فالمصيبة أنّني لَم أكن قادِرًا على مواجهة أبي خوفًا مِن أن يُعاقِب سلام ويؤذيها، لكن مِن جهة أخرى، كيف كنتُ سأحمِله على التوقّف عن شتمها وضربها؟!؟

الحلّ الوحيد كان أن أُكلِّم أبي عن "صديق لي" يُعنِّف زوجته وأن أصِفه له بشتّى النعوت البشِعة ليفَهم أنّ ما يفعله هو خطأ كبير لا يقبَله أحَد. تأثََّرَ والدي بقصّة "الصديق" ونعَتَه هو الآخَر بالجبان والندِل فاستغرَبتُ كثيرًا. وأقفَلتُ الموضوع قائلًا: "ذلك الرجُل يستحِقّ أن تتركه عائلته وأن يدخل السجن!". وافقَني أبي الرأي بحماس! عندها لفتُّ نظره، بطريقة لبِقة، إلى تصرّفه مع سلام يوم كنّا مُجتمعين حول الغداء، وهو أجابَ ضاحِكًا: "وهل تُشبِّهُني بصديقكَ؟ دارَ بيني وبين زوجتي مُناكفة صغيرة قَبل مجيئكم، كما يحصل بين كلّ الأزواج، وتصالَحنا بعد رحيلكم. وكأنّ ذلك لا يحصلُ بينكَ وبين كنّتي!". كان أبي على حقّ، على الأقلّ في ما يخصّ المُناكفات الزوجيّة، لكن ليس في ما يخصّ باقي التفاصيل التي عرفتُها عن طريقة مُعاملته لزوجته. سكتُّ كَي لا أفضَح أمر سلام وتتحمّل تداعيات كلامي.

عدتُ خائبًا إلى البيت وأخبَرتُ زوجتي عن الحديث الذي دارَ بيني وبين والدي، وهي أعربَت عن استيائها الكبير حيال نكرانه لِما يفعله بتلك المسكينة. بعد ذلك، جلَسنا سويًّا واتّفقنا على نقطة مُهِمّة: على سلام أن تترك أبي وتعودَ إلى أهلها قَبل أن تتفاقَم الأمور وتخرج عن السيطرة.

في اليوم التالي، زارَت زوجتي سلام أثناء غياب أبي ونصَحتها بأن ترحَل بأسرع وقت حفاظًا على سلامتها النفسيّة والجسديّة. لكنّ المسكينة قالَت:

ـ وأعودُ إلى أهلي؟!؟ أنتِ لا تعرفينَهم!

 

ـ لماذا؟ ما الأمر؟

 

ـ هم باعوني لذلك الرجُل البغيض! نحن فقراء... بل أكثر مِن فقراء! وعندما رآني حماكِ في ذلك المحلّ حيث كنتُ أعمَل وأُعجِبَ بي، فتَّشَ عن اسم وعنوان أبي وقصَدَه وطلَبَ منه يَدي. إتّفَقَ الرجُلان مِن دون أخذ رأيي ومُقابِل مبلغًا مِن المال أرضى عائلتي. ماذا تظنّين سيفعلون بي إن عدتُ؟ خاصّة إن طلَبَ زوجي استرجاع ماله منهم. لا... سأبقى وأتحمَّل... فهذا قدَري... أو أقرِّر أن أنهيَ عذابي بنفسي.

 

عادَت زوجتي كئيبة إذ أنّها شعرَت بحيرة تلك الصبيّة وبكَت وهي تتصوّر أنّ ابنتنا قد تتزوّج يومًا مِن رجُل عنيف كأبي. غضبتُ كثيرًا وواسَيتُها وبدأتُ أُفكِّر بطريقة لإنقاذ سلام، فضميري لن يتحمّل مسؤوليّة حدوث مُصيبة لسلام أو أن تُنهي حياتها بسبب بؤسها وضياعها ووحدتها.

مرَّت أيّام على هذا الحديث حين جاءنا إتّصال مِن الشرطة مفادها أنّ... أبي في غرفة العناية الفائقة بعد أن طعنَته سلام بسكّين مطبخ حين هو هاجمَها. شعرتُ بالسماء تسقطُ على رأسي، فكنتُ بانتظار فاجِعة، لكن ليس تلك. ركضتُ إلى المشفى لأرى أبي، لكنّه كان في غيبوبة. قصدتُ القسم حيث كان ينتظرُني المُحقِّق، وهو سألَني أسئلة كثيرة وأنا أجبتُه بضمير: أجل، كان أبي عنيفًا مع زوجته وهي كانت خائفة منه لأقصى درجة. إستجوَبَ المُحقِّق باقي افراد العائلة وحصَلَ على الأجوبة نفسها، لكنّه قرَّرَ ابقاء سلام في الحجز ريثما يستفيق أبي ويروي ما حصَل. عندها تكفَّلتُ بسلام وأعرَبتُ عن التزامي بإبقائها عندنا على مسؤوليّتي، فلا يجوز أن تنام المسكينة في الحجز بعد الذي حصَلَ لها!

وهكذا عُدنا مع زوجي أبي إلى بيتنا. المسكينة كانت بحالة يُرثى لها وتُردِّد لنا طوال الوقت: "كان سيقتلُني... دافَعتُ عن نفسي! دافَعتُ عن نفسي!". في تلك الليلة، نامَت زوجتي معها في غرفة الضيوف وبدأ إنتظارنا لتحسّن حالة أبي وابعاد التهمة عن سلام.

للحقيقة، لَم أعرِف كيف أُحدِّد شعوري تجاه أبي بسبب غضبي العارِم منه. لكن مِن جهة أخرى، حياته كانت بخطر وقد أفقِد الرجُل الذي أعطاني الحياة وربّاني وأحبَبتُه كثيرًا. آه... لو لَم تمُت أمّي!

مرَّت ثلاثة أيّام قبَل أن يستفيق أبي. ركَضَ المُحقِّق إلى المشفى ليأخذ أقواله وهذا ما سمِعَه منه: سلام هي التي هاجمَته بسكّين كبير وطعنَته مِن دون سبب. وهو لَم يُعنِّفها يومًا لا لفظيًّا ولا جسديًّا، بل عامَلها بِرِفق ومحبّة. عندها إحتَرنا جميعًا، فمَن نُصدِّق؟

 

يتبع...

المزيد
back to top button