كيف لقرار أن يُغيّرَ حياة أشخاص إلى الأبد، قرار مبنيّ على الحبّ والأمَل والتفاؤل، قرار جوبِهَ بالغشّ والطمَع واللامبالاة؟
قصّتي هي قصّة رجُل بحَثَ عن الحبّ وبناء عائلة سعيدة... وفشِلَ.
تعرّفتُ إلى "آسا" يوم زرتُ صديقَين لي عادا لتوّهما مِن السفَر، وجلَبا معهما صبيّة لتهتمّ بأولادهما. وحين وقعَت عَينايَ على آسا، شعرتُ بدفء في قلبي. في الواقع، كنتُ قد بلَغتُ الأربعين مِن عمري ولا أزال عازِبًا، لأنّني رفضتُ أن أتزوَّج مِن دون حبّ، ولَم ألتقِ بذلك الحبّ الذي حلِمتُ به لسنوات.
فتلك الفتاة الأفريقيّة كانت تتحلّى بِسحر كبير في عَينَيها، وبسمتها، وقوامها المَمشوق. حاوَلتُ إخفاء ارتباكي، لكنّ الصبيّة فهِمَت على الفور أنّها أعجبَتني، فابتسَمت وركَّزَت نظراتها عليّ طوال زيارتي. بعد ذلك اليوم، صِرتُ أتردَّد إلى بيت صديقَيّ بحجّة مُلاعبة أولادهما، لكنّ هدَفي كان رؤية آسا التي لَم تُبارِح فكري... وقلبي.
بعد فترة، وجدتُ الجرأة لأطلبَ مِن آسا موعدًا خلال اليوم المُخصَّص لفرصتها الأسبوعيّة، فانتظرتُها في آخِر الشارع، لأصحبها إلى مقهى لطيف. لَم أرِد أن يعرفَ صديقاي أنّني أودُّ رؤية العامِلة لدَيهما، فأنا بالذات لَم أكن أعلَم إن كانت هي تُريدُني أم لا.
وخلال تلك الجلسة علِمتُ مِن آسا أنّها أمّ لولدَين موجودَين في بلادها أنجبَتهما مِن زواج سابق، وأنّ أباهما تركَها وولدَيها مِن دون أيّ مدخول، لذلك قرّرَت مُغادرة بلادها والعمَل لإرسال المال اللازم لإعالة صغيرَيها. إفتخَرتُ بتلك المرأة الشُجاعة، ولَم أتوقَّع أن تقبَل برؤيتي مُجدّدًا، وما هو أهمّ، أن تعترِفَ لي بإعجابها بي. كنتُ أسعَد الرجال إذ أنّني كنتُ مُتأكِّدًا مِن أنّها ستصبَح زوجتي يومًا.
ولَم أكن مُخطئًا، فبعد أشهر مِن تلاقينا سرًّا، قرَّرتُ مُفاتحة صديقَيّ بعلاقتي العاطفيّة بآسا، وهما تفاجآ وحاولا إقناعي بالتراجع، فكلّ شيء كان يفصلُني عن آسا، العِرق والثقافة والمكانة الاجتماعيّة. لكنّ قلبي لَم يكن يعرفُ تلك المُفارقات أو يعترِف بها، فبقيتُ مُصرًّا على تحديد موعد للزواج بعد ثلاثة أشهر. بدأتُ أُعطي آسا مالًا لولدَيها ليعيشا بكرامة ويُتابِعا دراسة جيّدة، فنقلَتهما إلى مدرسة خاصّة. أردَتُ أن تشعرَ بالأمان معي وتنسى الأيّام الصّعبة والمُقلِقة التي مرَّت بها.
في تلك الأثناء، حصَلَ أن قمتُ باستثمارات غير ناجِحة نجمَت عن أوضاع مُفاجئة للبلَد، فخسِرتُ الكثير مِن المال في غضون أيّام قليلة. فعلتُ جهدي لأخفيَ الأمر عن مُحيطي وخاصّة عن حبيبتي، لأنّني أوّلًا لَم أكن فخورًا بنفسي، وثانيًّا لأنّني اعتقَدتُ أنّني أستطيع الوقوف على رجلَيّ بسرعة. فلطالما كنتُ رجُل أعمال ناجِحًا، لكنّ تلك الضربة كانت قاضية. فبالكاد صِرتُ قادِرًا على إرسال المال لولدَي آسا بعدما دفعتُ مصاريف الزفاف التي كانت باهظة.
بعد انتقالنا إلى بيتنا، بدأَت زوجتي تُطالِب بالعَيش بالطريقة التي وعدتُها بها، أيّ برفاهية. شعرتُ بالذنب لأنّني امتنَعتُ عن شراء ما أرادَته بحجَج مُختلِفة أظهرَتني أنّني بخيل.
ولدى استياء آسا مِن مواقفي حيال مصروفها، ركَضتُ إلى أحَد معارفي واقترَضتُ منه مبلغًا كبيرًا أعارَه لي لأنّه كان يعلَم أنّني رجُل نزيه ولن أغشّه أبدًا. لكنّ أعمالي بقيَت في أدنى مُستوياتها، فاستحالَ عليّ تسديد ذلك الدَين، لِذا رحتُ أقترِض مِن شخص آخَر، وهلمّ جرًّا.
وسرعان ما وجدتُ نفسي مديونًا لِدرجة لَم أتصوّرها! أين ذهَبَ دهائي في مجال الأعمال الذي اشتهَرتُ به لسنوات طويلة؟ فرصتي الوحيدة كانت أن أُسافِر لِمدّة شهر إلى الخارج، لأعمَل كمُستشار لشركة طلبَت خدماتي، ووعدَتني بمبلغ كبير عند نهاية عقدي القصير. ودَّعتُ زوجتي الحبيبة، وأخذتُ الطائرة وقلبي مليء بالأمل. بذلتُ كلّ جهدي خلال ذلك الشهر، وقمتُ بمهامي على أكمَل وجه وحُوِّلَ المبلغ إلى حسابي. عندها سدَّدتُ أحَد ديوني وارتحتُ قليلًا، خاصّة أنّ تلك الشركة وعدَتني بعقود أخرى في المُستقبل.
بعد عودتي إلى البيت بفترة قصيرة، أخبرَتني آسا أنّها حامِل، ورأيتُ في ذلك الخبَر السار بُشرى خَير. كنتُ سأصبَح أخيرًا أبًا، فتصوّروا فرحتي! لكنّ زوجتي لَم تكن مسرورة مثلي إذ أنّها قالَت لي:
ـ سيكبر الجنين ويولَد لأب بخيل... يا لِحظّه!
فهكذا كانت آسا تصفُني منذ فترة، لِعدَم تمكّني مِن تلبية طلباتها التي كانت مُكلِفة. صحيح أنّني كنتُ قد وعدتُها قَبل الزواج بحياة مُريحة لها ولولدَيها، لكنّني لَم أتصوَّر أنّ ذوقها سيكون رفيعًا لهذه الدرجة، خاصّة أنّها كانت آتية مِن بلَد فقير وعاشَت وكبرَت أيضًا فقيرة. يا لَيتني كنتُ قادِرًا أن أجلِبَ لها ما تتمنّاه، لكن كان عليّ أوّلًا إعادة الأموال لأصحابها، والتمكّن مِن تأمين حياة كريمة للمولود المُستقبليّ.
وذات يوم قلتُ لآسا:
ـ حبيبتي... عليّ الاعتراف لكِ بشيء لن يُعجبكِ.
وقصَّيتُ لها كلّ ما مرَرتُ وأمرُّ به، طالِبًا منها أن تتفهَّم وضعي وتكفّ عن نَعتي بالبخيل. إلّا أنّني لَم أتوقّع ردّة فعلها:
ـ أيّها الفاشِل! خلتُكَ رجُل أعمال ناجِحًا، فهكذا قدَّمتَ نفسكَ لي! لقد كذِبتَ عليّ!
ـ أبدًا... لَم أكن محظوظًا باستثماراتي وحسب!
ـ يا لَيتني لَم أتزوّجكَ!
ـ أنتِ قبِلتِ بي في السرّاء والضرّاء! إضافة إلى ذلك، أنا أدفَع لولدَيكِ مبلغًا شهريًّا كبيرًا، ولَم أتوقّف أبدًا عن ذلك بالرغم مِن حالتي المادّيّة.
ـ هذا أقلّ ما يُمكنُكَ فعله!
ـ لَم أكن مُجبرًا على ذلك، فهما ليسا ولدَيّ!
ـ وهل تُمنِّنُني؟!؟ يا لك مِن رجُل قبيح!
ـ أنا آسِف يا حبيبتي، لَم أقصد، صدّقيني، لكنّ ردّة فعلكِ قاسية للغاية!
ـ تدبَّر أمركَ بسرعة وإلّا عُدتُ إلى بلادي وجنينكَ في بطني!
ـ لا، لا أرجوكِ، كلّ شيء إلّا هذا!
فكرة حرماني مِن ابني أو ابنتي كانت لا تُطاق، فبدأتُ أبيع أغراضًا خاصّة وثمينة ورثتُها مِن والِدَيّ، رحمهما الله. لَم أتصوّر يومًا أنّني سأبيع ما تبقّى لي مِن ذكراهما، لكن ما عسايَ أفعل؟!؟
بعد بَيع تلك الأغراض، أسرعتُ بشراء الهدايا لآسا حتى يَطمَئنّ بالها، ونجَحتُ بذلك، إذ أنّها هدِئَت قليلًا. أرسَلتُ أيضًا مالًا إضافيًّا لولدَيها، فرضِيَت عنّي زوجتي أخيرًا.
سافَرتُ مُجدّدًا لمدّة شهر، وسدَدتُ بعض الديون كما في المرّة السابقة. ولدى عودتي مِن السفَر، طلَبَ صديقايَ اللذَين كانا مُستخدِمَي آسا سابقًا أن يراني ليقولا لي:
ـ لقد اكتشفنا أمرًا عليكَ معرفته... فالصبيّة التي جلَبناها لتحلّ مكان آسا بالاهتمام بأولادنا هي بالحقيقة قريبتها.
ـ ما الأمر؟!؟
ـ ليس لآسا أولاد على الإطلاق، إذ إنها لَم تتزوّج قط.
ـ ماذا؟!؟ لكنّني أبعَثُ لولدَيها مالًا شهريًّا! مَن يقبضُ تلك المبالغ إذًا؟
ـ أعطِنا إسم المُتلقّي.
فتحتُ هاتفي وتطبيق المصرِف وأعطَيتُهما الاسم. ثمّ نادى صديقي العامِلة الجديدة التي قالَت لدى معرفتها بالاسم: "إنّه أخوها... أعرِفُه جيّدًا، فهو شاب رذيل ويفتعِل دائمًا المشاكل، فلا أحَد يُحبّه في القرية.
هكذا إذًا... ركضتُ إلى البيت لأواجِه زوجتي، وهي أجابَت بكلّ برودة:
ـ وما الفرق؟ أخي، إبنَاي...
ـ ما هذا الكلام؟!؟ أُريدُ استرجاع مالي على الفور! أطلبي مِن أخيكِ أن يَرُدّ لي كلّ ما دفعتُه له!
ـ حسنًا... سأفعلُ ذلك في الصباح، لا عليكَ.
في الصباح، لَم أجِد زوجتي في البيت أو في أيّ مكان آخَر. كانت قد هربَت وفي بطنها جنيني. يا إلهي، ماذا أفعل الآن؟!؟
يتبَع...