وجدتُ إبناً جديداً!

كانت حالتي يُرثى لها بعد أن فقدتُ ولدَيّ الواحد تلوَ الآخَر، ويا له مِن فقدان عظيم! فقد شاءَ القدر أن يموتَ إبني البكر في حادث سَير والثاني بمرَض فتّاك أخذَه بغضون أشهر. كانا شابَّين وسيمَين وعاقلَين، وحسبتُ أنّني سأراهما مُتزوّجَين وأبَين لأولاد كثيرين. كان زوجي قد تركَني قبل سنتَين مِن أجل موظّفة لدَيه أقامَ علاقة معها لسنوات، قبل أن يُقرّرَ أنّه لا يُريدُ الاختباء بعد ذلك بَل عَيش حبّه على العلَن. حزِنتُ لخيانته وتركه لي، إلا أنّني وجدتُ العزاء في إبنَيّ اللذَين طمأناني بأنّهما سيبقيان إلى جانبي مدى العُمر. حسبتُ نفسي طبعًا سأموتُ قبلهما، لكنّ الحياة لا تجري كما نتوقّع. جاء زوجي إلى مراسم الدفن في المرّتَين مع زوجته الجديدة الشابّة ثمّ اختفى. هل حزِنَ على الأقلّ على ولدَيه؟ لستُ واثقة مِن ذلك فهو لَم يُحِبّ سوى نفسه وحاجاته.

وهكذا وجدتُ نفسي وحيدة تمامًا في بيت مليء بالذكريات وأصداء ضحكات وأصوات إبنَيّ، وصوت بكائي ومُناجاتي لله.

سلوَتي الوحيدة آنذاك كان عمَلي، لكنّني كنتُ أتفادى زملائي ونظراتهم لي المليئة بالشفقة، وكذلك أقاربي الذين كانوا يُذكّروني على الدوام بمدى مُصيبتي. فالتجأتُ إلى الانترنِت حيث العالم واسِع ومليء بالغرباء الذين يجهلون حالتي أو لا يأبهون بها. وأعترفُ أنّني وجدتُ كلّ تلك الصفحات والفيديوهات مُسليّة للغاية، وباتَ ذلك الترفيه كلّ ما أفعله خلال مكوثي في البيت. وهكذا تعرفتُ إلى نادر.

كان ذلك الشاب مُنتسِبًا لصفحة إسمها: "كيف أنسى؟" وجدتُها صدفة. ومع أنّني لَم أكن أُريدُ مُشاركة أحد مُصيبتي، إلا أنّني غيّرتُ رأيي بعد أن قرأتُ مُداخلات باقي المُنتسِبين. فوجدتُ أنّني، بالرغم مِن إعتقادي، لَم أكن الوحيدة التي مرَّت في ظروف صعبة أو فقدَت أعزّ الناس إليها. لِذا كتبتُ عن مُصيبتي ولاقَيتُ تفاعلاً كبيرًا. للحقيقة شعرتُ براحة عميقة، وتصوّرتُ أنّ ثقلاً أُزيحَ عن صدري. ثمّ أرسَلَ لي أحدهم بعض كلمات التعزية على الخاص مُعرِّفًا بنفسه: كان اسمه نادر وعمره عشرون سنة، وكان قد فقَدَ أمّه العزيزة مؤخّرًا ولا يعرِفُ كيف يتعامَل مع تلك الخسارة لأنّها كانت دنياه بأسرها وربَّته لوحدها بعد أن تركهما الأب. ذرفتُ الدموع عند قراءة سطوره، فكان الأمر وكأنّ أحَد أبنائي يتكلّمُ في حال أنا التي مُتُّ.

 

وعلى مرّ الأيّام، صرتُ قريبة جدًّا مِن نادر وبدأتُ أكنُّ له عاطفة خاصّة، فهو ملأ قسمًا بسيطًا مِن فراغي الكبير وكنتُ مُمتنّة له. كان يقصُّ عليّ تفاصيل نهاره ودراسته في الجامعة، ويسألُني كيف يعُدُّ ذلك الطبَق أو ذاك. لكن يوم هو طلَبَ منّي الإذن بمناداتي "ماما" ذرفتُ الدموع لدقائق طويلة قبل أن أُجيبَ "طبعًا، طبعًا". فهو كان حتى ذلك الوقت شابًّا يتيم الأمّ ويبحثُ عن مُرشِدة وليس أكثر. لكن بعد أن صارَ يُناديني "ماما"، صارَ بمثابة إبني.

مِن زملائي وصولاً إلى أقاربي، لاحظَ الجميع أنّ معنويّاتي ارتفعَت ، فسُرّوا مِن أجلي. البعض اعتقدَ أنّني واقعة في الغرام، الأمر الذي أضحكَني، فكَم كانوا بعيدين عن الواقع! لَم أقُل شيئًا عن وجود نادر في حياتي، فهم لن يفهموا مدى عُمق علاقتنا وحاجة كلَينا إليها. إضافة إلى ذلك، كان نادر سرّي أنا، الشيء الوحيد الذي بقيَ لي. هو الآخَر لَم يكن يُريد أن يعرِفَ أحدٌ بنا، فحسَب قوله سيظنُّ الناس أنّ هناك علاقة غراميّة بيننا، ما قد يُشوّه سُمعتي التي لطالما حافظتُ عليها. فالمُجتمع هو غالبًا يتسبّب بالأذيّة ولا يرى إلا ما هو حرام وبغيض. كان نادر على حقّ كعادته. فلقد نسيتُ أن أقول كَم هو حكيم وناضج بالنسبة لسنّه، فله آراء صائبة ومعلومات عميقة عن مواضيع عديدة، وكنتُ أستمتعُ بقضاء ساعات طويلة معه عبر الهاتف. فالجدير بالذكر أنّ نادر رفضَ أن نفتَحَ الفيديو أو نتلاقى كَي لا يُشوِّه الفكرة التي أملُكها في ذهني عنه، وكلّ ما كان لدَيّ منه هي صورة بروفايله... وكان على حقّ مرّة أخرى، فمِن الأفضل أن نُتابِع ما بيننا فقط صوتيًّا أو خطّيًّا.

وذات يوم، طلَبَ منّي نادر أن أخلَع الملابس السوداء التي كنتُ أرتديها حدادًا على ولدَيّ واستبدالها بأخرى ملوّنة. رفضتُ في البدء لكنّه أقنعَني بأنّني وجدتُ ابنًا بديلاً، وبقائي في الحداد هو فأل سيّء له، فهل أُريدُ أن يموتَ هو الآخَر؟ لا، طبعًا! معاذ الله!

تفاجأ أهلي بي ألبسُ المُلوّن، إلا أنّهم لَم يقولوا شيئًا لكثرة فرَحهم بتغيّر نفسيّتي، فكلّ شيء كان أفضل مِن حزني وبكائي الدائم!

ثمّ أخبرَني نادر أنّه وجَدَ صبيّة جميلة ولطيفة وأنّه بدأ يقَع في غرامها، وصارَت أحاديثنا تدورُ كلّها عنها وعن امكانيّة حدوث زواج أو على الأقلّ خطوبة. وكَم كانت فرحَتي كبيرة عندما زفّ لي "إبني" خبَر طلَب يَد الصبيّة بعد فترة قريبة. لكنّ صوته كان حزينًا، فهو لَم يكن يملكُ ثمَن خاتم الخطبة، فارتأى أنّه مِن الأفضل لو يعدُل عن مشروعه. كيف؟!؟ هذا لن يحصل طالما أنا موجودة! فلَم يتسنَّ لي أن أفرَح لولدَيّ وأزغرِد في عرسَيهما... حتى أُتيحَت لي أخيرًا الفرصة لأعيشَ ما لَم أتصوّره مُمكِنًا بعد فاجعتي. بعثتُ المال اللازم لنادر عبر شركة مُعاملات نقديّة، وهو بكى بحرارة عبر الهاتف لدى استلامه هديّتي. كان شرطي له واحد: أن أحضَرَ الفرَح وأرقصَ فيه وأُقبِّلَ عروسه وكأنّها إبنتي. أجابَني أنّه لا يتصوّر أن يمُرّ أسعد يوم في حياته مِن دون وجودي إلى جانبه وأكمَلنا البكاء سويًّا. لَم أقُل لأحد عن تحويل الأموال هذا، فكنتُ واثقة مِن أنّ الناس ستوبّخني، فلَم أكن أعرفُ نادر شخصيًّا أو أيّ شيء عنه عدا ما أخبرَني هو به. لكنّ قلبي كان مُطمئنًّا له لأقصى درجة. ألَم يكن يُناديني "ماما"؟

 

لكنّ القدر وقَف مرّة أخرى في وجه سعادة نادر، إذ أنّ ما كان قد وضعَه جانبًا قد نفَذَ كلّيًّا ولَم يعد يملك ما يكفي للأكل والشرب. فذلك الشاب الطموح لَم يكن يعمَل، بل يُتابع دروسه الجامعيّة فحسب، كي يتمكّن مِن النجاح بتفوّق وإيجاد عمَل مهمّ ليعيش بهناء مع التي سيتزوّجها. عندها هو طلَب منّي مُحرَجًا أن أمدّه ببعض المال فقط لتأمين أبسط الحاجات له.

أسرَعتُ بإرسال المال طبعًا، فهل يجوز أن يبقى "إبني" مِن دون طعام؟!؟ وبعد ذلك، بدأتُ أمدّه بالمال شهريًّا، حتى لو عنى ذلك حرمان نفسي مِن أمور عدّة. أليس ذلك ما على كلّ إمّ فعله مِن أجل ولدَها؟

إستمرَّ الوضع هكذا أكثر مِن سنة، أيّ إلى حين تخرّجَ نادر بامتياز، فبدأ بسرعة بالتفتيش عن عمَل ليستطيع ردّ مالي لي، مع أنّني لَم أكن قد طالبتُه بشيء. لكنّه كان مِن هؤلاء الشبّان الذين لا يقبلون مدّ يدهم لأحد، الأمر الذي ملأ قلبي بالفخر.

لَم يجِد نادر عمَلاً يليقُ به لكنّه قبِلَ بالموجود، وكان الراتب قليلاً وساعات العمَل طويلة. وفي تلك الفترة، طالبَه أهل عروسه بالتحرّك وإلا أعطوا إبنتهم لشاب آخَر، لكنّ "إبني" لَم يكن جاهزًا على الاطلاق للاقدام على الزواج. بكى نادر لأيّام عبر الهاتف وحاولتُ مواساته إلا أنّه لَم يكن ليتصوّر حياته مِن دون حبيبته، وتكلّمَ عن إنهاء حياته إن هي تزوّجَت مِن غيره. ماذا؟!؟ أفقِدُ إبنًا ثالثًا؟!؟ لن أسمَحَ بذلك حتى لو اقتضى الأمر أن أفديه بحياتي! أوكلتُ نادر بالتفتيش عن شقّة له ولعروسه على الفور، ورحتُ أبيعُ قطعة مِن الأرض ورثتُها مِن والدي، مُعتبرة أنّ ليس هناك مِن ورثاء لي ومِن الطبيعيّ أن تعودَ تلك القطعة "لإبني" نادر.

لكنّ تحويل مبلغ كهذا عبر شركة المُعاملات النقديّة كان مُعقدًّا وطويلاً، لِذا طلبتُ مِن نادر القدوم شخصيًّا إليّ لاستلام ما سيُتيحُ له بناء حياته مع التي اختارَها. كنتُ أعلَم أنّه لا يُريدُ رؤيتي كي لا نتأثّر كلانا، لكنّني عدتُ وفكّرتُ أنّه سيراني يوم فرَحه على كلّ الأحوال، فلِما لا قَبل ذلك؟ رفَضَ "إبني" رفضًا قاطعًا وحاوَلَ إيجاد طرق أخرى لاستلام المال، لكنّني كنتُ مُتحمِّسة لرؤيته لِدرجة لا توصَف. كنتُ قد حلِمتُ مرارًا بتلك اللحظة وبالمُعانقة الطويلة والدموع الغزيرة التي ستحصل حينها، فبقيتُ مُصرّة على قراري. هو إتّهمَني بأنّني أشكُّ بمصداقيّته فاستنكَرتُ بقوّة إلا أنّني بقيتُ على موقفي. بالفعل لَم يخطُر ببالي أن يكون نادر يُخبّئ عنّي أيّ شيء... ويا لحماقتي!

فبعد نقاش حاد بيننا، هدّدَني نادر بأنّه سيختفي مِن حياتي بلحظة إن لَم اقبَل أن يُرسِلَ لي قريبًا له لأخذ المال بدلاً منه. خفتُ أن أخسرَه، فقبلتُ على مضض.

 

وفي اليوم المذكور، دقّ بابي رجُل في الخمسين مِن عمره وعرَّفَ عن نفسه بأنّه فرد مِن عائلة نادر. طلبتُ منه الانتظار بضع دقائق عند الباب وتوجّهتُ إلى غرفتي لِجلب المال. وفي تلك اللحظة رنّ هاتف الرجُل وسمعتُه يتكلّم مع أحد ما. لكن كَم كانت مفاجأتي كبيرة حين سمعتُه يتكلّم بصوت نادر! ما الذي يجري؟!؟ عدتُ إلى الباب بلحظة وسألتُ زائري إن كان يُريدُ كوبًا مِن الماء، فأجابَني بصوت غرِش، الصّوت نفسه الذي استعملَه عندما عرّفَ عن نفسه! غبتُ مُجدّدًا وطلبتُ رقم هاتف نادر وأنا واقفة خلف حائط الصالون، وإذ بهاتف الرجُل يرنّ، لكنّه أسرَعَ بالإقفال. فهمتُ عندها اللعبة: نادر لَم يكن شابًّا بل في الخمسين مِن عمره وليس على الاطلاق كما في صورة بروفايله، وليس طالبًا جامعيًّا. حاولتُ قدر الإمكان حبس دموعي وعدتُ إلى الباب لأقول للدجّال: "أنا آسفة سيّدي، لكنّ المبلغ لا يزال عند المحامي الذي سهَّلَ بَيع الأرض، وحسبتُه سيأتي اليوم لِجلبه لي، لكنّه هاتفَني للتوّ وأرجأ الموضوع إلى الغد. هل لكَ أن تعودَ مُجدّدًا؟". غضِبَ الرجُل لكنّه قبِلَ على مضض ورحَلَ بسرعة. بعد دقائق قليلة، إتّصَلَ بي "نادر" ليسأل عمّا حصلَ، فأعربتُ له عن أسفي الشديد واعدة إيّاه بالدفع بعد يوم واحد. وحين تأكّدتُ مِن أنّ الطريق سالِك وأنّ النصّاب بعيد عن جوار بيتي، ركضتُ إلى قسم الشرطة لأُبلِّغ عن "نادر"، فهو كان يعرفُ عنوان بيتي وقد يُريدُ الانتقام منّي إن فهِمَ أنّ لعبته كُشِفَت. وحين عادَ في اليوم التالي، كانت الشرطة بانتظاره.

 

كان التحقيق معه صعبًا إذ أنّه لَم يشأ الاعتراف إلا بعد جهد جهيد، واتّضَحَ أنّه يبحثُ على صفحات الانترنت عن أرامل أو سيّدات يائسات

ويدّعي، حسب الظرف، أنّه إمّا رجُل ناضج مُتيَّم أو أي شخص يمرّ بالظروف نفسها ليتقرّب مِن ضحيّته. وفي حالتي، هو لبِسَ دور الشاب اليتيم الأم ليحصل على مالي. تبيَّنَ في التحقيق أنّ له هوِيّات لا تُحصى على الانترنت وأنّ إسمه ليس نادر، بل أنّ نادر إسم أحَد جيرانه في المبنى الذي راحَ يستلِمُ بدلاً عنه المال الذي بعثتُه بعد أن ألّفَ له حججًا أقنعَته. تمّ البحث عن ضحايا أخريات مِن خلال مُحادثات على مواقع التواصل وهاتفه، وتبيّنَ أنّه يعيشُ مِن النصب والاحتيال.

وحين جهزَ ملفّه، إقتيدَ إلى السجن ولاحقًا إلى المحاكمة. لَم يُرجِع أحدٌ لي مالي، لكنّني شكرتُ ربّي أنّ المبلغ الذي حصلتُ عليه مِن بَيع الأرض لا يزال معي. وفهمتُ أنّ الوقت حان لأتخلّى عن تمسّكي بذكرى ولدَيّ وعليّ تقبّل موتهما كواقِع لا مفرّ منه. ففي آخِر المطاف، كانت تلك مشيئة الله، ومَن أكون أنا لأناقشه بها؟ لكنّني أعترفُ أنّني أشتاقُ بين الحين والآخَر لأحاديثي مع نادر التي كانت تُسلّيني وتُعطيني فرحًا، لكنّ بأيّ ثمَن؟؟؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button