هل كانت أمّي محقّة بأن تشكّ بأبي؟

مَن يلقي نظرة على أوراقي الثبوتيّة، سيتفاجأ بأنّ إسمي ليس وفاء. بل نسرين وأنّ وراء هذه المفارقة قصّة مأساويّة. 
كل شيء بدأ عندما تزوّج أبي مِن أمّي وسكنا في شقّة ظريفة في العاصمة. كانا يحبّان بعضهما كثيراً ولكنّ والدتي كانت تغار كثيراً على رجل حياتها، لدرجة أنّها كانت تخلط بين الواقع والخيال. ولسوء حظّها، كان هناك إمرأة جميلة تعيش في ذات المبنى ومعها تغيّرَت وجهة حياتنا. وكان إسمها نسرين. ولِكثرة جاذبيتها، كان جميع السكّان الذكور معجبين بها، خاصة أنّها كانت ما زالت عزباء وتسكن مع والدتها العجوز وكانوا يتهافتون لِعرض مساعدتهم، تحت حجّة أنّها بحاجة إلى رعاية رجل. ومِن بينهم والدي الذي لم يفوّت فرصة لقرع بابها كلّما عاد مِن العمل. وبالطبع كل هذا لم يغِب عن نظر والدتي التي كانت تجتمع في الصباح مع باقي الزوجات لإيجاد طريقة لمِنع "الأفعى" مِن تخريب حياتهنّ. ولكنهنّ لم تجدنَ حلّ لها، لأنّها لم تكن تفعل شيئاً غير أخلاقيّاً.
وبعد حوالي السنة على هذا النحو، ولدتُ وأصرّ أبي أن يسمّيني نسرين. وعلمتُ لاحقاً أنّه دار شجاراً حاداً بين والديّ بشأن تسميَتي ولكنّ والدتي لم تستطع تغيير هذا القرار المرير. ووجدَت أنّ الحل الوحيد، كان أن تتناسى إسمي وتختار آخراً كي تستعمله خلال تواجدي في البيت لكي تثبتُ لأبي أنّها غير موافقة على الذي يجري. وهكذا كبرتُ مع إسمين. في البدء وجدتُ صعوبة في أن أكون في نفس الوقت نسرين ووفاء وعندما سألتُ أبي لماذا يناديني هكذا، قال لي:

- هذا إسمكِ الحقيقي، فهو مدوّن على شهادة ميلادكِ، أمّا الآخر فهو نتيجة صغر عقل أمّكِ... أعذريني يا حبيبتي ولكنّ الكبار معقّدين بعض الشيء... ستفهمين كل هذا عندما تكبرين.

ولكنّ الأمور لم تقف عند هذا الحدّ، بل إزدادت سوءاً لأنّ أمّي لم تعد تفكّر سوى بتلك الجارة، إلى درجة أنّها بدأت تهمل كل ما ليس له علاقة بهذا الأمر. وبدل أن تعمل على أن تنسي أبي نسرين وتعامله بلطف، صارت تصرخ به طوال الوقت وتعاتبه على أتفه الأمور، لدرجة أنّه بات يفضّل المكوث خارج المنزل والعودة بعد أن تخلد إلى النوم. ولم نعد نراه كثيراً وأظنّ أن والدتي إفتكرت أنّها إنتصرّت بإثبات موقفها ولكنّها خسرّت معركة ضدّ عدوّ لا وجود له. وبعد فترة قصيرة، تركّت نسرين المبنى وإرتاحّت كل النساء وقلبنّ صفحة جديدة مع رجالهنّ ما عدا والدتي التي إستمرّت بسياستها وكأنّها لم تكن مستعدّة على التراجع. ورغم غياب التي كانت السبب في خلافهما، لم تتحسّن الأجواء في البيت. أصبح أبي يلام على الأشياء التي كان سيفعلها لو بقيَت نسرين وفضّل أبي أن يضع حدّاً لجنون زوجته. فطلّقها وإرتاح مِن غيرتها العمياء ووعدَني أنّه سيأخذني مِنها في المستقبل القريب. قال لي:

- تحمّلي الوضع قليلاً... وتحمّليها هي... أنا لم أقدر على ذلك...

 وغادر وسط صراخ والدتي وبكاءها:

- إرحل أيّها الخائن المنحط! لا أريدك على أي حال! أنا أفضل بكثير مِن دونك.

وبقينا نحن الإثنتين وبما أنّه لم يعد هناك سواي، أخذَت تصبّ غضبها عليّ. فكلّما وقعَت عينيها عليّ تذكرَت إسمي وتلك الجارة وأنّ رحيل أبي كان بسببها. فكانت تصرخ عليّ طوال الوقت. مرَّت حوالي السنة على هذا النحو وكنتُ أنتظر بفارغ الصبر أن يأتي أبي وينشلني مِن هذا الكابوس كما وعدني، لأنّ الحياة مع إنسانة أعمتها الغيرة إلى درجة الأذيّة، باتَت مستحيلة ولأنّني سئمتُ أن أُدعى نسرين في المدرسة ووفاء في البيت فقط لأنّ إسمي الحقيقي يشبه إسم التي ظنَّتها أمّي عشيقة أبي. وفي آخر أيّام السنة التالية، جاء والدي إلى مدرستي وتكلّم مع المديرة وبعد أن أعطَته الإذن بذلك أخذَني معه. سألتُه إن كان بإمكاني المرور بالبيت لِجلب أمتعتي فقال لي:

- لا... لا أريد مواجهة أمّكِ.... تعرفين كيف هي... وقد تمنعكِ مِن الذهاب معي... سأشتري لكِ كل ما تحتاجين إليه لا تخافي.

قبّلته بقوّة وإبتسمتُ للحياة التي فتحَت أخيراً أذرعها لي. وعندما وصلنا إلى منزله ونزلنا مِن السيّارة قال لي وهو يبتسم:

هناك مفاجأة لكِ... أرجو أن تعجبكِ.

وإذ بالباب ينفتح وأرى نسرين جارتنا القديمة واقفة أمامي. نظرتُ إلى أبي بإندهاش، ثمّ قلتُ له بصوت خافت:

- أمّي كانت على حق!

- أدخلي حبيبتي وسلّمي على زوجة أبيكِ.

دخلتُ المنزل وكأنّني في حلم مزعج وتمتمتُ بعض الكلمات لللتي كانت سبب إنفصال والديّ وجنون أمّي المزعوم. أخذَتني نسرين إلى غرفتي وتركَتني أرتاح ريثما تحضّر الغداء. وبعدما أغلقتُ الباب وراءها، بدأتُ بالبكاء لأنّني أدركتُ أنّ أبي كان فعلاً خائناً وأنّ أمّي كانت ضحيّة حقيقة لم يراها أحد سواها. وتخيّلتُ خوفها عندما ستعرف أنّني لن أعود إلى البيت وكيف سيزداد إرباكها ويأسها. لذا قررتُ أن أعود إلى أمّي، لأنّها الوحيدة التي بقيَت كما هي ولم تغشّ أحداً. ذهبتُ إلى المطبخ حيث وجدتُ والدي وزوجته الجديدة وقلتُ لهما بكل بساطة:

- أنا عائدة إلى أمّي... سآخذ سيّارة أجرة... لا أريد العيش هنا.

قام أبي مِن كرسيّه وصرخ لي:

- لماذا؟ لقد وعدتكِ بأن أعود لآخذكِ معي ونفّذتُ وعدي.

 -أجل ولكنّني إنتظرتُ رجلاً ظلمته زوجته بِسبب غيرة لا أساس لها... أمّا الواقع هو أنّكَ أنتَ الظالم... لا أحبّ زوجتكَ ولن أحبّها، فلولاها لكنّا ما زلنا عائلة سعيدة. أريد الرحيل... الآن!

وأمام لهجتي الجديّة، علِمَ أبي أنّني لن أبقى لحظة واحدة معهما، فأخذَ مفاتيح سيّارته وركبنا سويّاً حتى منزل أمّي. وقبل أن أترجّل قال لي:

- سامحيني... أرجوكِ لا تكرهيني كثيراً... كنتُ أحبّ والدتكِ ولكن عندما رأيتُ نسرين، علمتُ أنّها هي التي أريدها... صحيح أنّني إدّعيتُ البراءة طيلة الوقت وجعلتُ الجميع يعتقد أنّ أمّكِ مجنونة ولكنّني كنتُ مجبراً على ذلك لكي أرحل وأتزوّج مجدّداً... إعلمي أنّني لم أنوِ ولو للحظة أن أعيش مِن دونكِ.

- ولكنّك لم تتردّد على حرمان أمّي منّي! لم يكفيكَ أنّكَ تركتَها أردتَ أيضاً تحطيم قلبها... لماذا؟

- لستُ أدري... ربما بسبب نسرين... فقدتُ عقلي معها.

ونزلتُ مِن السيّارة وقرعتُ باب بيتنا وفتحَت لي أمّي وهي تبكي. كانت المديرة قد إتصلَت بها وأخبرَتها أنّني رحلتُ مع أبي. وعندما دخلنا سويّاً، أخبرتُها بكل شيء وطمأنتُها أنّها لم تختلق شيئاً وأنّ والدي كان فعلاً يقيم علاقة مع جارتنا ووعدتُها أنّني لن أتركها إلّا حين أتزوّج. ضحكنا سويّاً وتعانقنا لدقائق طويلة. ومنذ ذلك الحين لم أعد أسمح لأحد أن يناديني نسرين، لأنّني أصبحتُ أكره هذا الإسم الذي يذكّرني بخيانة والدي لنا وأصبح إسمي وفاء مثل الصفة التي تتمتّع بها أمّي والتي تربط الناس ببعضهم.

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button