هل كان تشدّد وتديّن أبي مبالغاً به؟

لم تكن طفولتي سهلة بسبب والدي، الذي كان متديّناً وصارم، لا يلين لشيء ولا يأخذ بعين الإعتبار أمور الحياة الواقعيّة. عاش حياته يتبع القوانين الروحيّة والمدنيّة وقرّر أنّ على عائلته السير على خطاه.


عانَت أمّي كثيراً من هذا الوضع وحاولَت أن تضفي على زواجها وعائلتها جوّاً من المرح ولكنّ هذا لم يكن مسموحاً. فلم يكن عندنا مذياع أو تلفاز ولم نحظى بهاتف إلّا بعد سنين طويلة. كل ما كان مسموحاً، كان الصلاة والتأمّل وإنتظاره كي يعود من عمله في الجامعة لنأكل، فهو ربّ العائلة ومِن دونه لم يكن بإستطاعتنا فعل أيّ شيء.
ورغم كلّ شيء، كنتُ أحبّ هذا الرجل، لأنّه قويّ وعادل ولانّه لم يقترف خطأ في حياته وكانت والدتي تعطينا الحنان اللازم للتعويض عن كل القساوة اليوميّة. وبفضله أيضاً عملتُ جهدي في المدرسة لأحصد العلامات العالية، لأنّه كان من غير المقبول عنده أن يرسب أولاده، خاصة أنّه كان حائزاً على دكتورا في العلوم ويدرّس في كليّة الطب. ولكثرة إعجابي به، قرّرتُ أن أتخصّص مثله ورأى فيّ صورة مصغّرة عنه. إلّا أنّني لم أكن مثله من دون قلب، بل عكسه تماماً.


أحبّني أخواتي وأصدقائي، لأنّني حنونة أتفانى مِن أجل غيري وأتفهّم ظروفهم وأعذر مَن إقترف خطأ بحقّي. بهذه الأثناء، زاد تشدّد أبي خاصة مِن الناحية الدينيّة وكلّ ما أصبح يتكلّم عنه، كانت علاقتنا مع الخالق وواجباتنا تجاهه والإلتزام بوصاياه وباتت حياتنا تتمحّور حول التقشّف والصلاة. لو كان ذلك يجري بصورة طبيعيّة، لكان هذا مثاليّاً ولكنّ الأمور أخذَت طابعاً متطرّفاً وساد مناخ من الإحباط لدى كل أفراد العائلة وأثّر على أخواتي الصغار وعلى والدتي بشكل خاص، حتى أنّها إنهارت وبدأت تأخذ دواء للاعصاب. وشاهدتُ أمّي تتلاشى وتذوب أمامي دون أن أستطيع مساعدتها. عملتُ جهدي على الوصول إلى هدفي أي الحصول على شهادتي والبدء بالتعليم أوّلاً في مدرسة ومِن بعدها نيل الدكتورا للتوجّه إلى التعليم الجامعيّ. ومرّت الأيّام ونلتُ مرادي بفخر وقال لي أبي:

- حسناً فعلتِ يا إبنتي... سأفتّش لكِ عن جامعة تدرّسين فيها.

- ماذا عن الجامعة حيث أنتَ؟

- يا ليت كان هناك مكاناً شاغراً... كلّ الأماكن مأخوذة... سأجد لكِ المكان المناسب.

وهكذا حصل وبدأتُ بالتعليم وأحببتُ جداً عملي. وبعد بضعة أشهر، علمتُ صدفة من زميلة لي أنّ أستاذاً في جامعة أبي قد توفّى وأنّهم يبحثون عن بديل له، فذهبتُ في نفس النهار وقدّمتُ لهم سيرتي الذاتيّة. كنتُ متحمّسة جداً وركضتُ أزفّ الخبر لوالدي. ولكنّه لم يفرح كثيراً لي:

- جاء العديد من الناس إلى الكليّة وقدّم ترشيحه... لا تعلّقي آمال كبيرة...

ولكنّني لم أهتمّ لما قاله وإنتظرتُ الردّ بفارغ الصبر. وبعد بضعة أشهر جاءني الجواب التالي: "نأسف أن نخبركِ أنّ المنصب قد أصبح مأخوذاً." حزنتُ كثيراً وتابعتُ التعليم في جامعتي وبعد حوالي الشهر، قرأتُ على الإنترنيت خبراً أنّ جامعة أبي ما زالت تبحث عن أستاذ. إستغربتُ كثيراً وإتصلتُ بهم هاتفيّاً وسألتُ السكريتيرة عن الموضوع. وأجابتني أنّ الخبر صحيح. عندها طلبتُ موعد مع المدير لمعرفة سبب رفضي أنا بالذات. وفي اليوم التالي دخلتُ مكتب المدير ورويتُ له ما حصل لي. وقبل أن يجيب أخذ نفساً عميقاً وقال:


- آنسة نوال... ليس لدينا أيّ شيء ضدّكِ... علاماتكِ مشرّفة ولن نجد أفضل منكِ ولكن...

- ولكن ماذا؟ ماذا تريدون أكثر من ذلك؟

- سأقول لكِ الحقيقة... رفضناكِ بطلب من أبيكِ.

- ماذا؟؟؟

وبعد أن شكرتُ المدير على صراحته، ركضتُ أواجه أبي بما علمتُ به. قال لي:

- فعلتُ ذلك من أجلكِ... لا أريد أن يقول أحد أنّكِ توظّفتِ هناك بسببي... أنتِ موهوبة جداً ومِن المؤسف أن يعود نجاحكِ إلى أبيكِ... أحبّكِ كثيراً...

- لا يهمّني الناس... سأعاود المحاولة وسأعلّم هناك ولن يغيّر رأيي أحد. 

وهذه المرّة قبلوا بي وشعرتُ بلذّة النجاح. فلولا إصراري لبقيتُ في عملي القديم دون فرصة التقدّم. وباشرتُ بالتعليم وأحبّني التلامذة وأصبح لديّ أصدقاء عديدين بين الأساتذة. وكان كل شيء يجري بشكل جيّد لولا تلك التلميذة التي جاءت إليّ لتكلّمني على إنفراد:

- آنسة نوال... ما سأقوله لكِ ليس سهل الإستيعاب... أنتِ إنسانة طيّبة والكلّ يحبّكِ ولهذا السبب قررتُ المجيء إليكِ...

- ما الأمر؟ يمكنكِ الوثوق بي... تكلّمي.

- هناك أستاذ هنا في الكليّة... يعطي العلامات الجيّدة لمَن... أقصد للبنات اللوات تأتين إلى مكتبه لِ...

- لماذا؟

- تعرفين لماذا... أعني تفعلنَ أشياء جنسيّة مع الأستاذ وبعد بضعة أيّام تحصدنَ علامات عالية جداً.

- هل أنتِ متأكّدة مما تقولين؟

- أجل آنستي... لقد حاول معي ولكنّني رفضتُ ولذا رسبتُ وأعيد سنتي.

- أريد أن أعرف إسمه لأوقفه عند حدّه!

- لا أظنّ أنّكِ ستفعلين شيئاً بهذا الخصوص.

- أنتِ لا تعرفينني جيّداً... أنا إنسانة نزيهة أدافع عن المظلومين... هكذا علّمني أبي!

- هو علّمكِ هذا؟

وضحِكَت التلميذة بقوّة ثمّ أضافَت:

- أبوكِ هو الأستاذ الذي أتكلّم عنه.


عند سماع هذا، نظرتُ إلى الفتاة بدهشة كبيرة. لا يمكن أن يكون أبي منحط أخلاقيّاً. هذا غير معقول! فهو مرجع بالأخلاق والإيمان والنزاهة. وقلتُ لنفسي أنّ التلميذة تكذب حتماً وأنّها تلصق سبب رسوبها بأبي. أنّبتها بقوّة وذهبَت وهي تبكي. قضيتُ باقي النهار في حالة كآبة، لأنّ شخصاً حاول تشويه سمعة رجل كرّس حياته لمكافحة الفساد في النفس البشريّة.


قررتُ عدم إخباره بما حصل، لكي أداري شعوره وأجنّب تلك التلميذة عقاباً قد يؤثّر على باقي حياتها. وبعد فترة نسيتُ الموضوع بأسره إلى حين شعرتُ بتغيّر بتصرّف تلاميذي معي، فباتوا يتجنّبوني ويتهامسون وراء ظهري ما أثار غضبي وقررتُ معرفة السبب. ففي ذات يوم، طلبتُ منهم إقفال الدفاتر وسألتهم جميعاً ما الذي يزعجهم فيّ. في البدء لم يقل أحداً شيء، فأصريّتُ أن أسمع جواباً. عندها وقفَت تلميذة وقالت:

- يزعجنا أنّكِ إبنة ذلك الشاذ!

أطلقتُ صرخة رغماً عنّي وقبل أن أوبّخها، وقفَت تلميذة أخرى وأكّدَت الشيء نفسه ولحقها الباقون. عندها قررتُ أنّه من الأفضل أن أستمع إليهم. وما أخبروني به كان فظيعاً. قالوا أنّ والدي يمارس ضغطاً كبيراً على الفتيات ويجبرهنّ على القبول بأشياء مهينة ويبتزّهنّ نفسيّاً. حاولتُ إقناع تلاميذي بأنّها كلها إشاعات أطلقها من رسب جراء كسله ولكنّهم أكّدوا لي بأنّها الحقيقة وأنّ عليّ فعل شيء بهذا الخصوص إن كنتُ فعلاً إنسانة صالحة. وعدتهم بأن أتحرّى عن الموضوع بكلّ تجرّد وأن أنسى أنّ المتّهم هو أبي. وبدأتُ ألاحظ نظرات زملائي إلى أبي عندما يتواجد معهم والإبتسامات المتبادلة بينهم عندما يرحل وقلتُ لنفسي أنّ الأمر ليس صدفة. ولكن كان عليّ التأكّد من صحة الخبر لإتهامه أو الدفاع عنه. ووجدتُ أن أفضل وأسرع طريقة هي مواجهته وردّة فعله ستكون خير إختبار. قصدتُه في مكتبه في الجامعة وأقفلتُ الباب ورائي بعد دخولي. قلتُ له من دون مقدّمة:

- سمعتُ أنّ أموراً غير أخلاقيّة تجري في هذا المكتب وأنّكَ تكافئ الطالبات المطيعات...

- كيف تجرؤين على قول هذا لي! أنا أشرف إنسان وُجد على سطح الأرض! ظننتُ أنّكِ ذكيّة وواعية ولكنّني كنتُ مخطئاً... الله...

- أترك الله جانباً، لأنّه لا يرضى أبداً بما تفعله! لديّ أدلّة على ما قلته والطلّاب مستعدّون لإدلاء شهادتهم ضدّكَ... لا هروب من العقاب.

كذبتُ عليه، فلم يكن لديّ أيّ إثبات ملموس، بل إشاعات فقط عندها تغيّر صوته وقال:

- أحياناً يصعب على الإنسان مقاومة الإغراءات اليوميّة...

- جعلتَ من حياتنا جحيماً وعشنا بخوف مستمرّ... إدّعيتَ أنّكَ مرجع بالأخلاق وها أنتَ إنسان مجرّد من أي قيمة وشرف.

وتوجّهتُ فوراً إلى مكتب المدير وأخبرتُه بما يجري. إستغربَ أن أكون مَن يشي أبي فقلتُ له:

- سكوتي عمّا يحصل يجعل منّي شريكة في الجريمة. إفعل ما عليكَ وأترك لي مسألة تأنيب الضمير.

وأُخضعِ والدي إلى مجلس تأديبيّ وتمّ فصله. وبعد أن عاد إلى البيت، حزم حقيبة وغادر مِن دون أن يحاول أيّ منّا منعه، فلم نكن نريده بعد كل ما فعله بنا وبتلك الفتيات في الجامعة. ويعيش أبي اليوم وحده في شقّة صغيرة ويعمل في مصنع للتبغ.

حاورتها بولا جهشان  

المزيد
back to top button