هل بإمكاني إحياء حبّ قديم أم كل ذلك سراباً؟

لم أكن أدري آنذاك إن كان ذهابي إلى ذلك الإجتماع فكرة جيّدة أم لا ويا ليتني لم أفعل. كنتُ قد تلقيّتُ رسالة عبر هاتفي تخبرني أنّ رفاق دفعتي المدرسيّة سيجتمعون في قاعة فندق مشهور وإن كنتُ أريد رؤيتهم بعد مرور عشرين سنة كان عليّ الحضور. في الأوّل لم أكن متحمّساً للفكرة ربّما لأنّني كنتُ قد نسيتُ تلك الفترة ولكن مع التفكير وجدتُ الأمر مسليّاً. إرتديتُ بذّة جميلة ووضعتُ العطر وتوجهّتُ إلى العنوان المذكور. هناك وجدتُ عدداً كبيراً مِن الناس وبدأتُ أتكهّن مَن يكون كل مِنهم، لأرى إن كنتُ لا أزال أتذكّرهم. وبينما كنتُ واقفاً على حدى سمعتُ صوتاً يقول:

- جاد! أهذا أنتَ؟

إستدرتُ ورأيتُ إمرأة جميلة ماثلة أمامي والبسمة مرسومة على فمها. نظرتُ إليها بتمعّن وإحمرّ وجهي لكثرة إنفعالي لأنّ جيهان كانت أوّل فتاة أحببتُها في حياتي. تمتمتُ كلمة "أجل" أضحكَتها كثيراً، ثمّ جاءت ووضعَت قبلة قويّة على خدّي وقالت:

- لم تتغيّر قط! كم أنا سعيدة أنّكَ جئتَ... مضى وقتاً طويلاً ولكنّني أشعر اليوم بأنّني عدتُ إلى سنّ المراهقة. أخبرني عنكَ! هل تزوّجتَ؟ هل لديك أولاد؟ ماذا تفعل في الحياة! أريد أن أعرف كل شيء!

لطالما كانت جيهان هكذا مفعمة بالحياة. أجبتُها على أسئلتها:

- أنا اليوم مسؤول في منظّمة عالميّة تُعنى بالشؤون الإجتماعيّة ولا... لستُ متزوّجاً، لأنّ عملي يأخذني إلى أقاصي الأرض... وأنتِ؟

وفجأة إختفَت البسمة عن وجهها وقالت بصوت خافت:

- أنا... متزوّجة ولديّ ولدَين...

أدركتُ مِن صوتها أنّها لم تكن سعيدة وتردّدتُ على سؤالها عن الموضوع. ثم أضافَت:

- دعنا مِن هذا الحديث... أرى أنّكَ ما زلتَ وسيماً! سأعترف لكَ بشيء فقط لأنّ سنين كثيرة قد مرَّت... كنتُ مغرمة بكَ آنذاك!

وضحِكَت عالياً وضحكتُ معها ولكنّني شعرتُ بقلبي يخفق بقوّة. قلتُ لها وأنا أنظر إلى عينيها:

- وأنا أيضاً يا جيهان...

وسكتنا وتوقّف الزمن للحظة. وأظنّ أنّها تخيَّلت مثلي، كيف كانت ستكون حياتنا لو علمنا في ذلك الوقت بإعجابنا المتبادل. وقبلَ أن نكمل حديثنا، جاء زملاء لنا وعرّفوا عن أنفسهم وبدأوا يسترجعون معنا الذكريات. وعند إنتهاء الحفل، جاءت جيهان وطلبَت مني رقمي لكي نتكلّم مِن وقت إلى آخر. سألتُها:

- ألن يزعج ذلك زوجكِ؟

- لا يهمِني فأنا مشتاقة إلى وجودكَ.

وكان لهذه الجملة وقع كبير عليّ، لأنّني لم أحلم يوماً أن يكون لها هذا الشعور تجاهي. وأعترف أنّ تلك الليلة حلمتُ بجيهان. وبعد يومين إتصلَت بي وتكلّمنا قليلاً عبر الهاتف ومِن بعدها إلتقينا في مقهى. كانت جميلة جداً بفستانها الأحمر وعندما مسكَت يدي شعرتُ أنّني أسعد رجل في الأرض. ولكنّني كنت أيضاً رجلاً مِنطقيّاً وكنتُ مدرك تماماً أنّها متزوّجة ولها ولدَين، فلم أتخيّل أن يكون لنا علاقة مِن أي نوع لذا قررتُ أن أكتفي ببعض اللحظات البريئة معها. وهكذا بدأنا نلتقي لنتحدّث وعلمتُ مِنها أنّ زوجها إنسان أنانيّ ومخيف وأنّها إقترفَت خطأ كبيراً عندما تزوّجت مِنه:

- لقد أغراني بماله... تعلم أنّني مِن عائلة فقيرة... ظننتُ أنّني سأكون سعيدة... يا ليتني بقيتُ عزباء... لو علمتُ بمشاعركَ نحوي... هل تظنّ أنّنا كنّا سنكون سعداء سويّاً لو...

- لستُ أدري...

- هذا ليس مهمّاً... أنا ملك رجلاً آخراً... سجينة مزاجه القبيح... لولا وجود ولديّ لكنتُ قد قتلتُ نفسي.

- لا تقولي هذا أرجوكِ!

تأثّرتُ كثيراً بحديث جيهان، لدرجة أنّ قلبي إمتلأ بالحقد تجاه زوجها. ولكنّ كرهي له كان ما زال بأوّله، فبعد أيّام على لقائنا الأخير جاءت جيهان وعلامات الضرب ظاهرة على وجهها. عندما رأيتُ الكدمات صرختُ لها:

- ما بكِ؟ ما الذي حصل؟

- إنّه على علِم بشأن لقاءاتنا... ضربَني... ولكنّني لن أتوقّف عن المجيء لرؤيتكَ، فأنتَ النافذة الوحيدة التي أتنفّس مِنها قليلاً...

- تعالي لنذهب إلى مركز الشرطة!

- لا! أرجوكَ... أنتَ لا تعرفه... إنّه متوحّش... إن فعلتَ ذلك سينتقمّ مِنّي... سيريد قتلي لِتفادي السجن...

مسكتُ يدَيها وقبّلتًهما بحبّ وأقنعتُها بالرحيل مِن ذلك المقهى قبل أن يراها زوجها. وعندما عدتُ إلى منزلي، أخذتُ أفكّر بحلّ لمشكلة حبيبتي لتجنيبها الأذيّة. وجاءت الفكرة مِنها عندما إتصلَت بي في اليوم التالي وأخبرَتني أنّها تحدّثَت مع قريبة لها في الولايات المتحدّة وعرضَت هذه الأخيرة عليها أن تأتي مع ولدَيها للعيش معها. ورغم إنزعاجي لِفكرة إبتعاد جيهان عنّي، رحبّتُ بِخطّة  قد تنقذ حياتها. ولكنّ العائق الأكبر عندها كان إيجاد المال اللازم لِتذاكر السفر والتنقّلات ومصروفها هي وولدَيها هناك. فعرضتُ عليها أن أعطيها مبلغاً كنتُ قد جمّعتُه عبر السنين وكان ضمانتي لشيخوخة بعيدة عن الهمّ. رفضَت عرضي ثمّ إقتنعَت بأنّها ملزمة بالقبول على الأقل لحماية ولدَيها ووعدَتني أنّها ستستعمل المال لِتأسيس مشروع وتسدّد لي المبلغ شيئاً فشيئاً. وإتفقنا على موعد هروبها الذي كان سيوافق وجود زوجها في الخارج. وفي لقاءنا الأخير أعطيتُها مدخّراتي وعرضتُ عليها مرافقتها إلى المطار ولكنّها رفضَت قائلة:

- لا... أكره الوداع... دعني أقبّلكَ... سأراك قريباً أعدكَ بذلك... عندما أستقرّ سأبعث لكَ بعنواني وستوافيني إلى هناك لِنبدأ حياتنا سويّاً كما كان مِن المفروض أن يحصل منذ عشرين سنة... أنتَ حبيبي.

وشاهدتُها تخرج مِن المقهى لِتأخذ ولدَيها وحقائبهم وتركب طيّارة إلى ولاية فيرجينيا. وكنتُ ممنوناً مِن نفسي، لأنّني أنقذتُ حياتها وبدأتُ أنتظر إتصالها بفارغ الصبر. ولكنَ هذا الإتصال لم يأتي وظننتُ طبعاً أنّ مكروهاً حصل لهم أو أنّ زوجها لحقَ بها وقتلها أو حجزها في مكان مجهول. والأصعب في الأمر أنّه لم يكن بإستطاعتي فعل أيّ شيء لأنّني لم أكن أعلم إسم قريبتها أو عنوانها، فأصبحتُ كالمجنون أدور في مِنزلي بحثاً عن طريقة للإطمئنان عليها. وبعد مرور شهر على إختفائها، قرّرتُ الذهاب إلى الشرطة للإبلاغ عن إمكانيّة حصول جريمة. وعدَني المفتّش أن يفعل كل ما بوسعه لإيجاد جيهان أومعرفة ما حصل لها. وبعد أيّام جاءني إتصالاً منه:

- سيّدي... علمنا أنّ المدعوّة جيهان س. ليست متزوّجة ولم تتزوّج يوماً وبالطبع ليس لديها أولاد.

- ماذا تقول؟؟؟

- دعني أكمل مِن فضلكَ... وبعد أن إتصلتُ بالمطار وشركات الطيران أجمع، أستطيع الجزم أنّها لم تغادر إلى الولايات المتّحدة... إسمعني...سأكون صريحاً معك... مَن المؤكّد أنّكَ وقعتَ ضحيّة محتالة تلاعبَت بعواطفكَ وإدّعَت أنّها متزوّجة مِن رجل خطر قد يؤذيها إن لم تهرب مِنه بعد أن تأخذ منكَ مالكَ.

- يا إلهي! وما العمل الآن؟

- أنا آسف... ولكنّكَ أعطيتَها مالكَ بإرادتكَ... يمكنكَ رفع شكوى ضدّها بتهمة الإحتيال وسيبقى علينا إثبات ذلك في حال وجدناها طبعاً. أنصحكَ أن تتابع حياتكَ وأن تنسى ما حصل لكَ.

وبالطبع أصبتُ بإحباط كبير بعد أن تأملّتُ بإحياء حبّ قديم. علمتُ لاحقاً أنّ جيهان هي التي أرسلَت لي الدعوى إلى لقاء التلامذة القدامى كونها رئيسة الرابطة وأدركتُ أنّها كانت قد خططَت لما حصل مِن قبل أن نلتقي بعدما تحرَّت عن وضعي المالي والعائلي. وتابعتُ حياتي التي إمتلأت بالكآبة وعندما إلتقيتُ بالتي كانت ستصبح زوجتي لاحقاً، حاولتُ الهروب مِنها لقلّة ثقتي بالنساء وخوفاً مِن أن تحطّم قلبي كما فعلَت جيهان. ولكنّها أصرّت عليّ وثابرت كثيراً حتى أن إقتنعتُ أنّ النساء ليست متشابهة وأنَ بإمكاني أن أكون سعيداً.

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button