هل المال أقوى مِن الصداقة؟

كان أمير بمثابة أخ لي، أوّلاً لأنّنا كبرنا سويّاً وثانياً لأنّه كان الوحيد القادر على فهمي لكثرة تشابه شخصيّاتنا. ولم يمضِ في حياتي يوم دون أن أراه لأنّه كان جاري وزميلي في المدرسة.

 

وبعد تخرّجي بقليل وجدتُ عملاً في مؤسّسة ولكنّ ذلك لم يشبع طموحاتي بالإستقلاليّة وبحثتُ عن طرق أخرى للنجاح. فعندها قرّرتُ تأسيس شركة إستيراد وتصدير عرضتُ على صديقي الدخول معي في مغامرتي الجديدة. ولكنّ أمير لم يكن قادراً على مشاركتي ماليّاً بسبب حالته الماديّة، فإتفقنا أن آتي بالمال وهو بالعمل ونكون هكذا متساويَين. وفي ذلك الوقت شعرتُ أنّ مشروعنا سيوحّدنا أكثر ولمدّة طويلة لأنّني لم أكن أتصوّر حياتي مِن دون وجوده بِقربي.

وعملتُ على تحضير المستندات وأجرَيتُ الإتصالات اللازمة ووضعتُ المبلغ المطلوب ووقّعنا الأوراق الإداريّة وبدأ العمل الفعلي. بعدها وكلّتُ صديقي بإختيار موقع مكتبنا والموّظّفين. ولأنّني كنتُ أثق كليّاً بأمير وضعتُ كل شيء بتصرّفه لأتفرّغ لمشروع مِن نوع آخر وهو الزواج. فبعد أن بلغتُ الثلاثين مِن عمري شعرتُ أنّ الوقت حان لتأسيس عائلة كما فعَلَ أبي مِن قبلي. وكانت فَرَح قد إستحوَذَت قلبي وكنتُ متحمّساً للإقتران بها خاصة أنّ مستقبلي كان مؤمّناً بفضل شركتي الجديدة فلم أكن مِن الرجال الذين يقدمون على مشروع دون دراسته مِن كل الجوانب أو يرمون أنفسهم في المجهول.

 

وهكذا تقدّمتُ لحبيبتي التي وافَقَت بسرور وبعد أن زرتُ أهلها وأعربتُ لهم عن نيتّي بالزواج مِن إبنتهم تمَّت الفرحة الكبيرة وأصبحتُ رجلاً متزوّجاً. وبعد شهر عسل مليء بالحب والأمل عدتُ إلى وظيفتي بعد أن إطمأنّيتُ على أمير والشركة لأنّني كنتُ أنوي ترك المؤسّسة التي كنتُ أعمل فيها لحظة ما أشعر أنّ شركتي ستؤمِّن لي مردوداً كافياً لذلك. وبدأنا نورّد منتوجات محليّة إلى الخارج ونستورد ما ينقصنا هنا في البلد. وفي البدء سارَت الأمور كما توقّعتُها بعد دراستي للأسواق العالميّة والوطنيّة وحضرّتُ نفسي جديّاً لترك مكان عملي ولكنّ فَرَح نصَحَتني بالتروّي. وأعترف أنّني إنزعجتُ مِن إقتراحها هذا خاصة أنّها لا تعرف شيئاً عن التجارة ولكنّني لم أقل لها شيئاً كي لا أجرح شعورها وإخترتُ الإنتظار لا لأنّني كنتُ غير واثق مِن مشروعي بل لأتفادى مجادلات مع زوجتي.

 


وكنتُ سأشكر فَرَح لاحقاً لأنّها جنّبَتني مصيبة كبيرة بفضل حسّها المرهف ونظرتها الثاقبة للناس. ومرَّت سنة وبدأتُ أحصد ثمار تجارتنا ولكن سرعان ما بدَأت الأمور تتغيّر. ففي سنتنا الثانية شعرتُ أنّ ربحنا تقلّصَ رغم الإقبال الكبير على منتوجاتنا. وعندما طلبتُ مِن المحاسِبة أن تريني أرقامنا هدأ بالي لأنّ كل شيء كان يسير كما يجب فرَدَدتُ الموضوع إلى نكسة بسيطة في قوّة شراء زبائننا. وتابعتُ عملي المعتاد وإنشغلتُ بحمل زوجتي وولادة إبننا. وفي السنة الثالثة واجهَت شركتي صعوبات جديدة فباتَ الربح قليل ولكنّ أمير بقيَ يطمئنُني بالقول:"إنّها مرحلة عابرة... الأسواق كلّها تأثّرَت بالوضع الإقتصادي العام... إنّني أهتمّ بكل شيء... لا تَخَف." ولم أكن خائفاً لأنّني إعتبَرتُ أنّ صديقي قادر على إدارة الأمور. ولكن زوجتي لم تكن مِن رأيي. ففي ذات ليلة قالت لي:

 

ـ تعرف صديقتي نجوى...

 

ـ أجل


ـ زوجها يملك شركة شبيهة بشركتنا وقالت لي أنّ الأمور تسير جيّداً...

 

ـ تحدّثتي معها بخصوص عملي؟؟؟

 

ـ أجل...

 

ـ أوّلاً هذه أمور خاصة وثانياً لا أظنّ أنّ صديقتكِ أو حتى أنتِ تعرِفنَ شيئاً عن إدارة الشركات.

 

ـ هناك أمور لا تستلزم إلمام بل تكون منطقيّة يراها كل مَن يشأ فتح عينيه في الوقت المناسب.

 

ـ ماذا تعنين؟

 

ـ أعنّي أنّ صديقكَ يستفيد مِن ثقتكَ العمياء.

 

ـ لن أسمح لأحد بأن يزرع الفتنة بيني وبين أمير! حتى لو كان ذلك الشخص أنتِ! أعرفه منذ نعومة أظافري ولم يخذِلني يوماً! وبالإضافة إلى ذلك فأنا أدقّق بالحسابات بصورة دائمة ولم أجِد شيئاً مريباً... أرجوكِ ألاّ تتدخلّي بأمور عملي مرّة ثانية.

 

وكانت تلك أوّل مرّة أتكلّم مع زوجتي بهذه الطريقة وبقينا على جفاف لمدّة أيّام طويلة الأمر الذي جَعَلني أندم على إنفعالي. ولكن بعد فترة قصيرة جداً تلقّيتُ إتصالاً مِن أحد موظفيّ شركتي يطلب أن يراني ليتكلّم معي بأمر هام فدعوته إلى اللقاء بي في أحد المقاهي. وحين جلَسَ قال لي:

 

 

ـ سيّدي... هناك أمور تجري في الشركة...

 

ـ ماذا تقصد؟

 

ـ سمعتُ محادثة...رُبى... المحاسِبة... أظنّ أنّها تتلاعب بالأرقام...

 

ـ تظنّ ذلك أم أن أنّكَ متأكدّ؟

 

ـ أنا متأكدّ... السبب الذي دفَعني لمقابلتكَ هو أنّني خائف على وظيفتي... لديّ عائلة وإن إستمرَّت الأمور على هذا النحو سأجد نفسي مِن دون عمل...

 

ـ الوضع ليس بهذا السوء!

 

ـ بلى سيّدي... بلى.

 


وقرّرتُ الإستعانة بخبير محاسبة مستقلّ وأخذتُه معي إلى الشركة دون أن أخبر أحداً. وحين أنتهى مِن مقارنة الطلبيّات والفواتير والجداول كلّها أكّدَ لي أنّ هناك تلاعباً واضحاً مِن قِبَل المحاسِبة.

 

وإستدعيتُ رُبى ووضعتُها أمام الأمر الواقع وإعترفَت بجرمها. ولأنّني إنسان طيّب لم أزجّها بالسجن خاصة بعدما بدأت بالبكاء والتوسّل فإكتفيتُ بطردها. وركضتُ أخبر فَرَح بأنّها كانت على خطأ عندما إتّهمَت صديقي. ولكنّها قالت بعدما إستمعَت لي:"تقول لي أنّ تلك الموظّفة شابة وجميلة... لا أظنّ أنّها تتحلّى بالجرأة اللازمة أو الخبرة الكافية للمجازفة هكذا... هناك مَن وقَفَ وراءها... وهو نفسه الذي وظّفها."

 

ورغم غضبي الشديد فضّلتُ إنهاء الحديث وإلتجأتُ إلى أمير الذي لطالما فَهِمَني. ولكنّني لم أطلعه على شكوك زوجتي فيه خوفاً مِن أن يستاء منها ويبتعد عن عائلتنا. وبعد أن جلسنا سويّاً أكثر مِن ساعتَين نتحدّث عمّا فعَلَته رُبى قلتُ لأمير مازحاً:

 

ـ هذه المرّة سأختار بنفسي المحاسب!

 

نظَرَ إليّ بتعجب وقال:

 

ـ ولماذا تفعل ذلك؟ ألا تثق بي؟

 

ـ بلى! ولكنّكَ إخترتَ رُبى وأنظر ما فعَلَت! ربّما إذا إخترتُ المحاسب الجديد لن يتكرّر ما حصل.

 

سكَتَ أمير مطوّلاً وأضاف:

 

ـ قل لي... كيف علِمتَ بأنّ هناك تلاعب بالأرقام؟ كنتَ تأتي دائماً وتتفحّصها ولم ترَ أي خطب.

 

ـ لِنقل أنّ حدسي قال لي أنّ شيئاً ما يجري.

 

ولا أدري لماذا لم أقل لصديقي عن لقائي مع الموظّف وإكشفتُ فجأة أنّني لا أثق تماماً به ورددتُ ذلك إلى أحاديثي مع زوجتي ولعنتُ الساعة التي سمحتُ فيها لِفرَح بالتدخّل بشؤوني. ووجدتُ محاسباً كفوءً ونزيهاً أوصاني به أشخاص جديرين بالثقة وتأمّلتُ بأن تعود الأحوال كما كانت. ولكن بعد عدّة أيّام إتصل بي الموظّف ذاته الذي نبّهَني مِن رُبى قائلاً:

 

ـ أشكركَ على ما فعلتَه ولكنّ وظيفتي لا تزال في خطر.

 

ـ ماذا تعني؟

 

ـ أعني أنّ المشكلة حُلَّت جزئياًّ... قلتُ لكَ أنّني سمعتُ حديثاً دار بين رُبى وشخص آخر ولكنّكَ لم تسألني عن هويّة ذلك الشخص.

 

- حسناً... مَن هو؟

 

- هو السيّد أمير... أقامَ علاقة مع رُبى وأقنعَها بمساعدته مقابل وعد منه بالزواج.

 

- أنتَ تكذِب!

 

- لا يا سيّدي بل أنتَ ترفض فتح عينَيكَ.

 

وذكَرَتني هذه الجملة بالتي قالَتها لي زوجتي وأدركتُ أنّني كنتُ الوحيد الذي لم يرَ ما كان يجري. ولأنّني كنتُ فعلأً أحبّ صديقي لم أوجّه له أي تهمة بل خيّرتُه بين أمرَين: إمّا أن يشتري منّي حصّتي أو يبيعني حصّته. وعندما سألَني لماذا أقول له ذلك أجبتُه: "أنتَ تعرف لماذا". نظرَ إليّ مطوّلاً وقال: "سأترك لكَ الشركة وسأسافر بعيداً... لا أستحقّ صداقتكَ فأنتَ أفضل منّي بكثير."

وبعد أن أخذتُ الحصص بكاملها لم أسمع منه أو عنه وكأنّه إختفى عن سطح الأرض. وبالرغم مِن الذي فعلَه لم أشعر تجاهه بالغضب لأنّه كان وسيبقى صديقي.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button