هرّة قادَتني إلى السعادة

كنتُ طفلة سعيدة، حتى أن وقعَ الخلاف بين والديّ ولم أفهم آنذاك مدى الفجوة التي وُلِدَت بينهما وكبرَت حتى بلغَت حدّ اللاعودة. وفي ذات يوم، لم تعد أمّي إلى البيت وقيل لي أنّها تركتنا أبي وأنا، لتكون مع رجل آخر. حزنتُ كثيراً لأنّني كنتُ جدّ متعلقّة بها ولأنّها كانت بمثابة قدوة لفتاة بسنّي، فكنتُ لا أزال في السادسة مِن عمري وكنتُ بحاجة إلى حنانها. وعشتُ مع أبي لوحدنا وإحتارَ المسكين بأمري، لأنّه كان غير قادر على الإهتمام بي، خاصة أنّ عمله كان يقضي بالتنقّل مِن مدينة إلى إخرى ليروّج بضاعة شركته. فإرتأى أنّه مِن الأفضل أن يتركني عند والدته ريثما يجد عملاً آخراً يمكنّه مِن الإعتناء بي. وهكذا ذهبتُ مع أمتعتي للعيش مع عجوز شبه راسية، بالكاد تستطيع القيام بأبسط الأعمال المنزليّّة. ورغم ذلك إستقبلَتني بأذرع مفتوحة وأعطَتني كل ما لديها مِن حب وحنان. وخلتُ أنّ بقائي معها لن يدوم طويلاً ولكن وكما فعَلت أمّي مِن قبله، قامَ أبي بِتركي. وإحتارَت جدّتي بدورها بكيفيّة تأمين لي لقمة العيش والدراسة اللازمة، فإقترحَت جارتها أن أُرسل إلى دار الأيتام ليكون لدّي فرصة لِنيل قسطاً ولو بسيطاً مِن الأعتناء. ومرّة ثانية حملتُ حقيبتي ورحلتُ باكية، لأنّني أدركتُ أنّ لا أحد يريدني.
وإذا أردتُ تلخيص السنوات التي قضيتُها في تلك المؤسّسة، سأقول عنها أنّها لم تكن مزعجة ولا سعيدة، بل مرَّت مصبوغة بشعور بالوحدة خاصة بعدما توفيّت العجوز ولم يعد لي مَن يسأل عنّي. وحين بلغتُ سنّ الرشد، أمّنَت لي الدار عملاً في شركة إتصالات. كانت مهّمتي بسيطة، فكل ما كان عليّ فعله هو الرّد على الهاتف وإجراء مخابرات مع الزبائن لأذكرّهم بدفع الفواتير. ولأنّني لم أتعلمّ في الميتم أن يكون لدّي طموح بل أن أقبلَ بما أحصل عليه وكأنّه أكثر مِن كافٍ، فوجدتُ ذلك العمل مناسباً لي.
وبعد بضعة أشهر، إستطعتُ الإنتقال إلى غرفة صغيرة في أعلى مبنىً قديماً مقابل أيجاراً بسيطاً. ولأنّني كنتُ قد أعتدتُ على فكرة الوحدة، لم أنزعج مِن العيش لوحدي، بل فرحتُ أن يكون لي مكاناً خاصاً بي. وهكذا مضَت الأيّام أذهب إلى عملي في الصباح وأعود في المساء لآكل وأنام في سريري الصغير.
وأظنّ أنّ حياتي كانت ستظلّ هكذا لو لم أعثر في ذات ليلة على قطّة تائهة في أسفل المبنى. كانت المسكينة جائعة ولِحقَت بي إلى الداخل وصَعِدَت معي السلالم الطويلة حتى أن وصلَت إلى بيتي. وحين فتحتُ الباب، دعوتُها للدخول قائلة:"تفضلّي... البيت بيتكِ." وتقاسمتُ معها عشائي وحين جلستُ أمام التلفاز، قفزت على حضني وأغمضَت عينيها وغرِقَت في النوم. إبتسمتُ لأنّني أحببتُ فكرة تواجدها معي وقررتُ أن أبقيها عندي، فكنّا كلتَينا بحاجة لبعضنا البعض بعد أن رمانا أهلنا ورحلوا. وهكذا أصبح لديّ رفيقة تنتظرني بفارغ الصبر وكنتُ أعود إلى المنزل بسرعة لأطعمها وألهو معها. وبعد فترة، لاحظَ زملائي تغيّراً في نفسيّتي، فأصبحتُ أكثر مرحاً وتعاطياً مع الأخرين. وكانت هرّتي "لولو" كما أسميتُها تخرج مِن حين لآخر مِن الشباك وتقفز إلى السطح المقابل وتقضي النهار خارجاً وتعود كلّ ليلة.
ولكن في ذاك مساء، إنتظرتُها ولم تعد. إنشغلَ بالي كثيراً عليها ولم تغمض عيني خلال الليل ونهضتُ مِن السرير باكراً لأنزل إلى الطريق وأناديها. ولكنّني لم أجدها في أيّ مكان. لا أستطيع وصف شعوري في تلك اللحظة. هل كانت لولو قد هجَرتني كما فعل كل مَن كان مِن حولي أم أنّها وقَعت ضحيّة حادث ما؟ قضيتُ أيّام طويلة أبحث عنها حتى أن إستسلمتُ أخيراً ووقعتُ بأكتئاب حاد.


وفي ذات نهار، جاء الناطور وأخبرَني أنّه رأى لولو مع رجل يسكن في المبنى المجاور. كان الشاب معها على شرفته يضع لها الطعام ويلعب معها. وفور سماع ذلك، توجّهتُ إلى المكان المذكور وقرعتُ الباب بقوّة. وإذ بشاب وسيم يفتح لي ويسأل عمّا أريده. عندها صرختُ له:

 

ـ أريد إسترجاع قطتّي أيّها السارق!


ـ أتعنين فوفو؟


ـ لا! بل لولو! كيف تسرق قطّتي؟ أليس لديكَ ذرّة ضمير؟


ـ أنا آسف ولكن... هذه قطّتي وكنتُ قد أضعتُها منذ فترة وعندها فقدتُ الأمل في أيجادها ظهرَت مجدّداً!

 

ـ أنتَ تكذب! أريد إثباتاً بأنّها لكَ.

 

وأخذَني الرجل بذراعي وأدخلَني معه وفتحَ درجاً وسحبَ مجلّد صوُر وأراني نفسه مع القطّة منذ ما كانت صغيرة. وفهمتُ أنّها حقّاً له وأنّها كانت قد جاءَت إليّ كزائرة قبل أن تعود إلى صاحبها الأساسي. جلستُ حزينة على الأريكة وبدأتُ أبكي. إقتربَ منّي الشاب وقال:


ـ إسمي وسام... ما أسمكِ؟

 

ـ سلوى...


ـ ولماذا تبكين يا سلوى؟

 

ـ لأنّني عدتُ وحيدة كالسابق... حتى القطّة لا تريد العيش معي...

 

ـ ما الأمر؟ أخبريني... لما لا نحتسي الشاي أوّلاً؟

 

وقام وذهبَ إلى مطبخه وحضّرَ لنا الشاي وجلسنا سويّاً أخبرُه قصّة حياتي المليئة بالمآسي. إستمعَ إليّ ورأيتُ دمعة تتساقط من عينيه. لم أفهم سبب حزنه عليّ، فلم يكن يعرفني. هل يُعقل أن يكون وسام حساساً إلى هذه الدرجة؟ وعندما إنتهيتُ مِن الكلام أخذَ نفساً عميقاً وقال:

 

ـ أنا أيضاً كبرتُ في ميتم... تركَتني أمّي بعدما حملَت منّي دون زواج وفضّلَت أن تزيح عنها وطأة الفضيحة... على الأقل تعرفين مَن أهلك، أمّا أنا فلم أعرف سوى الأناس الطيّبين الذين إعتنوا بي سنين طويلة... وكما ترين أعيش وحيداً مثلكِ وسلوتي هي قطتّي فوفو... وحين فقدتُها شعرتُ مثلكِ تماماً وها أنا قد وجدتُها مجدّداً...

 

ـ كم أنتَ محظوظ...

 

ـ إسمعي يا سلوى... لما لا تأتين لزيارتها كلمّا أردتِ ذلك؟ أنا متأكدّ أنّها ستفرح بكِ... أنظري إليها كم هي سعيدة بوجودكِ...

 

ـ هل أنت جاد؟ أستطيع فعل ذلك؟ ألن أزعجكَ؟

 

ـ ولما أنزعج؟ أنتِ ربّما الإنسانة الوحيدة التي بأمكانها فهمي... سأكون سعيداً بكِ... صدّقيني.

 

وبدأتُ أزور فوفو ووسام كل أسبوع، ثمّ كلّ يوم حتى أصبحنا وكعائلة واحدة. كنت أجلب معي قالب مِن الحلوى لوسام ومطيبّات لِفوفو. وبعد بضعة أشهر طلبَ منّي وسام أن نبقى سويّاً، فأجبتُه:

 

ـ ماذا تقصد بذلك؟ أنا فتاة شريفة!

 

ضحِكَ وأجاب:

ـ ليس لديّ أدنى شكّ بذلك... أقصد أن نرتبط... رسميّاً.

 

ـ تقصد أن نتزوّج؟

 

ـ أجل... وننجب أطفالاً كثر ونقسم لهم ولبعضنا ألاّ نفعل مثل أهلنا...

 

ـ ونبقى مع بعضنا إلى الأبد...

 

ـ ونحبّ بعضنا أكثر مِن أي شيء في الدنيا...

 

ـ ولا نعود وحيدين...

 

ـ وكيف نكون وحيدين مع ستّة أولاد؟

 

ضحكنا سويّاً ونظرنا إلى بعضنا وعيوننا مليئة بالأمل والسعادة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button