هجَرَني ولَديّ

إن كنتُ أمضي اليوم أيّامي مِن دون حبّ ولدَيّ لي وأتحملّ كرهما العميق، فالسبب هو طمع وجشَع زوجي، الذي لم يعرف أنّ اللعب بالنار أمر خطير.
بدأت القصّة قبل ولادتهما، حين تزوّجتُ مِن عُمر. كان وسيماً وذكيّاً وطموحاً جداً، ورأى أبي فيه الصهر المثالي، لِذا قبل بأن أصبح زوجته بكل سرور قائلاً:" أنا متأكدّ أنّ ليلى ستكون بأمان معَكَ". ويوم زفافي، نظرتُ إلى عريسي بحب وتفاؤل وهمستُ بأذنه:"سأفعل جهدي لإسعادكَ ياحبيبي". إبتسمَ لي وغَمرَني بقوّة. ولكنّني لم أكن أعلم آنذاك أنّ الخصال التي جذَبتني إليه، كانت هي التي ستؤدّي إلى تعاستنا كلّنا. فَمِن موظّف عادي، بدأ يحصد الترقيّات حتى أصبحَ نائب مدير الشركة وأصبحَ راتبه أكثر مِن كافياً لإنشاء عائلة، فأنجبنا سهام ومِن ثمّ عدنان.
وككل أمّ صالحة، أخذتُ أهتمّ بذويّ بحب وتفاني، بينما كان عُمر ينصبّ على عمله. ولكنّ النجاح الذي حَققّه ملأ رأسه بلإعتزاز المبالَغ به وشعرَ أنهّ لا يُقهر، فأرادَ المزيد مِن المال والنفوذ. وكما يحصل في هكذا وضع، أحبّ زوجي أن يكون له عشيقة ليكون مثل الآخرين، فلَم يتردّد على الخروج مع إحدى عارضات الأزياء المعروفة آنذاك. ولم يتكبّد العناء بأن يُخفي تلكَ العلاقة، بل كان يتواجد معها علناً في المطاعم والسهرات، حتى أنّ أحد الصحافيين إلتقطَ صورة لهما ونشرها تحت عنوان:"مَن هو ذلك الرجل الذي خطفَ قلب سميرة؟" ورأيتُ المجلّة وكادَ أن يُغمى عليّ مِن شدّة الصدمة وعندما عاد عُمر مِن عمله، أريتُه الصورة، فإكتفى بالقول: "اللقطة ليست ناجحة... أبدو سميناً فيها".

فأجبتُه:"هل هذا كل ما لديكَ؟ ألستَ آسفاً ولو بعض الشيء أو خجلان؟" عندها إقتربَ منيّ زوجي وغمَرني ونشّفَ دموعي وقال:"هذه المرأة لاتعني لي شيئاً... عليكِ أن تفهمي وتقبلي أنّ نجاحي يفرض عليّ بعض الأمور... لاتتوقفّي عندها أرجوكِ..."

وفي تلكَ الليلة مارس عُمر الحب معي بشغف ليثبتَ لي أنّه لا يزال يحبّني. وأنا كالغبيّة، قبلتُ بالوضع وكأنّه أمر بديهي، لِدرجة أنّني فعلاً لم أعد منزعجة. وهو مِن ناحيته، بذلَ جهده للإكثار بالعلاقات الصاخبة العلنيّة. وحين سألَني الكثير مِن الناس ما موقفي مِن الذي يحصل، كنتُ أجيب في كل مرّة:"إنّه رجل ناجح... فهذا أمراً طبيعيّاً..."

 

ومّرت السنين وكبرَ الأولاد ولم يتغّير شيء، سوى أنّ عُمر بدأ يتعامل مع أُناس مشبوهين ويبيّض لهم أموالهم مقابل عمولة خوّلتنا أن نعيش بطريقة لا تتناسب مع الراتب الذي كان زوجي يتقاضاه. فإنتقلنا إلى العيش في فيلا جميلة وأصبح لنا سيّارات باهظة الثمن، وبتنا نستقبل الأثرياء حول حوض السباحة الخاص بنا. ونمط عيشنا هذا لم يغِب عن أعيُن الدولة التي قرّرَت التحقّق مِن كيفيّة حصولنا على المدخول. وفي هذه الأثناء، أغضبَ عُمر عملائه الكبار الذين كانو يبعثون له بأموالهم، لأنّه أصبحَ جشعاً وأراد المزيد. وكل تلك الظروف خلَقَت جوّاً مِن التوتّر الحاد في البيت، لِدرجة أنّ كل ما كنتُ أقوله أو أفعله، كان يثير غضب زوجي وأصبحنا نتشاجر كلّما تواجدنا سويّاً.


لم أكن أفهم سبب تصرّفه هذا وإعتقدتُ أنهّ قد أُغرِم بإحدى عشيقاته وأنّه يريد تركي. وبالطبع لم تغِب تلك الجدالات العنيفة عن أنتباه ولدَيّ الذَين بدأا يعتبراني المسؤولة عن فقدان الهدوء في البيت، لأنّ أبوهما كان يردّد دائماً:"الحياة معكِ صعبة جدّاً... لماذا تفتعلين المشاكل دائماً؟ ألا أعطيكم ماتطلبه نفسكم؟ خراب العائلة سيأتي مِن جرّاء تصرّفاتكِ."
وخافَت إبنتي سهام أن يرحل أبوها وملأت رأس عدنان أخوها بالكره تجاهي وأصبح لي ثلاثة أعداء في عقر داري. لِذا فضلّتُ السكوت وتحمّل مزاج زوجي بصمت على أمل أن يكون الوضع مؤقّت. ولكن الأمور لم تتحسّن، بل بالعكس زادت سوءً. ففي ذات يوم، جاءَت الشرطة إلى مكان عمل عُمر وإعتقلَته بتهمة تبييض الأموال بعدما تأكّدوا أنّه يسّهل تهريب مبالغ ضخمة مِن الخارج. وحققّوا معه وثمّ أفرجوا عنه بكفالة ريثما يحين موعد المحاكمة. ومِن جهّة أخرى، علم أصحاب الأموال بأمر توقيفه، فخافوا أن يفشي زوجي بأمرهم، فبدأو يهدّدونه بنا. فأرسلوا له إنذاراً بأنّه قد يفقد عائلته إن خطرَ على باله الأعتراف بأيّ شيء. وعلمتُ بهذا الأمر عندما وجدتُ الرسالة في مكتبه وأنا أنظّف الغرفة ورأيتُ ورقة عالقة في الدرج. وحين قرأتُها، إنتابني خوف شديد وجلستُ أبكي. ثم أتصلتُ بعُمر وطلبتُ منه المجيء فوراً. وبالطبع تشاجرنا مجدّداً لأنّه لم يكن يدرك بعد بأيّة مصيبة كان قد زجنّا مِن جرّاء طمعه، فصرخَ بي:

 

ـ مِن أين كنتِ ستحصلين على كل ما لدينا؟ مِن راتبي؟

 

ـ لم أطلب شيئاً منكَ يوماً... أحببتُكَ وأردتُ العيش معكَ وتأسيس عائلة... كنتُ مكتفئة بالذي ملكناه آنذاك ولو لِزمَ الأمر كنتُ مستعدّة لإيجاد عمل لمساعدتكَ... أمّا أنتَ فلم تكن سعيداً بما كان لديكَ... أردتَ المزيد والمزيد... خنتَني علناً وأهنتَني... تعاملتَ مع لصوص وها نحن بخطر بسببكَ... ماذا تنوي فعله الآن لحمايتنا؟ أم أنّ فكرة فقداننا لاترعبكَ؟

 

سكتَ عُمر وبعد قليل أجابَ:

 

ـ سأهتمّ بالأمر...

 

وأخبرَني لاحقاً أنّه طمأنَ بال مستثمريه واعداً إيّاهم أنّه لن يتفوّه بكلمة واحدة. ثم ذهبَ إلى محام مشهور، طالباً منه أن ينشله مِن أيدي العدالة. ولكن بعد الإطلاع على الملف، أخبرَه رجل القانون أنّ الأدلّة ضدّه كثيرة ومؤكدّة وأنّ الطريقة الوحيدة لِتجنّب السجن هي مساعدة الشرطة بالقبض على أصحاب الأموال بواسطة الأنتربول. ولكن كان هذا يعني أيضاً أنّه سيجعل منّا ضحايا شركاه. لِذا لم يجد زوجي مخرجاً سوى الأنتحار. فبهذه الطريقة ينقذ سمعته وسمعة أولاده ويجنّبنا موتاً شبه محتوماً. وهكذا وجده أحد المارّة ميّتاً على مقعد في منتزه عام. كان عُمر قد أخذَ حياته بِرصاصة أطلقَها في رأسه بواسطة مسدّس إشتراه قبل بضعة أيّام.
ومع أنّني علمتُ سبب ما فعلَه، أخفيتُ عن الأولاد أمرَ تورّط أباهم مع أناس أشرار، لِذا إعتقدوا أنّه قتلَ نفسه لأنّه لم يكن سعيداً معي. وطلَبَت سهام أن تذهب مع أخيها عند جدّتها للعيش معها بدلاً أن تبقى معي ولم أستطيع إقناع أيّ منهما بالبقاء. إعتقدتُ أنّها مرحلة عابرة ستمّر بسرعة بعد أن يتعوّدا على فكرة فقدان والدهما. لِذا سمحتُ لهما بالرحيل. ولكن ولأسفي الشديد لم يعودا إليّ. وبالرغم مِن محاولاتي العديدة لإسترجاعهما، لم يتغيرّ موقفهما. ووجدتُ نفسي أمام خيارَين: إمّا إسترجاعهما بإخبارهما بالحقيقة وتشويه سمعة الذي يَرونه مثال للآباء أو السكوت والعيش مِن دونهما وتكبير الفجوة بيننا. وإخترتُ أن أسكت، لأنّ مصلحة أولادي هي الأهم ولأنهّ سيأتي يوماً وأكون قادرة على البوح بالحقيقة وتبييض صفحتي. وحتى ذلك الحين، عليّ تحمّل وحدَتي وحزني وقبول واقع لا دخل لي فيه.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button