مِن عاملة هاتف إلى مديرة

مَن يراني جالسة خلف مكتبي الضخم، لن يتصوّر أبداً أنّني بدأتُ فعلاً مِن لا شيء وصعدتُ درجات النجاح الشاقّة وحدي، بِفضل إصراري ومهارتي. وقد حان الوقت لِأتذوّق طعم النجاح بعد سنين قضيتُها أكافح فقط لأنّني إمرأة.
كل شيء بدأ عندما ولدتُ وأخبروني أن أبي قال في ذلك الحين: "ماذا تريدونني أن أفعل بِبنت؟ لو جئنا ببقرة أوعنزة لكان هذا أفضل." وبقيَ الرجل متأسّفاً على كل قرش صرفَه عليّ، حتى أن ولِدَ أخي مع إعاقة خلقيّة. حينها علِمَ والدي أنّ المهمّ هو الصحّة والعافية وليس جنس الطفل. وأصبحتُ الإبنة المدلّلة التي يُبنى عليها الآمال بعد أن نصح الطبيب أمّي بألّا تنجب مجدّداً، خوفاً مِن أن تأتي بطفل معاق آخر.
حينها شعرتُ بأهميّة وجودي بالعائلة، ما زادني ثقة بنفسي وبدأتُ أحصد العلامات الممتازة في المدرسة. أعطوني الجوائز والشهادات وكنتُ دائماً مندوبة صفّي لأنّني لم أكن أخشى أن أطالب بِحقوقي. وتكرّر المشهد نفسه في الجامعة ونلتُ إجازتي في إدارة الأعمال ومِن ثمّ الماستر. ولكن عندما حان الوقت لِأخوض معركة العمل، إصطدمتُ بواقع مرير: رغم كل مهارتي، كنتُ لا أزال إمرأة ولا مكان لي في عالم الأعمال المخصّص للرجال. والوظيفة الوحيدة التي وجدتُها آنذاك، كانت في إحدى شركات الإستثمارات المشهورة، ولكن وراء الهاتف أتلقّى الإتصالات وأحوّلها إلى المكاتب. ورغم هذا الظلم، كنتُ أتوجّه كل يوم إلى عملي وشيء واحد في رأسي: أن أثبت لهؤلاء الذكور، أنّني قادرة على القيام بما يعملونه. في البدء لم يحصل شيئاً يلحظ، فكنتُ أقوم بما طُلِبَ منّي ولكن في ذات يوم سمعتُ أحد الموظّفين يشتكي مِن غياب السكريتيرة، لأنّه يريد طباعة رسالة مهمّة. فقلتُ له:

- يمكنني فعل مساعدتكَ إذا شئت.

كنتُ قد كذبتُ عليه، فأنا لم أطبع حرفاً في حياتي ولكنّني جلستُ أمام الآلة وبعد جهد جهيد أعطيته الرسالة مطبوعة. ومنذ ذلك اليوم أصبحتُ أطبع مِن وقت لآخر، ثمّ بإستمرار حتى أن قرّر المدير أن أترك عملي على الهاتف وأن ألتحق بمكتب السكريتيرة لكي أساعدها، وأتوا بموظّفة لتحلّ مكاني. قضيتُ أكثر مِن سنتين أعمل مع فتاة لم تحبّني ورأَت فيّ منافسة لها وعملَت جهدها كي تبقيني تحت سيطرتها. لم أحاول يوماً أن آخذ وظيفتها أو أن أبدو أفضل مِنها ولكن ذكائي وثقافتي وشهادتي كانوا واضحين لمن يأخذ الوقت للنظر بتمعّن. وفي ذات يوم دعاني المدير إلى مكتبه وطلبَ مِنّي أن أجلس. ثمّ قال لي:

- منال... أشعر أنّ مكانكِ ليس على مقعد سكريتيرة... لقد قرأتُ ملفّكِ وأريدكِ أن تصبحي مساعدتي الخاصة... أنا بحاجة إلى من يفهم الأعمال... لقد وظّفتُ الكثير مِن الناس الغير كفوئين وأجد نفسي أقوم بكل شيء بنفسي. هل تقبلين عرضي؟

- بكل سرور سيّدي.

وإنتقلتُ إلى غرفة ملاصقة لِمكتب المدير وسط إمتعاض البعض، بما فيهم السكريتيرة التي ظنّت أنّها أحقّ مِني بهذا المنصب وأطلقَت عليّ الإشاعات المشينة، أي أنّني قدّمتُ خدمات جنسيّة للمدير مقابل ترقيتي. وكان هذا غير صحيح طبعاً وأظنّ أنّ الجميع علِمَ أن الدافع الوحيد وراء هذه الأقاويل هو الغيرة. وفي تلك الفترة بدأَت حياتي العمليّة تتبلور وبدأتُ اتعرّف حقّاً على إدارة الأعمال والملفّات والإستثمارات أي كل الذي تعلّمته في الجامعة. ولكنّني بقيتُ الشخص الذي يعمل في الظل، أحضّر لِمديري كل شيء وفي بعض الأحيان لم يكن عليه سوى وضع توقيعه في أسفل دراسة كنتُ قد قمتُ بها بنفسي. وأثناء الإجتماعات الكبرى، لم أكن حتى مدعوّة. لا أخفي أنّني كنتُ أشعر بغبن كبير لما يحصل ولكنّني كنتُ صبورة جداً وكنتُ متأكّدة أنّ يوماً سيأتي وآخذ فعلاً حقّي. ولكن كان عليّ أن أثبت مهارتي أكثر مِن أي وقت آخر.
وبقيَت الأحوال على هذا النحو أكثر مِن عشر سنوات، أعمل بِصمت بينما كان غيري يحصد الأكاليل وبعد كل هذا الوقت حسبتُ فعلاً أنّني هدرتُ حياتي في مشروع لن يؤدّي إلى أي مكان وندمتُ أنّني لم أسلك الطريق التي كان مرسوم لي منذ ولادتي أيّ أن أتزوّج وأنجب الأولاد فقط. ولكنّ تعبي لم يذهب سداً وكان مكتوب لي أن أكافئ على مجهودي كلّه. ففي ذات يوم، ناداني مديري وأقفل الباب وراءه وقال لي بصوت جديّ:

- منال... إسمعيني حتى الآخر... لقد علمتُ منذ بضعة أيّام أنّني مصاب بمرض خبيث وأنّ أمل شفائي ضئيل... وإن كنتُ محظوظاً كفاية أن أعيش، فلَن أستطيع القيام بعملي بِسبب العلاجات التي سأخضع إليها... ولن أسمح أن أرى كل ما تعبتُ مِن أجله أن يذهب مع الريح... درستُ جميع الإحتمالات ولم أجد سوى شخصاً واحداً بإمكأنّه حمل الشعلة بعدي، وهو أنتِ...

- لا أدري ماذا أقول...

- دعيني أكمل... لن يكون الأمر سهلاً، فهناك العديد مِن الموظّفين الذين ينتظرون فرصتهم وسيكونون مستائين لِخياري هذا... سيجعلون مِن حياتكِ جحيماً وسيحاولون إفشالكِ ليثبتوا أنّني كنتُ مخطئاً... أنتِ قويّة وأريدكِ أن تكوني أقوى مِن كل العواصف التي تنتظركِ... هل تقبلين بهكذا تحدّي؟

- نعم سيّدي.

كنتُ قد جاوبته مِن دون أن أفكّر ولو لِلحظة، لأنّني كنتُ أحلم بهذا اليوم. وبعد بضعة أشهر أطلعَ المدير أعضاء مجلس الإدارة على إختياره لسلفه وأقنعهم بالقبول بي. قرّروا أن أخضع لفترة تجريبيّة تبيِّن لهم مهارتي. ولكن عندما إنتقلتُ إلى مكتب المدير، شعرتُ فوراً بتغيير جذري بتعامل زملائي معي. رأيتُ على وجوههم الغضب والدهشة والإستنكار وكأنّ هذا لم يكن مِن المفروض أن يحصل. ومضى أكثر مِن شهر على هذه الحالة أتصارع مع برودة ورفض الموظّفين ما كاد أن يؤثّر على الشركة وطبعاً على منصبي. ولم يكن لي سوى حلّاً واحداً وهو أن أدعو إلى اجتماع عام وبعد أن حضرَ كافة الموظّفين مِن عامل التنظيف إلى نائب المدير، قلتُ لهم:

- أعلم أنّ وصولي إلى هذا المركز أثار عندكم ردّة فعل قويّة ولكن عليكم أن تعلموا أنّني كنتُ أعمل في الخفاء طيلة سنين طويلة. ولو لم أكن أتحلّى بالمواصفات المطلوبة لإدارة الشركة، لما كنتُ هنا اليوم. هناك كفاءات كثيرة في هذا المكتب ولكنّ الإختيار وقعَ عليّ. واليوم أمامكم خيارين: إمّا أن ترفضوني ويتأثّر العمل بشكل ملحوظ ويؤدّي ذلك إلى إقفال الشركة وعودتنا جميعاً إلى بيوتنا ولن يكون هناك رابحين، بل خاسرين وإمّا أن نعمل يداً بِيد لكي نستمرّ على ما كنّا عليه، بل نحسّن مِن أدائنا ونستفيد على جميع الأصعدة. الشركة هي مجموعة أفراد يعملون كجسم واحد لهدف واحد. إن لم نكن ملتحمين، فسينهار مورد رزقنا. الخيار لكم وعليكم تحمّل مسؤوليّة نتيجة قراركم. وشكراً.

كنتُ أعلم أنّ ما قلتُه كان منطقيّاً ولكنّني لم أكن متأكدّة مِن النتيجة. وفي اليوم التالي حدثَ أمر عجيب. بينما كنتُ جالسة وراء مكتبي، سمعتُ قرعاً على الباب ومِن بعدها دخلَ نائبي، ثمّ لحقه موظف، ثمّ آخر حتى أن إمتلئ المكتب بالموظّفين. وقفوا أمامي صامتين حتى أن قال نائبي:

- جئنا نقول لكِ سيّدتي أنّنا ننتظر تعليماتكِ لنبدأ بالعمل.

إبتسمتُ لهم وعلِمتُ حينها أنّ حياتي العمليّة قد بدأت فعلاً. أنا اليوم متزوّجة ولديّ ولدَين وأدير إحدى أكبر شركات الإستثمارات في الشرق.

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button