مُمرضة شجاعة (الجزء الثاني)

أقفَلتُ باب الغرفة وجلستُ على كرسيّ قبالة هيام وانتظرتُها لتبدأ بالحديث. وهي تنهّدَت عاليًا وقالَت:

 

ـ المُشكلة تعودُ إلى زمَن بعيد ولا دخل لي ولزوجي بها مُباشرة... فنحن ضحيّة خلاف وقَعَ بين أبي ووالد زوجي حين كانا شابَّين وتفاقَمَ إلى حدّ الّلارجوع. فعندما كان والدي مُراهقًا، تعرّفَ إلى شلّة شبّان مِن سنّه فرافقَهم كَونه إبنًا وحيدًا لا اخوة له، وهم باتوا بمثابة عائلته الثانية. لا تُسيئي الفهم، تلك الشلّة لَم تكن مؤلّفة مِن أفراد سيّئين يفتعلون المشاكل أو يقومون بالسرقات أو يتعاطون المُخدّرات، بل كانوا مُتهوّرين كالعديد مِن أبناء سنّهم. إلا أنّ أبي كان الحلقة الأضعف بينهم، ربّما لأنّه كبرَ مُحاطًا بإهتمام والدَيه اللذَين أبعداه عن كلّ أذيّة. وهكذا صارَ محطّ سخرية أفراد الشلّة الذين قضوا وقتهم يتحدّونه للقيام بأعمال بطوليّة، ربّما لتقويَته أو ليستطيع مجاراتهم أكثر. وهو، مِن جانبه، فعَلَ جهده لإرضائهم وليُثبت لهم أنّه جدير بأن يكون وسطهم. وبدأ والدي يعودُ إلى البيت مُغطىً بالكدمات بسبب التهوّر، لكنّه بقيَ يُخفي عن أهله ما يحصل له خوفًا مِن أن يمنعاه مِن مُعاشرة أصدقائه. للحقيقة، هو كان يخافُ كثيرًا مِن تلك المُشاغبات، لكنّ كبرياءه منعَه مِن التراجع، وقد رأى أنّ التحدّيات كانت تزيدُ خطورة مرّة بعد مرّة. إلى حين وصَلَ الأمر به أن يقبَل تحدّيًّا مُخيفًا جدًّا كان سيكون الأخير ويُثبّته ضمن المجموعة، فلَم يعُد بمقدوره الرفض وإلا ذهَبَ كلّ ما فعلَه سابقًا سدىً. طلَبَ منه رفاقه أن يذهبَ ليلاً إلى بيت مهجور يُقال إنّه مسكون مِن قِبَل أشباح شريّرة، وأن يمكثَ هناك لوحده ساعات طويلة. أخَذَ أبي معه ما يلزمه في حقيبة صغيرة، وتوجَّهَ إلى المكان المذكور وقلبه مليء بالخوف، بعد أن سمِعَ أخبارًا مُخيفة عن ذلك البيت. لكن ما لَم يكن يعرفه، هو أن أصحابه قد حضرّوا له المزيد مِن الاختبارات، وعلى رأسهم أب زوجي الذي كان أكبرهم سنًّا ويقودُهم عادةً، وهوعلَّقَ في إحدى غرف البيت المهجور دمية كبيرة مصنوعة مِن القشّ، وذهَبَ ورفاقه خلسة ليُشعلوا بها النار وتحترق لإيهام أبي أنّ الدمية هي شبح خطير. إلا أنّ الأمور أخذَت مُنعطفًا غير مُتوقّع. فلَم يستطِع والدي الخروج مِن الغرفة التي كان فيها فامتدَّت إليه النيران فاحترقَ جسده بالكامل.

 

ـ يا إلهي!

 

ـ أجل، وبالكاد استطاعَ أصحابه انتشاله قَبل أن يموتَ حرقًا. وفي المشفى مكَثَ المسكين لأشهر طويلة خرَجَ بعدها وهو مُشوّه. إستطاعَ الأطبّاء لاحقًّا إجراء عمليّات تجميل عدّة لإعطاء أبي أملاً بأن يبدو طبيعيًّا، لكنّ ذلك لم يكن كافيًا. ومنذ ذلك الحين تغيّرَت حياته تمامًا. صحيح أنّه إستطاعَ أن يجد مَن يُحبّه ويتزوّجه، لكنّه بقيَ يشكّ بنوايا أمّي لسنوات، الأمر الذي سبَّبَ لها معاناة كبيرة. فوالدي كان قاسيًا جدًّا عليها، يتّهمُها بخيانته طوال الوقت وقد حصَلَ مرارًا أنّه ضربَها وشتمَها. وهكذا وُلِدتُ وأخي في بيت يسكنُه الحزن والبكاء والغضب، ولَم يهدأ أبي إلا بعد سنوات طويلة.

 

ـ هل عوقبَ أفراد الشلّة؟

 

ـ قليلاً، فهم كانوا تحت السنّ القانونيّ. حاوَلَ والد زوجي الإعتذار مِن أبي مرارًا، إلا أنّه جوبِهَ مِن قِبَل والدي بالشتائم والتهديدات، وصارَ بينهما زعَل عميق جدًّا، لأنّ حمايَ عاشَ حياته وهو يشعرُ بذنب لَم يقدِر محوَه فانقلَبَ إلى إنسان مرير. وكشأننا، وُلِدَ زوجي وكبرَ في أجواء صعبة... مصيبة دمّرَت عائلتَين. وعندما وقعتُ في حبّ إبن الذي تسبَّبَ لأبي بتلك المأساة، حاولتُ الابتعاد عنه، أقسمُ لكِ ذلك، لكنّني لَم أقدِر، وكذلك زوجي، فهو سافَرَ بعيدًا لسنتَين إلا أنّه عادَ بعد أن أدركَ أنّه لا يستطيع العَيش مِن دوني. فتزوّجنا سرًّا، ورحنا نعيشُ بعيدًا عن أهلنا الذين لَم يعرفوا كيف يُخمدوا النار التي تُغذّي حقدهم. فما شأننا نحن؟ لَم نفعل لأحَد شيئًا! وبالطبغ أنكرَنَا أفراد عائلتَينا واعتبرونا ميتَين.

 

ـ قصّة رهيبة بالفعل... يا حبيبتي... لا أحسدُكِ أبدًا. لكن... مَن هو ذلك الرجُل الذي عنّفَكِ وسبَّبَ لكِ الاجهاض ولا يزال يُرعبُكِ؟ تكلّمي، أرجوكِ!

 

ـ إنّه أخي.

 

ـ ماذا؟!؟ أخوكِ يفعلُ بكِ ذلك؟!؟ لقد قتَلَ إبن إخته وهو لا يزال في بطنكِ!

 

ـ فعَلَ ذلك عن قصد.

 

ـ عن قصد؟!؟

 

ـ أجل، ففي تلك الليلة، جاءَ أخي إلى بيتي عالمًا أنّني سأكون لوحدي بسبب سفَر زوجي. تفاجأتُ به كثيرًا لأنّه، كباقي أفراد العائلة، كان قد قاطعَني ولَم أرَه منذ أكثر مِن سنة. فرِحتُ كثيرًا به فأدخلتُه وأرَدتُ مُعانقته ظنًّا منّي أنّه قدِمَ لمُصالحتي. إلا أنّه أزاحَني جانبًا وبدأ يصرخُ بي ويشتمُني. حاولتُ أن أٌفسِّرَ له أنّ ما حدَثَ آنذاك مع أبي ووالد زوجي لا دخل لي أو لزوجي به وأنّه فِعل مُراهقين لَم يقصدوا الأذيّة. لكنّه زادَ غضبًا ثمّ طلَبَ منّي ترك زوجي على الفور. أجَبتُه أنّني أحبُّه كثيرًا وأنا سعيدة معه وأنّه أب الطفل الذي سيولَد بعد أشهر. تفاجأ أخي كثيرًا ونظَرَ إلى بطني بتعجّب ثمّ بغضب مُخيف. عندها صرَخَ بي: "ماذا؟!؟ تحملين ولدَه؟!؟ لا يجب لهذه السلالة اللعينة أن تستمرّ!". وبدأ أخي بضربي على بطني بغرَض التخلّص مِن جنيني ولَم يتوقّف إلا حين أُغمِيَ عليّ. عندما استعَدتُ وعيي، كان قد غادَر، فطلبتُ الإسعاف... وتعرفين الباقي.

 

ـ لكنّه عادَ يُهدّدُكِ في غرفتكِ هنا، لقد رأيتُه وسمِعتُه.

 

ـ أجل، يُريدُني أن أترك زوجي وإلا سيقتلُ كلّ جنين أحمله. أنا خائفة للغاية... لو ترَين عَينَيه وهو يضربني على بطني! لَم أُخبِر زوجي بالأمر طبعًا، فذلك قد يوصل المُشكلة إلى أقصى حدّها، أخافُ أن يقتُلا بعضهما!

 

ـ هذا جائز طبعًا.

 

ـ ما عليّ فعله؟ ساعديني! فمِن المُتوقَّع أن أترُكَ المشفى بعد يومَين.

 

ـ دعيني أفكّر بالموضوع. إرتاحي الآن.

 

لدى خروجي مِن غرفة هيام، توجّهتُ على الفور عند ممرّضة الاستقبال، وسألتُها عن رقم وعنوان مريض مرَّ في المشفى يعملُ كمُحقّق للشرطة. بعد ذلك، جمَعتُ المُمرّضات وأخبرتهنّ قصّة هيام، واتّفقتُ معهنّ على وجوب حمايتها، على الأقلّ وهي بيننا.

وأوّل شيء فعلتُه هو نقل هيام إلى غرفة أخرى لَم نكن لنِعلُنَ عنها لأحَد سوانا، بحجّة أنّ الغرفة فيها رطوبة عالية، الأمر الذي يضرّ بصحّتها. وحين جاءَ الزوج ليرى مريضتنا، قُدناه إلى الغرفة الجديدة حيث مكَثَ بضع ساعات. لاحقًا، قرّرتُ البقاء في المشفى ليلاً وبدّلتُ نوبَتي مع إحدى زميلاتي. وكنتُ مُحقّة بفعل كل هذا، ففي آخِر دوام الزيارات جاء أخ هيام لكنّه لَم يجِدها في غرفتها. وحين سألَنا عنها أجبتُه بكلّ بساطة أنّ المريضة غادرَت المشفى وعادَت إلى بيتها.

إرتحتُ بعدما أزَحتُ مِن دربي هذه المسألة، وبقيَ عليّ التصرّف لإنقاذ هيام على المدى الطويل، فالخطر مِن جانب الأخ كان لا يزال موجودًا.

في اليوم التالي، قصدتُ المُحقّق بعد أن أخذتُ موعدًا منه، وهو رحَّبَ بي كثيرًا بعد أن كان مسرورًا جدًّا مِن أدائي حين كان مريضًا عندنا، لِدرجة أنّه قال لي آنذاك: "إن إحتجتِ لأيّ شيء فسأكون سعيدًا لردّ الخدمة لكِ". أخبرتُه قصّة هيام وما فعلَه الأخ بها وكيف أنّه لها بالمرصاد. هزّ المُحقّق برأسه وأخَذَ هاتفه ليسأل إن كان سجلّ الأخ نظيفًا. فمَن يُهدّد ويضرب ويُسبّب الاجهاض عمدًا تكون له عادةً سوابق. فالجدير بالذكر أنّ هيام لن تجرؤ على الإشتكاء عليه وإلا تمّ توقيفه وسجنه على الفور.

بعد حوالي النصف ساعة، وصَلَ إتّصال للمُحقّق الذي دوّنَ بعض الكلمات أمامه ثمّ قال لي: "كنتُ على حقّ، فذلك الوغد مُشتبَه به بقضايا عديدة. إنّها أمور صغيرة لكن كافية لجَلبه إلى القسم. لا تخافي، لن أدعَه يقترِب مِن أخته بعد اليوم، فإلى جانب جنحاته، سأقولُ له إنّه يُواجِه تهمة قتل جنين عمدًا والتعدّي بالضرب، الأمر الذي قد يودي به إلى السجن لأعوام عديدة. سأقولُ له إنّني سأكون بالمرصاد له ليلاً نهارًا، وسأقلبُ حياته جحيمًا إن هو فكَّرَ بالتعاطي مع السيّدة هيام. إعلمي أنّني أكرَه هذا الصنف مِن الرجال، فهم جبناء وخطرون وأتمنّى لو أنّ أخته تشتكي عليه رسميًّا ليقبَع وراء القضبان كالجرذ! إذهبي الآن وبالكِ مُرتاح".

 

ركضتُ إلى المشفى وزفَّيتُ الخبَر لهيام التي بكَت مِن الفرَح وقبّلَتني بقوّة. نصحتُها بأن تُغيّر وزوجها مكان سكنهما وأن يُبقيانه سرّيًّا. وهذا ما حصَل وكنتُ الوحيدة التي علِمَت أين هي هيام. لَم يتعرَّض لها أخوها بعد ذلك على الاطلاق فالمُحقّق بقيَ على وعده لي.

بقيتُ وهيام على اتّصال دائم، وكَم فرِحتُ عندما علِمتُ أنّها حامِل مِن جديد! وُلِدَ لها إبن جميل حمَلتُه بين ذراعَي ولاعبتُه إلى حين جاءَت لزوج هيام فرصة عمَل في الخارج. ودّعتُ تلك العائلة الجميلة والدموع تنهمِر على وجهي ودعَيتُ لهم بالتوفيق، فكنتُ مُتأكّدة أنّ حبّهما لبعضهما أقوى مِن كلّ المشاكل التي ستعترِض طريقهما.

بعد فترة، إتّصَلَ بي المُحقّق ليُخبرَني أنّ أخ هيام مسجون بعد أن قُبِضَ عليه بتهمة سرقة كبيرة. إنسان سيّئ بالفعل! قد يقولُ البعض إنّه ضحيّة ما حصَلَ لأبيه والأجواء التي كبرَ فيها، لكنّ قلب الإنسان النظيف لا يعرفُ الأذى إلا إذا كانت بذور الشرّ موجودة فيه بالأصل.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button