من كان يتحرش بإبني؟

كلّ شيء بدأ حين تشاجَرَ إبننا مع رفيقه في المدرسة. حدَثٌ بسيط وشائع، أليس كذلك؟ للأسف لا، على الأقلّ في ما يخصُّنا. لكن دعوني أروي لكم القصّة بتفاصيلها:

عادَ جواد إبني مِن المدرسة مُهبّشًا وكأنّه وقَعَ ضحيّة هرّ مُفترِس، فصرختُ مِن شدّة الوهلة وأخذتُه إلى الحمّام لأُنظِّفَ جروحه. سألتُه مئة سؤال وبالكاد أجابَني، بل إكتفى بالقول: "لقد تشاجرتُ مع رفيقي في الملعب". إلا أنّني رأيتُ على أعلى ذراعه حين خلَعتُ ثيابه لأُعطيه حمّامًا ساخنًا... كدمات بشكل أصابع وكأنّ أحَدًا أمسَكَه بقوّة. إمتلأَت عَينايَ بالدموع، فلماذا هذا الكمّ مِن الأذى مِن قِبَل ولدٍ صغير؟ ماذا فعَلَ له إبني ليُواجَه بشراسة فبالكاد كان عمره سبع سنوات. عدتُ وسألتُ جواد عن تلك الكدمات، فأسرَعَ بإرتداء ملابس النوم وركَضَ إلى سريره وغطّى رأسه لدرجة أنّه اختفى عن نظري تمامًا. صمَّمتُ على معرفة إسم رفيقه، وبعد جهد جهيد علِمتُ أنّه يُدعى سامي. وفي صباح اليوم التالي، وبعد أن أوصَلتُ جواد إلى صفّه، رحتُ إلى مُدير المؤسّسة شاكية له ما حدَثَ لإبني. مِن حسن حظّي، كنتُ قد صوّرتُ الخدوش والكدمات، فلَم يستطِع ذلك المسؤول التخفيف مِن وطأة الإعتداء. عندها نادى المُدير جواد وسامي، وتفاجأ بي إبني حين رآني واقفة أمامه، وقرأتُ في عَينَيه الغضب حيالي. لَم يهمّني الأمر، فسلامة ولَدي أهمّ مِن كبريائه بين رفاقه.

أعترَفَ الولَد بالإعتداء على جواد باستعمال أظافره، لكنّه أنكَرَ مسألة إحداث الرضوض على أعلى ذراعه، ونالَ عقابه وتوجيهات بعدَم التعرّض لإبني مُجدّدًا. طوال وجودي في مكتب المُدير، أزاحَ جواد عَينَيه عنّي لكثرة امتعاضه منّي، فوعدتُ نفسي بالتعويض له باصطحابه إلى أماكن يُحبُّها وإطعامه المثلّجات. فكلّ أمّ تعلَم كيف تُراضي أولادها.

في طريقنا إلى بائع المُثلّجات، بقيَ جواد صامتًا إلى أن قالَ:

 

ـ لَم أكن أُريدُ أن يعلَم أحدٌ بالأمر.

 

ـ أعرفُ ذلك يا حبيبي، لكن مِن واجباتي حمايتكَ، وللأسف لا يسعُني فعل ذلك وأنتَ في المدرسة، لِذا كلّمتُ المسؤول. وليس عيبًا أن يعلَم المُدير بما فعلَه بكَ رفيقكَ. ثمّ أن تُشكوه ليس دلالة على عدَم شجاعة.

 

ـ أنتِ لا تفهمين الموضوع.

 

ـ أفهَم أنّكَ صبيّ في السابعة مِن عمركَ وأنّ لدَيكَ عزّة نفس كبيرة، وهذا الشيء بحدّ ذاته يُطمئنُني. لكنّكَ لا تزال صغيرًا لتُدافع عن نفسكَ وهنا يأتي دوري ودور المسؤولين. أنا مُتأكّدة مِن أنّ الأمر لن يتكرّرَ مُجدّدًا.

 

ـ أنا لستُ مُتأكِّدًا مِن ذلك يا ماما.

 

إلا أنّ البسمة عادَت إلى وجه إبني الحبيب حين ذاقَ بوظته المُفضّلة على شوكولاتة وفراولة وعُدنا سعيدَين إلى البيت. كان جواد قد طلَبَ منّي عدَم إخبار أبيه بما حدَثَ له ووعدتُه بانّني لن أفعَل.

بعد ذلك اليوم إنقلَبَ ولدَي إلى إنسان آخَر، ورأيتُه ينغلِقُ يومًا بعد يوم على نفسه إلى أن باتَ وكأنّه يعيشُ في عالم آخَر. خشيتُ أن يكون قد تأثَّرَ بما فعلتُه وقرَّرَ عدَم مُشاركتي أيّ شيء خوفًا مِن أن أتدخّل، لكن أيّ أمّ كانت ستسكتُ عن أذيّة إبنها؟ هل أنّ الأولاد الباقون صاروا يتنمّرون عليه لأنّه سبّبَ لرفيقهم العقاب؟ لستُ أدري. لِذا رحتُ خلسةً إلى المدرسة وقابلتُ مُدرّسات ولدَي الواحدة تلوة الأخرى، وهنّ أكّدنَ لي أنّ جواد لا يتعرّضُ للمُضايقات في الصفّ على الاطلاق بل هو محبوب مِن الكلّ. لِذا قصدتُ المُعالِج النفسيّ الخاص بالمؤسّسة طالبةً منه التكلّم مع إبني بعد أن شرحتُ له ما حدَثَ وما يحدثُ، وذلك مِن دون أن يشكّ جواد بأنّ لي دخلاً بالموضوع. وعدتُ إلى البيت باكية ومهمومة.

بعد حوالي العشرة أيّام، إتّصَلَ بي المُعالِج النفسيّ طالبًا منّي موافاته في مكتبه في المدرسة، ورحتُ إليه وألف سؤال يدورُ في بالي. قالَ لي:

 

ـ سيّدتي... لقد رأيتُ جواد ثلاث مرّات خلال هذه المدّة بذريعة أنّني أُجري إختبارًا لأطروحتي للدكتورا وأنّني إختَرتُ لذلك الهدف أولادًا بشكل عشوائيّ. قدّمتُ له إستمارات ليملأها ورسومًا للتعليق عليها وتحدّثتُ معه بشأنها، وهذا ما استنتجتُه: لدى إبنكِ خوف شديد مِن رجُل ما في مُحيطه المُقرَّب وقد يكون زوجكِ.

 

ـ هذا ليس صحيحًا، فأب جواد إنسان هادئ ومُسالِم، ولَم يستعمِل معه يومًا أيّ عقاب صارِم أو كلام مُجرِّح بل يعِظُه بكلّ هدوء ومحبّة. أنا التي تقسو أحيانًا على جواد، كأيّ أمّ أخرى.

 

ـ سيّدتي... أنا أعمَل مع الأطفال منذ سنوات عديدة وأعني ما أقوله. هل لدَيه عمّ أم خال يتدخّل في حياته؟

 

ـ أبدًا، لا نرى أفراد العائلة إلا عند الأعياد أو المناسبات كالأفراح.

 

ـ سأحاوِل معرفة المزيد، وابحثي عن ذلك الرجُل مِن جانبكِ. إضافة إلى ذلك، خُذي هذه القصّة المُصوّرة واقرأيتها معه بهدوء ومحبّة أكثر مِن مرّة، فهي تروي قصّة ولد لدَيه مخاوف عديدة. لكن راقبي ردّة فعله عند قراءة كلّ فصل، لتعلَمي أيًّا مِن تلك المخاوف تؤثّر به الأكثر. قد تكون ردّة فعل قويّة أو خفيفة للغاية. أنتِ أمّه وتعرفينَه أكثر مِن أيّ شخص آخَر. لا تخافي، سنصلُ سويًّا إلى نتيجة.

 

تركتُ مكتب المُعالج وقلبي حزين ومهموم، طالبة مِن الله أن يفكّ ضيقة إبني الحبيب. إنتظرتُ بفارغ الصبر وصول موعد ذهاب جواد إلى الفراش، فجلستُ معه في السرير وقرأتُ له الفصل الأوّل مِن الكتاب. فعلتُ الشيء نفسه لليالٍ مُتتالية إلى حين صُعِقتُ بالذي تبيّنَ لي: كان ولدَي يتعرّض للتحرّش الجنسيّ مِن قِبَل مجهول، تمامًا كالصبيّ في القصّة. فردّة فعله كانت واضحة تمامًا، وفعلتُ جهدي لإخفاء مشاعري وكَبت دموعي. فلو استطعتُ، لكنتُ أطلقتُ عاليًّا إستنكاري وغضبي ونيّتي بقتل الذي استفادَ مِن ضعف وسنّ ولدَي، لِسَلب براءته وكرامته وتدمير حياته بأسرها. لَم أنَم على الاطلاق في تلك الليلة، بل قضَيتُها أتخايَل فظاعة ما فعَل ذلك الوحش بإبني، وأبكي بصمت كَي لا يُلاحظ زوجي شيئًا على الاطلاق.

وفي الصباح الباكر ركضتُ إلى المدرسة لأرى المُعالِج النفسيّ الذي كان يعلَم مُسبقًا ما كنتُ قد اكتشفتُه، بل كان بحاجة إلى التأكّد. جلَسنا سويًّا لأُراجِعَ معه بالتفاصيل الدقيقة تحرّكات جواد يوميًّا، وكلّ ساعة بساعتها لمعرفة مَن يكون المُفترِس، أكان تلميذًا أم مُدرِّبًا أم مسؤولاً. بقيَ علينا معرفة مَن هو بالتحديد كَي لا نظلِمَ أحَدًا، فهكذا تُهمة هي خطيرة للغاية وقد تُدمِّر إلى الأبد سُمعة إنسان بريء.

أزاحَ المُعالِج فرضيّة أن يكون المُتحرِّش تلميذًا في المدرسة، لأنّ ولدَي خائف مِن رجُل ناضِج ذي سلطة. فبقيَ الأساتذة وكلّ مَن يعمَل في المؤسّسة.

تابعتُ مُعاملة إبني برفق شديد وتطمينه مِن كلّ النواحي ليشعُر أنّه بأمان، على الأقلّ في البيت. لكنّ الوقت كان يُداهُمنا، فمَن يعرفُ متى سيتحرّش الوحش بجواد. كان بإمكاني سَحب إبني مِن المدرسة أو إعطاؤه عذرًا طبّيًّا أو إجتماعيًّا ليتغيّب وأُبقيه في البيت، لكنّ ذلك لن يحلّ المُشكلة بل يؤجّلها. وحتّى لو سجّلتُه في مدرسة أخرى، لن يجِدَ إبني الراحة النفسيّة إن لَم يوقَف المُعتدي ويُفضَح أمره ويُعاقَب. أكَّدَ لي المُعالِج بأنّه سيُراقِب ما يجري في المدرسة عن كثب، ووعدَني بأنّ المسألة ستنتهي قريبًا وبأنّه لن يدَع أحدًا يلمسُ شعرة مِن رأس جواد. وثِقتُ به وصلََّيتُ أن يُساعده الله في مهمّته. وما مِن دعوى أقوى مِن التي تُطلقُها أمّ حين يتعذّب ولدها، خاصّة في أمور مصيريّة كالذي كان يجري.

ومُكالمة المُعالِج التي تلقَّيتُها بثََّت الراحة والامتنان في قلبي... والغضب الشديد! فتبيّنَ أنّ المُعتدي هو مُدير المدرسة بحدّ ذاته، هو نفسه المؤتمَن على أولاد الناس والمسؤول عن تربيتهم وصونهم ورعايتهم ليُصبحوا لاحقًّا راشدين مُتّزنين ومُثقّفين. فذلك الماكِر المريض كان يطلبُ جواد إلى مكتبه ويختلي به ليلمسه ويحمله على القيام بأمور لا أستطيع شرحها، ويُهدّده بعدَم إخبار أحَد بما يحصل تحت طائلة عقاب عظيم يصلُ إلى أذيّتي وزوجي. فخافَ جواد مِن المُدير أوّلاً مِن حيث مركزه وسلطته عليه، وثانيًّا مِن الأذى الذي قد يلحَق بنا بسببه. حِملٌ ثقيل على أكتاف ولَد صغير!

رحتُ المدرسة حيث وجدتُ، ليس فقط المُعالِج والمُدير بل أعضاء مجلس إدارة المؤسّسة ومُفتّش. حاوَلَ المُدير إنكار التُهمة بشتّى الطرق لكن مِن دون جدوى، خاصّة أنّ إبني تحلّى بالشجاعة الكافية لتأكيد الاعتداء. أخبرتُ الموجودين عن الكدمات وتغيّر نفسيّة إبني، وكيف أنّني بالتوازي مع عمَل المُعالِج إكتشفتُ أنّ جواد هو ضحيّة إعتداء جنسيّ. أرَيتُهم كذلك صوَر الكدمات فتمّ إقتياد المُدير إلى القسم واتّضَحَ بعد فترة أنّ جواد لَم يكن ضحيّته الوحيدة.

بقيَت اسماء الضحايا بما فيها إسم ابني طَي الكتمان، للحفاظ على سمعتهم جميعًا. سُجِنَ المُدير ومُنِعَ طبعًا مِن مُزاولة أيّة مهنة تتعلّق بالأولاد لمدى حياته.

بعد ذلك بدأَت مرحلة اعادة الثقة والتوازن النفسيّ لجواد ولَم يكن الأمر سهلاً. ساعدَني المُعالِج حتّى النهاية ولن أشكره كفاية، خاصّة بعدما قالَ لي يوم سألتُه عن مصدر تصميمه وإصراره على مُتابعة قضيّة إبني بهذا الشكل:

 

ـ سيّدتي... أمامكِ رجُل مرّ بما مرّ به جواد... أجل، أنا الآخَر كنت ضحيّة تحرّش، وسبب إختياري لمهنتي هو محاولتي إيجاد الراحة، فما مِن أحَد ساعدَني على اجتياز ما مرَرتُ به. وأخترتُ أيضًا أن أعمَل في المدارس، لأواكِب كلّ تلميد وتلميذة والتعاطي مع شتّى مشاكلهم. وأقسمتُ أنّني لَن أدَع أحَدًا يلمسُ ولَدًا طالما أنا موجود! فأولئك الوحوش لا رحمة لدَيهم ويجِب حبسهم مؤبّدًا!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button