كنتُ أحبُّ مازن مِن كلّ قلبي، وهو شاطرَني مشاعري فشكرتُ ربّي على تلك النعمة. ومنذ البدء تقرَّرَ أن نمضي حياتنا سويًّا، فتعرّفتُ إلى أمّ مازن وهي على أهلي. جرى كلّ شيء كما تمنَّيتُه، الأمر الذي زادَني ثقة بزيجتي المُستقبليّة. أتذكّر أنّني قلتُ لنفسي إنّ مِن العجب كيف أنّ الكثيرين مِن الناس يجدون صعوبة بإيجاد شريك حياتهم، أو يُواجهون المشاكل بتحضير ذلك المشروع المُبارَك. فها هي حياتي تسيرُ تمامًا كما أشاء! كنتُ صبيّة يافعة آنذاك، وأجهلُ تمامًا كيف تكون الحياة في الواقع، بل لا أزال أؤمِن بالقصَص التي قرأتها لي أمّي حين كنتُ صغيرة. لكنّني تعلّمتُ للأسف أنّ تلك القصص هي خرافيّة بامتياز، وأنّ الحياة أكثر تعقيدًا ومرارة مِمّا تصوّرتُ.
تسألون أنفسكم حتمًا ما الذي حدَث لأتكلّم عن حياتي بهذا التشاؤم، وستعلمون الجواب لدى قراءتكم قصّتي حتّى الآخِر. ستتفاجأون تمامًا كما تفاجأتُ وتقولون "هذا ليس مُمكنًا"، تمامًا كما قلتُ. لكن كلّ شيء جائز، حتّى الأمور التي يصعبُ تخيّلها.
تابعتُ اختصاصي الجامعيّ، بينما كان مازن قد وجَدَ عمَلاً جيّدًا يٌمكّنُنا مِن العَيش بكرامة. على كلّ الأحوال كنتُ أنوي العمَل أيضًا، فكنّا لا نزال صغيرَين على الإنجاب. أردتُ تذوّق أوقاتًا هنيئة مع زوجي المُستقبليّ، والسفَر معه والقيام بنشاطات عديدة سويًّا. فبعد مجيء الأولاد، يصعب على الوالدَين التمتّع بكلّ ذلك.
علاقتي بسحَر أمّ مازن كانت جيّدة، مع أنّها إنسانة قويّة الشخصيّة ومُعتادة على أخذ القرارات وتنفيذها مِن دون الاستماع لرأي أحد، لأنّها ترمّلَت منذ سنوات وربَّت وحيدها لوحدها. كنتُ مُعجَبة بها كثيرًا، إذ أنّها مثّلَت بالنسبة لي المرأة القويّة والناجحة ذات العزيمة الجبّارة. لكنّ طباعها أثّرَت على مازن الذي اعتادَ منذ صغره على إطاعة أوامر ورأي أمّه، فوجدتُ صعوبة بفرض رأيي في ما يخصّ حياتنا كثنائيّ، لأنّه كان يُجيبُني دائمًا: "سأسألُ أمّي". في البدء وجدتُ الأمر لطيفًا، إلا أنّني أدركتُ مع مرور الوقت أن ليس لدَيه رأي خاصّ به، ولن أستطيع إدارة حياتي الزوجيّة كما أراه مُناسبًا. لِذا بدأتُ أُناقشُ، ولو بطريقة مُستتِرة، ما تراه سحَر صائبًا لنا. كنتُ أعلَم أنّ حبّ مازن لي سيحمِله على الالتفات لنا أكثر وترك ما أسمَيتُها "مرحلة المُراهقة". لاحظَت سحَر أنّ ابنها بدأ بالإفلات مِن قبضتها شيئًا فشيئًا، الأمر الذي خلَقَ صراعًا خفيًّا بيني وبينها. لَم يشعُر مازن بشيء، فالرجال لا يُعطون أهمّيّة للتفاصيل.
مِكر سحَر حملَها على عدَم مواجهتي، فهي كانت تعرفُ أنّ بإمكان ابنها أن يختار الانضمام إلى صفّي وترك جانبها، لِذا هي قرّرَت مُحاربتي بأسلحة أكثر سلاسة. ولَم أدرك أنّ الحرب قد بدأت بيننا إلا حين أوشكنا للاقتراب مِن موعد الزفاف. فحتّى ذلك الحين، كانت أمّ مازن تستقبلُني بفرَح واضِح، وتّتصل بي باستمرار للسؤال عنّي وعن أهلي. ولو كنتُ أعلَم ما ينتظرُني، لتركتُ مازن في حينها.
وأخذَت سحَر على عاتقها تنظيم زفافنا مِن الألف إلى الياء، بذريعة أنّني وخطيبي مشغولان كثيرًا، خاصّة أنّني كنتُ قد وجدتُ شركة للتمرّن فيها وكان دوامي طويلاً ومُرهِقًا. للحقيقة وجدتُ الأمر عمليًّا كثيرًا، إذ أنّ أمّ مازن سيّدة رفيعة الذوق ولها معارف مِن الطبقة المُخمليّة، أي أنّها مُعتادة على حضور سهرات ودعوات أنيقة. إضافة إلى ذلك، هي كانت قد باعَت قطعة أرض منذ فترة قصيرة بسعر عالٍ، وتنوي دفع كافّة مصاريف الحفل. وهكذا تمّ حجز الصالة الجميلة، والارتباط بمُتعهّد طعام مشهور ومُنسِّق زهور تتعامَل معه العائلات الكبيرة. بقيَ عليّ اختيار فستان زفافي، فأخذَتني سحَر إلى مُصمِّم ذي أنامل سحريّة، وعنده استطعتُ تحقيق حلم كلّ فتاة. كنتُ سعيدة بالفعل وأنا أقِفُ أمام المرآة الكبيرة، وحماتي وأمّي إلى جانبي وفي عَينَيهما دموع الفرَح. لكنّ سحَر كانت تذرفُ دموع التماسيح إلا أنّني لَم أكن أعلَم ذلك. ثمّ أخذتُ موعدًا عند مُصفّف شعر سحَر وأخصّائيّة التجميل. وباتَ كلّ شيء جاهزًا بعد أن بعَثنا البطاقات للمدعوّين.
رافقتُ حماتي المستقبليّة إلى مُصفّف الشعر لإجراء تجربة ما قبل الزفاف. هو نصحَني بتفتيح لون شعري درجتَين ليتماشى مع لون بشرَتي، فاحتَرتُ لأمري لأنّني لَم أصبغ شعري يومًا بل تركتُه على طبيعته إذ كنتُ أحبُّه كما هو. لكنّ المُصفّف أقنعَني بالقبول وساندَته سحَر، فأعطَيتُه الضوء الأخضر. ووقعَت المُصيبة! فلدى تفتيح شعري، حدَثَ خطأ في المقادير وصارَ شعري أصفر اللون وكأنّه صوف محروق. نظرتُ إلى نفسي في المرآة وبدأتُ بالبكاء، بينما بدأ المُصفّف بتأنيب الصبيّة التي أعدَّت الخلطة ويصرخُ عليها مُهدّدًا إيّاها بالطرد. وبحزن عميق، إضطرِرتُ لقص شعري قصيرًا للحدد مِن مظهره البشِع. إضافة إلى ذلك، إستحالَ على المُصفّف أن يُزيل صفار شعري خوفًا مِن أن يزيد مِن الضرَر. كان شعري طويلاً وجميلاً، وها قد صارَ قبيحًا جدًّا وكلّ ذلك على بُعد أيّام مِن فرَحي!
تفاجأ مازن كثيرًا حين رآني وشرَحَت له أمّه ما حصل، فبدأ يواسيني قائلاً إنّني جميلة مهما فعلتُ لشعري. هو بالفعل عنى ما قالَه، إلا أنّني رأيتُ في عَينَيه الخَيبة. صرخَت أمّي لدى وصولي إلى البيت، الأمر الذي زادَ مِن حزني وضياعي، فركضتُ أبكي في غرفتي. إتّصلتُ مساءً بخطيبي طالبةً منه إرجاء الزفاف إلى موعد آخَر، إلا أنّه لَم يرَ ماذا نفعل بالمدعوّين وكلّ مِن حجز الصالة ومُتعهّد الطعام والزهور. لكنّ سحَر أخذَت منه الهاتف ووافقَتني الرأي، فهي تفهمُ تمامًا ما أمرّ به وكيف أنّ لمظهري أن يكون الأفضل في اليوم الأهمّ في حياتي. أضافَت أنّها مَن دفعَت لكلّ هؤلاء الناس مُسبقًا، وأنّها قادرة على تحمّل الخسارة. وأنهَت حديثها بالجملة التالية:
- أنتِ بمثابة إبنتي التي لَم ألِدها وأريدُ لكِ أفضل وأجمَل زفاف. سنؤجِّل الزفاف إلى حين يصطلِح شعركِ وتشعرين أنّكِ جاهزة، يا حبيبتي.
صدّقتُ بالفعل أنّ تلك المرأة تُحبُّني، وخجلتُ مِن نفسي أن أكون قد فكّرتُ بالتنافس معها على الفوز بمازن. فهي حقًّا إمرأة رائعة!
إضطرِرنا للاتّصال بكلّ مدعوّ للاعتذار منه، والوعد بتحديد موعد لاحِق للزفاف، خاصّة أنّ مُعظمهم كانوا قد اختاروا ما يُهدونه لنا مِن قائمة الهدايا المُعلنة.
لن أطيلَ الكلام عن حالتي النفسيّة في تلك المرحلة الصعبة، فبإمكان أيّ كان تصوّر ما مرَرتُ به. إلا أنّني وجدتُ دعمًا كبيرًا مِن جانب عائلتي وأصدقائي وزملائي في العمَل.
لكنّ حماتي المُستقبليّة لَم تكن قد انتهَت مِن مُحاولة إحباط زواجي مِن ابنها. فلَم أكن أبدًا الكنّة التي تُناسبُها بسبب الخطَر الذي أشكلّه على مركزها كآمِرة ناهية، ولَم يكن مِن المسموح لي أن أنافسها يومًا على حبّ وطاعة ابنها لها.
بدأَ شعري يتحسّن مع الوقت، ورأيتُ في ذلك أمَلاً بأن أستطيع صبغه أخيرًا بلون مقبول وتحديد موعد جديد لزواجنا. في تلك الأثناء، لاحظتُ تغيّرًا في تصرّفات مازن، فهو بدا لي جافًّا بعض الشيء معي، لكنّني لَم أُعلِّق أهمّيّة على الأمر كثيرًا فكلنّا نمرّ بأوقات صعبة. لكنّه كان بالحقيقة يبتعدُ عنّي بسبب أمّه التي اغتنمَت فرصة إرجاء الزفاف لتملأ رأسه بكلّ ما هو سلبيّ عنّي. أعلَمُ أنّ خطيبي كان يُحبُّني كثيرًا، لكنّه كان أيضًا الابن الوحيد لسحَر و"مُلكها الحصريّ". فمنذ طفولته هي درّبَته على إطاعتها واعتبارها مرجعه الوحيد ودنياه بأسرها. لَم تكن لدَيّ أيّ فرصة للتغلّب عليها إلا إذا حدَثَت مُعجزة. والمعلوم أنّ المُعجزات نادرًا ما تحصل.
قرّرتُ طبعًا عدَم العودة إلى ذلك المُصفّف، بل قصدتُ آخَر شارحةً له ما حصَلَ لي. تفاجأ الرجُل كثيرًا إذ أنّ تلك الأخطاء نادرًا ما تحصل، على الأقلّ بهذه النتيجة القاسية. أجبتُه أنّ الفتاة التي تعمَل في ذلك الصالون هي مَن اهتمَّت بتفتيح شعري، لكنّه بقيَ يشكُّ باحتمال حدوث أمر كهذا، خاصّة أنّ المُصفّف الأوّل مشهور جدًّا ولن يقبَل بأن يُوظّف مُبتدئة أو يدعَها تلمس شعر عروس. لا أعرفُ لماذا، لكنّني بدأتُ أشكُّ أنا الأخرى، إلا أنّني لَم أرَ سببًا وجيهًا لحدوث أمر مُريب. فتلك الصبيّة لَم تكن تعرفُني على الاطلاق وبدَت لي لطيفة للغاية. هل هي كانت تعرفُ مازن في ما مضى وشعرَت بالغيرة تجاهي، فأرادَت أذيّتي وتخريب زواجي منه؟ وجدتُ مُخيّلتي واسِعة بعض الشيء، فأسكتُّ تلك الأفكار، فما حدَثَ لشعري كان مُجرّد خطأ فنّيّ.
لكن يومًا بعد يوم، لَم أعُد أفكّرُ سوى بهذا الموضوع لِدرجة أنّني بتُّ مهووسة به. كان عليّ أن أعلَم وإلا لَما عرفتُ السّكينة! فلا تنسوا أنّني كنتُ في حالة نفسيّة صعبة بالرغم مِن أنّني استعَدتُ نوعًا ما لون شعري الأساسيّ بفضل الصبغة، وتحسّنت صحّته بعد أن عالجَه المُصفّف الثاني وأعطاني مُستحضرات أستعملها في البيت.
لِذا رحتُ أقِف بالقرب مِن الصالون الأوّل، لأعرِفَ إن كانت تلك الصبيّة التي أتلفَت شعري لا تزال تعمل فيه. كنتُ شبه واثقة مِن أن المُصفّف قد طردَها وأنّ فرَصي لإيجادها كانت ضئيلة. إلا أنّني رأيتُها داخل الصالون تعمَل على شعر الزبونات، وهنّ كنّ تبتسمنَ لها إمتنانًا لعملها! ورأيتُها تخرج مِن المحَل مساءً لتعود إلى منزلها، فعلِمتُ متى ينتهي دوامها. كنتُ أريدُ التكلّم معها لكن ماذا كنتُ أنوي القول لها؟ للحقيقة لَم أكن أعلَم، إلا أنّ الفكرة راودَتني أكثر وأكثر.
وفي إحدى الأمسيات، إقترَبتُ منها قَبل أن تدخل سيّارتها المركونة جنب الصالون. وحين رأتني تسمَّرَت مكانها وتبَلكَمَ لسانها. حاولتُ تهدئتها إلا أنّها بدَت لي خائفة للغاية. أرَيتُها شعري وقلتُ لها كيف أنّه بدأ يتحسّن، لكن ما مِن شيء أراحَها. عندها سألتُها:
- لماذا فعلَتِ ذلك بي؟ فأراكِ لا تزالين تعمَلين هنا والكلّ مسرور منكِ. لِما أنا؟ أريدُ جوابًا وإلا إنتظرتُكِ هنا كلّ مساء. ومَن يدري، قد أشتكي عليكِ لدى الشرطة!
عندها بدأَت الصبيّة بالبكاء وبدأَت تُتمتمُ كلمات غير مفهومة، فأمسكتُها من كتفَيها وصرختُ في وجهها لتتكلّم. عندها قالَت لي وهي ترتجِف:
- السيّدة سحَر... هي أعطَتني مالاً... أبي رجُل مريض وأنا الوحيدة التي تصرفُ على البيت. السيّدة سحَر تعرفُ قِصّتي وقد عرضَت عليّ مبلغًا كبيرًا لِدرجة أنّها أسكتَت ضميري المهنيّ. تألّمتُ كثيرًا لِما حصَلَ لكِ، فأنا صبيّة مثلكِ وأعلَم كَم أنّ شعرنا غالٍ علينا. لكن بفضل المال الذي قبضتُه استطعتُ إدخال والدي إلى المشفى وتحسَّنَت حالته كثيرًا. وإن كنتِ لا تُصدّقين قصّة مرَض أبي ودخوله المشفى أخيرًا، فيُمكنُكِ أن تسألي المُصفّف. لكن أرجوكِ لا تقولي له ما فعلتُه وإلا مُتنا جوعًا!
لَم أكن أنوي طبعًا قطع رزق الصبيّة فهذا ليس مِن شيَمي، إلا أنّني وبّختُها كثيرًا وهي بكَت أيضًا كثيرًا. توجّهتُ على الفور إلى بيت مازن لأواجِه أمّه أمامه ، فعليه أن يعلَم ما فعلَته بي. كنتُ أودّ أيضًا أن أعرِف لماذا تكرهُني سحَر لهذه الدرجة، وإن كان خطيبي سيأخذُ أخيرًا موقفًا ضدّها. جلستُ مع مازن وأمّه في صالونهما ورويتُ له كلّ ما قالَته لي الصبيّة. بدا لي خطيبي مُتفاجئًا ونظَرَ إلى والدته مُستفسِرًا. أمّا بالنسبة لسحَر، فهي ابتسمَت وقالَت:
- أجل، أنا مُذنبة! علِّقي لي المشنقة! ماذا تنوين فعله الآن؟ على كلّ الأحوال، أنتِ بشعة بشعر عاديّ أو تالف! أنا لا أُريدُكِ كنّة لي! على هذه المهزلة أن تنتهي أخيرًا.
ثمّ قال لي مازن مِن دون أن ينظرَ إليّ:
- أنا آسِف، لكن علينا إلغاء الزواج، فلقد وجدَت لي أمّي عروسًا أخرى. أنا لا أزالُ أحبُّكِ لكنّكِ لستِ مُناسبة لي على ما يبدو. أنا آسِف.
لَم أصدِّق أذنَيّ! كيف لمازن أن يتراجَع الآن؟!؟ ولماذا يسمع مِن أمّه ويفسخ ارتباطنا؟
وفي تلك اللحظة، أخرجَت سحَر مِن وراء وسادة الكنبة التي كانت تجلسُ عليها، قطعة قماش لوّحَت بها أمام مازن الذي ركضَ إلى والدته وارتمى في حضنها مُمسكًا بقطعة القماش وواضعًا إبهامه في فمه! حدّقتُ فيهما غير مُصدِّقة الذي أراه، فخطيبي كان قد تحوّلَ بلحظة إلى طفل صغير! حينها أدركتُ أنّني بالفعل لا أستطيع مُنافسة سحَر، وأنّ الذي كنتُ عل وشّك أن أتزوّجه يُعاني مِن خطب نفسيّ عميق. شكرتُ ربّي أنّ كلّ ذلك حصَلَ قبل أن أربطَ حياتي بمازن، فتصوّروا ما كان ينتظرُني!
قمتُ بصمت عن مقعدي بينما كانت تُغنّي سحَر لمازن وهي تبتسمُ لي مُنتصِرة، وتوجّهتُ إلى الباب لأخرج مِن ذلك البيت، بعيدًا عن هذَين الشخصَين المريضَين.
حاورتها بولا جهشان