من الكاذب؟

كنتُ مُنتسِبة لصفحة على الفيسبوك تُعنى بوصفات الأكل والنصائح الذكيّة لسيّدات المنازل وربّات البيوت، واستفدتُ كثيرًا مِن خبرة المُنتسِبات الأخريات. ومع الوقت، بتُّ وكأنّني أعرفُ حقًّا تلك السيّدات، وكأنّني قابلتهنّ شخصيًّا مع أنّ تفاعلنا إقتصَرَ على التبادُل الخطّيّ.

وذات يوم، إقترحَت صاحبة الصفحة أن نلتقيَ فعليًّا وأعجَبتنا الفكرة. تمّ الاتّفاق أن تُحضِّرَ كلّ منّا طبَقها المُفضَّل، وتجلبُه معها إلى منزل المسؤؤلة الذي يقَع في المدينة التي أسكنُها. أمّا بالنسبة للواتي تعِشن بعيدًا، فوعدناهنّ أن نُشرِكهنّ في اللقاء عبر البَث المُباشَر.

ساعدَتني إبنتي الصبيّة باختيار ما سأُحضِّره، لكنّني رفضتُ أن تشترِك بالتحضير، لأنّ ذلك كان شرط اللقاء. وهكذا، أخذتُ سيّارة أُجرة ورحتُ ألتقي بـِ "صديقاتي" وجهًا لوجه.

كان اللقاء جميلاً جدًّا إذ فرِحنا ببعضنا كثيرًا، لأنّ بعضنا لا يضَع صورة حقيقيّة لنفسها، فاكتشفنا كيف تبدو الأخرى في الحقيقة. ذِقنا الأطباق كلّها والحلويات، وتفاعلنا مع اللواتي حضِرن الجَمعة عبر الفيديو. في آخِر الجلسة، تمّ اختيار الطبَق الألذّ، وكَم كانت فرحتي كبيرة حين فزتُ بالمرتبة الأولى في فئة الأطباق، وذرفتُ دمعة ترحّمًا على أمّي التي علّمَتني الوصفة ودرّبَتني عليها. وقَبل أن نفترِق، تواعدنا بإعادة تلك التجربة بتحدّيات جديدة. ثمّ قالَت لنا سلوى، صاحبة الدعوى:

 

ـ سيُجرى اللقاء القادم في منزل التي فازَت، أي عندكِ يا مريَم.

 

إحمَرّ وجهي لهذا الشرَف الكبير الذي يُرسِّخُ تفوّقي، ورحّبتُ بالجميع في مسكني. عانقَتني إبنتي لدى عودتي، فهي كانت قد حضَرَت المُباراة عبر الفيديو، وبدأنا نُخطّطُ لاستقبال سيّدات عديدات، فعلى ما يبدو كان سيزيدُ العدَد بعد أن قالَت الكثيرات عبر التعليقات إنهنّ ستأتَين مِن بعيد للاشتراك. هنّأني زوجي على فوزي، مُعرِبًا عن فخره بي وعن يقينه بأنّني الأفضَل.

لكن ما بدأ كفكرة لطيفة وعفويّة كان سينقلبُ إلى معركة ضارّة لَم يتصوّر أحد حدوثها، وندِمتُ كثيرًا على خوض تلك التجربة التي قلبَت حياتي رأسًا على عقب. ففي آخِر المطاف، روّاد الانترنت هم غرباء لا نعرفُ عنهم إلا الذي يُصرّحون به. مَن همّ حقًا، لا أحدٌ يعرفُ ذلك.

وبعد تحضيرات عديدة ومُتقَنة، صِرتُ جاهزة لاستقبال السيّدات في بيتي. إبنتي ساعدَتني كثيرًا وكنتُ شاكرة لها، فاجتمعنا كلّنا في مطبخي لتفريغ الأكياس مِن الوصفات الشهيّة التي جلَبتها المُتباريات، وانتقلنا إلى غرفة الطعام للتذوّق. أخذَتني سلوى جانبًا وقالَت لي:

 

ـ حانَ دوري للفوز.

 

ـ لكنّنا لَم ننتهِ مِن الأكل بعد.

 

ـ هذا لا يهمّ... أنتِ فزتِ في المرّة السابقة فجاء دوري.

 

ـ فزتُ لأنّ طبَقي كان الأفضل.

 

ـ هاهاها... هل تعنين ذلك الطبَق التافِه الذي علّمتكِ إيّاه أمّكِ؟!؟ يا لطعمه المُقرِف! لقد إتّقفتُ مع صديقاتي على اختياره بغرض التمويه. إسمعي، هذه فكرتي ومجموعتي على الفيسبوك، ولَم يكن مِن الصائب أن أفوز مِن أوّل اختبار وإلا شكَّت المُنتسِبات بالأمر. سأفوزُ هذه المرّة، وصديقاتي في المرّات التالية.

 

ـ ماذا؟!؟ هذا غشّ! وأنا مُصِرّة على جودة وصفتي! لن تُقنعيني بعكس ذلك! سنختبِرُ كلّ طبَق ونختارُ الأفضل! وإن كان لدَيك مانع على ذلك، فعليكِ الانسحاب الآن!

 

فازَت إحدى السيّدات بالمُباراة وصفّقنا لها وأعلنّا النتيجة علَنًا، الأمر الذي أغضَبَ سلوى إلى حدّ غير معقول، فهي نظرَت إليّ بحقد مُخيف. إتّفقنا أن نلتقي عند الفائزة بعد فترة مِن الزمَن، ووعدتُ نفسي بأن أفوزَ مرّة أخرى، فقط لإغاظة تلك المُتشاوِفة والغشّاشة. كان الموضوع سخيفًا ويقتصِر على تحضير المأكولات، ولا داعٍ لهذا الكمّ مِن الجدّيّة. فالهدف الأوّل والأخير كان أن نتسلّى وأن نتعلّم وصفات جديدة. إلا أنّ سلوى كانت تأخذُ الموضوع بجدّيّة كبيرة لَم أفهَمها على الاطلاق.

عملت بكدّ على وصفتي القادمة، وقمتُ بأبحاث كثيرة على الانترنت وفي كتُب الطهو، وانتهى بي المطاف مُتأكّدة مِن أنّ طبَقي سيكون الأفضل. إتّفقنا على موعد لقائنا الجديد وأخذتُ ما حضّرتُه بعزم وثقة... وتحدٍّ! هناك رأيتُ سلوى وصديقاتها، وبالكاد تبادَلنا التحيّة، لكنّ الأمر كان مِن دون أهميّة بالنسبة لي، فالواقع أنّني لَم أكن أعرفُ تلك السيّدة إلا مِن فترة قصيرة، على الأقلّ شخصيًّا.

جلَبَت السيّدة المُستضيفة أطباقنا ووضعَتها على مائدة السفرة، وجُلنا على الأطباق الواحد تلوَ الآخَر. لكنّ جميع الحاضرات كرهنَ طبَقي، لا بل رأيتُ الاشمئزاز على وجوههنّ. أخذتُ ملعقة وذقتُ ما حضّرتُه، واكتشفتُ أنّ أحدًا وضَعَ فيه كميّة هائلة مِن التوابل الحارّة! صرختُ عاليًّا:

 

- مَن يُحاولُ تخريب طبقي؟!؟ أنتِ يا سلوى؟!؟

 

أنكرَت الماكرة التهمة واستنكرَت، وأكّدَت للجميع أنّني أختلِقُ الحجَج للتستّر على رداءة طبَقي... وهي فازَت بالمرتبة الأول! ثمّ اقتربَت منّي وهمسَت في أذني:

 

- سأُنهيكِ! أنت لَم ترَي شيئًا بعد!

 

لَم أعرِف إلى أيّ مدى كان سيصلُ جنونها، واكتشفتُ ما تنوي فعله بعد أيّام قليلة. فهي وضعَت منشورًا على صفحتها مفاده أنّ إحدى المُنتسِبات، أيّ أنا، لدَيها أسرار كثيرة تُخفيها عن الكلّ. ومع أنّني فهمتُ أنّها تقصدني، لَم أفهَم عن أيّ أسرار تتكلّم. وهي كانت وعدَت المُنتسبات بأنّها ستفشي تلك الأسرار قريبًا. ضحكتُ في سرّي وتفاجأتُ بحماسي للذي ستنشره سلوى لاحقًا. لكن تلك الضحكة إمّحَت عن وجهي حين قرأتُ ما كتبَته بعد أيّام: "إحدى مُنتسِباتنا سيّدة وسِخة للغاية. أنظروا إلى مطبخها!". ورأبتُ صوَرًا عن مطبخي يوم راحَت والمُتباريات إلى منزلي، لكنّ الأوساخ والحشرات المّيتة في الزوايا التي في الصوَر لَم تكن موجودة أبدًا حينها، بل أُزيدَت بواسطة الفوتوشوب!. كان مِن الواضح أنّها التقطَت تلك الصوَر في منزلي بعد أن رفضتُ طلبَها بالفوز بالمُباراة. لَم أُعلِّق على المنشور كي لا ألفت الانتباه لأنّها لَم تذكُر إسمي.

بعد أسبوع، نشرَت سلوى التالي: "صديقتنا التي تُطعِم عائلتها طعامًا قذرًا بسبب وساخة مطبخها، لدَيها أيضًا أسرار وسِخة... أسرار شخصيّة. إنتظروا جديدي!". إنتابَني الهمّ، فكان مِن الواضح أنّ سلوى تُجيدُ إستعمال تطبيقات كالفوتوشوب، وبإمكانها إضافة ما تُريدُه على أيّة صورة! أخبرتُ إبنتي عن الأمر، وانتظرنا بترقّب ما ستفعله تلك الانسانة المريضة. ووقَعَ الخبَر كالصاعقة! فلقد نشرَت سلوى الكلمات التالية: "علِمنا... مِن مصادر موثوقة... أنّ تلك السيّدة الوسِخة تعتقِد أنّها مُميّزة وجميلة وجذّابة وأنّ حياتها مثاليّة. حسنًا... سنُبرهِن لها أنّ كلّ حياتها وسِخة!". للحقيقة لَم أنَم تلك الليلة وأنا أفكّر بما تقصده وما تُدبّره لي. إبنتي هي الأخرى كانت مهمومة، وعرضَت عليّ ان تتكلّم مع سلوى لتُقنُعها بتركي وشأني، وأنّ عليّ أن أصوِّت لطبقها في المُباراة القادمة. إلا أنّني رفضتُ رفضًا قاطعًا الخضوع للخوف والتهديدات، وفضّلتُ الانتظار كَي أتمكّن مِن أخذ موقف صارِم حيال ما يجري. فقد تكون سلوى تُخيفني وحسب، فلَم يكن لي أسرار على الإطلاق.

طالَ الانتظار، وخلال تلك الفترة، حانَ موعد المُباراة التالية عند سلوى التي فازَت يوم أُضافَت التوابل على طبقي. هل كان يجدرُ بي الذهاب؟ ولكن إن غبتُ عن اللقاء، سيعرفُ الجميع أنّ سلوى تتكلّم عنّي، لِذا ذهبتُ على مضض غير راغبة برؤية تلك المرأة وشلّتها. حين وصلتُ منزل سلوى، وجدتُها بانتظاري وفي يدها ظرف كبير. أمسكَتني بيَدي وسحَبتني إلى إحدى الغرف وأقفلَت الباب وراءنا. أخرجَت مِن الظرف صوَرًا لزوجي مع إمرأة شابّة وجميلة. وقَبل أن أتفوّه بأيّ كلمة قالَت لي:

 

ـ الصوَر حقيقيّة، صدّقيني.

 

ـ لا، لا أصدّقُكِ! إنّها مُزوّرة شأن صوَر مطبخي! هل ستنشريها هي الأخرى؟!؟ ماذا فعلتُ لكِ لتُدمّري حياتي؟ ومِن أجل ماذا؟ مِن أجل الفوز بمُباراة سخيفة؟ أنتِ صاحبة صفحة ناجحة على الفيسبوك، ألا يكفيكِ ذلك؟ الكلّ سيعتقِد أنّ زوجي يخونُني وستتدمّر سُمعتنا. أهذا ما تُريدينه؟!؟

 

ـ هذه الصوَر حقيقيّة... ولن أنشرها. فلقد ألّفتُ شبكة واسعة بحثًا عن أيّ شيء يُمكنه تدميركِ بعد أن وقفتِ بوجهي. لكن حين تعقّبَت إحدى صديقاتي زوجكِ وأخذَت هذه الصوَر له ولعشيقته وأرَتها لي...

 

ـ تابعي.

 

ـ تذكّرتُ ألَمي حين تركَني زوجي مِن أجل أُخرى... لستُ سيّئة كما تتصوّرين، بل فقط مُتشاوِفة.

 

ـ لكنّكِ أريتِني الصوَر، ما يعني أنّكِ تسبّبتِ لي بالاذى حتى لو لا تنوي نشرها.

 

ـ أجل، كَي تعرفي ما يجري وتتحضّري للأسوأ، فأنا لَم أعرِف شيئًا بل إستفقتُ يومًا لأكتشفَ أنّ زوجي غادَرَ المنزل مِن دون عودة، بل راحَ يتزوّج مِن جديد. خُذي الصوَر وافعلي ما تشائين بها، فلن أتعرّض لكِ بعد الآن. أتمنّى لكِ التوفيق مهما كان قراركِ.

 

مُفاجأتي بموقف سلوى أنسَتني للحظات الخبَر المُفجِع، لكن سرعان ما شعرتُ بالخذلان ومرارة الخيانة، فلَم يبدُ على زوجي أنّه لا يُحبّني أو أنّه غير سعيد معي. بكيتُ كثيرًا ثمّ عدتُ إلى البيت. لَم أكن أُريدُ أن تعرفَ إبنتي بالأمر، إلا أنّها كانت بانتظاري وأخذَت الظرف مِن يدي على غفلة. حاولتُ منعها مِن رؤية الصوَر، إلا أنّها ركضَت إلى غرفتها لتعودَ بعد دقائق غاضبة. حاولتُ تهدئتها إلا أنّها قالَت:

 

ـ سأشتكي على سلوى عند الشرطة، فلا يجوزُ لها أن تشوّه سُمعة الناس بفبركة صوَر على الفوتوشوب.

 

ـ إنّها حقيقيّة، أبوكِ يخونُني.

 

ـ لا بل هي مُفبركة... أُنظري جيّدًا... أبي أكبر حجمًا مِن ذلك الرجُل وشعره أغمَق.

 

ـ قد تكونين على حقّ يا إبنتي!

 

ـ أنا على حقّ. هل تُريدين أن أشتكي على سلوى؟

 

ـ لا... ليس الأمر ضروريّ، فهي لن تنشرَ تلك الصوَر. لندَعها تعتقد أنّني صدّقتُ أنّ زوجي يخونُني، فهذا ما تُريدُه.

 

توقّفتُ عن حضور اللقاءات والمُباريات، لكنّني بقيتُ مُنتسِبة للصفحة لأُراقِب ما يحصُل.

في الواقع، لَم تُثِر سلوى موضوعي على الاطلاق وأقفلَت صفحتها نهائيًّا بعد أشهر. تابعنا جميعًا حياتنا، وتزوّجَت إبنتي وأنجبَت، وفقدتُ زوجي الحبيب. موته كان له أثر شديد عليّ، فساءَت صحّتي وفكّرتُ جدّيًّا باللحاق به، فهو كان كلّ ما لدَيّ. هو كان حبيبي وزوجي ورفيقي وداعمي. إنشغَلَ بال إبنتي كثيرًا عليّ، فتركَت عائلتها لتمكُث عندي بضعة أيّام حتى أتحسّن، إلا أنّ حزني كان عارمًا. وقد عرضَت عليّ العَيش معها وعائلتها، لكنّني رفضتُ ذلك بشدّة مُعرِبة عن نيّتي في الموت.

عندها قالَت لي:

 

- تبكين كاذبًا وغشّاشًا؟ نعم، صوَر سلوى كانت حقيقيّة، لكنّني قلتُ لكِ عكس ذلك لتجنيبكِ الحزن والحسرة. بعد ذلك، تكلّمتُ مع أبي وهدّدتُه وأجبرتُه على ترك عشيقته بعدما قالَ لي إنّه ينوي الزواج منها. وهو بقيَ معكِ خوفًا مِن الفضيحة التي وعدتُه بها. نشِّفي دموعكِ يا ماما، فلا أحَد يستحقّ دمعة واحدة منكِ!

 

إنقلَبت حياتي رأسًا على عقب، ولَم أعُد أعرفُ بما أُفكّر أو أشعرُ. لزِمَني أشهر طويلة لأستوعِب الحقيقة وأُدرِك ما حصَلَ لي. كانت سلوى صادقة بما قالَته لي، ولَم أُصدِّقها بل صدّقتُ زوجي حين كان يقولُ لي كَم يُحبُّني، بينما كلّ ما أرادَه هو تَركي والعَيش بعيدًا عنّي.

أعيشُ اليوم مع إبنتي وعائلتها وأنا بالفعل سعيدة... وصرتُ ألتقي بسلوى بين الحين والآخَر، وجلساتنا لطيفة ومليئة بالضحك... والوصفات الشهيّة! ونُفكّرُ جدّيًّا بفتح صفحتها مُجدّدًا بطابع جديد وتحدّيات مُثيرة!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button