"لو كانت أمّي على قَيد الحياة لسألتها كيف تحلّين هذه المشكلة..." كم مِن مرّة سمعتُ زوجي يقول لي هذه الجملة! أو حتى: "أمّي كانت ملاكاً... كانت أفضل إمرأة على وجه الأرض..."
وما عساني أقول عن ميّتة سوى "رحمها الله"؟ كانت حماتي كل شيء بالنسبة لوجيه ومهما فعلتُ، لم أكن لأصِل إلى مستواها أبداً. عندما تزوّجنا، كانت المرحومة ما زالَت على قيد الحياة ولكن مرضَها جعلَها تمكث في الفراش وإنتقلنا للعيش معها لكي نهتمّ بها. ورغم سنّها المتقدّم وحالتها الصحيّة المتردّية، كانت لا تُطاق وجعلَت منّي خادمة لها تُكثر الطلبات التافهة فقط لتزعجني. وأبغض شيء عندها، كان أن تراني مرتاحة وكانت تصرخ بإسمي كل دقيقتين. وعندما أركض لأرى ما الذي تريده كانت تجيب:
- لِمَ هذا التأخير؟ أنا إمرأة مريضة وأيّ شيء قد يحصل لي في أيّ وقت... أم أنّكِ تريدين التخلّص مني؟
- ما هذا الكلام يا حماتي؟ كنتُ في الحمام!
- وإن يكن! هل الموت سينتظر حتى تخرجي من الحمام؟
- لماذا ناديتني؟ هل أنتِ بحاجة لشيء؟
- لا... إذهبي.
حاولتُ التحدّث مع وجيه بالموضوع ولكنّني وجدتُ نفسي أتحدّث مع حائط. كانت أمّه فوق كل إعتبار وعيب عليّ أن أتذمّر من عجوز ملقاة في الفراش.
وبعد أن عانيتُ أكثر من خمس سنوات من هذا الوضع، شاء القدر أخيراً أن يأخذ حماتي إلى عالم أفضل وأعترفُ أنني إرتحتُ كثيراً ولم أحزن عليها، بل على إبنها الذي بكى كالطفل لفترة طويلة. وإنتظرتُ حتى تجفّ دموعه، لنبدأ فعليّاً زواجنا ونعيش أخيراً حبّنا. ولكن موت أمّه جعل من وجيه إنساناً ضائعاً وضعيفاً، بعيداً كل البُعد عن الرجل الذي عرفتُه وأحببته. قررتُ أن أعطيه بعض الوقت والكثير من الحنان ليقف مجدّداً على رجلَيه ولكن من دون جدوى. ساءَت حالته إلى درجة أنّه بدأ يتصوّر تارةً أنّ أمّه لم تَمت ويتكلّم معها وتارةً أخرى يتأسّف على رحيلها ويبدأ بالبكاء. إحترتُ بأمري فعرضتُ عليه أن يذهب إلى طبيب نفسي ولكنّه صرخ بي:
- أنا لستُ مجنوناً! إذا كنتِ لا تشعرين بوجودها معنا هذا لا يعني أنّها ليست هنا! على كل حال أنتِ لم تحبّيها يوماً! كانت ملاكاً... ملاكاً!
كنتُ أعلم أن الرجال لديهم تعلّق خاص بأمّهاتهم ولكن وجيه كان أشبه بالمهووس بها وباتَ الوضع في البيت لا يُطاق لدرجة أنني قررتُ أن أجد عملاً لكي أغيّر هذا الجو الخانق. وعندما عبرت لزوجي عن رغبتي بالعمل صرخَ كالطفل:
- لا! لا تتركيني أنتِ الأخرى...
- ولكنّك ستكون أنتَ أيضاً في العمل ولن تشعرَ بغيابي.
- بلى... أرجوكِ لا تتخّلي عنّي!
وعندما رأيتُ عينيه المليئتين بالدموع، إنتابني شعور بالشفقة على انسان فقدَ مع موت أمّه كل ما جعلَني أحبّه. ولكن الأمور لم تنتهِ هنا وأخذَت منعطفاً غير متوقّع. فبعدَ أن كان يقارنني ويقارن كل ما أفعله بأمّه، بدأ يتصوّر أنني والدته. لم ألاحظ هذا التغيير بسرعة، بل أتَت الأمور تدريجيّاً مع تصاعد حالة وجيه النفسيّة. كان فور وصوله إلى البيت يركض إليّ ويقبّلني على خدّي ويباشر بإخباري عن نهاره كما قد يفعل صبيّ صغير بعد عودته من المدرسة. فرِحتُ لمشاركته أخباره معي، فلم يكن يفعل ذلك سابقاً ولكن عندما طلبَ منّي في ذات ليلة أن أخبره قصّة قبل أن ينام تفاجأتُ كثيراً. قلتُ له بتعجّب:
- قصّة؟ ماذا تقصد؟ أي نوع من القصص؟
- قصّة... تعرفين ما أقصد... فيها أبطال وأشرار... ربّما أمير وأميرة...
- لا بدّ أنّك تمزح! على كل حال أنا لا أعرف قصصاً من هذا النوع. أنا نعسة وأريد أن أنام. تصبح على خير.
وأطفأتُ الضوء. وبينما كنتُ أغوص في النوم قال لي وجيه:
- لا أستطيع النوم... أريد قصّة!
- حسناً ولكن الليلة فقط! لا أدري لماذا تطلب مني ذلك...
وبالرغم من غرابة ما حدث، لم أعِر الأمر أهميّة كبيرة. ثم إنقطعت العلاقات الجنسيّة بيننا وخِفتُ أن يكون قد ملّ منّي وعندما سألتُه عن السبب قال لي وهو متعجّب:
- هذا لا يجوز! هذا لا يجوز!
عندها قررتُ أن أراقب الوضع عن كثب. جزءٌ منّي رفضَ أن يصدّق ما كان واضحاً لكثرة فظاعته والجزء الآخر لم يستطع إنكار ما كان واضحاً. الى أن حدثَ ما أكّد لي شكوكي بشكل نهائي: كنتُ في المطبخ أغسل الصحون بعد العشاء، عندما جاء وجيه ليساعدني في تنشيفها حين وقع أحد الصحون من يده وإنكسر. وبدأَ بالبكاء وقال لي بصوت رفيع:
- أنا آسف أمّي لم أقصد كسره...
نظرتُ إليه بدهشة ورأيتُ أمامي صبيّاً صغيراً خائفاً من والدته. جلستُ على الكرسي أحاول إستيعاب المصيبة التي وقعَت. من بعدها بذلت جهدي لتطمينه ووعدتُه ألا أعاقبه، ثم أخذتُه إلى الحمّام وجلستُ معه وهو يستحمّ وقدتُه إلى الفراش حيث أخبرتُه قصّة جميلة جعلَته ينام بهناء. وفي الصباح وبعد أن ذهبَ إلى العمل، قصدتُ طبيب العائلة وأخبرتُه بما يجري. أعطاني إسم ورقم هاتف معالج نفسي وفي غضون أيّام أخذتُ وجيه وذهبنا سويّاً لنخضع لجلستنا الأولى. علمتُ من الطبيب المختص أنّ زوجي لم يستطع تقبّل موت أمّه وإستبدلها بي لكي تبقى حيّة وأخبرَني أن العلاج سيكون طويلاً وشاقاً لأن جذور مرضه تعود إلى طفولته وسببها شخصيّة حماتي وسيطرتها الكليّة على إبنها. وفي ذلك الوقت إحترتُ جداً، فلم أكن أكيدة أنني مستعدّة لأخوض تلك المعركة لأنّ حبّي لوجيه كان قد تحوّل إلى شفقة. وبعد تفكير عميق، قررتُ أن أعطيه فرصة لكي يستعيد نفسه على أمل أن تعود الأمور كما كانت في السابق. ولكنّه لم يتجاوب مع العلاج، فعقله الباطني كان يرفض الواقع رفضاً قاطعاً، فغاصَ بشبه جنون ينادي أمّه طوال النهار ويصرخ تارة بإسمها وتارة أخرى بإسمي. وخافَ الطبيب أن يشكّل خطراً على نفسه، فقرّر أنّه من الأفضل أن يُنقَل إلى مصحّ عقليّ حيث يكون تحت المراقبة. حزِنتُ كثيراً لهذا الرجل الذي فقد عقله ومن إنسان رصين وعاقل، أصبح كالطفل الضائع. لقد مضى على جنون وجيه أكثر من عشر سنوات ولم يتغيّر شيئاً سوى أنّني وحيدة ويائسة أزور ذلك الرجل مرّة في الأسبوع لأعود إلى المنزل وأصلّي لكي أستعيد زوجي في الزيارة المقبلة.
حاورتها بولا جهشان