إن بقيتُ عازبًا لذلك السنّ فهو لأنّني كنتُ أخافُ مِن النساء. والسبب كان طبعًا نابعًا مِن طفولتي، فقد شاءَ القدَر أن تكون والدتي إمرأة جافّة وقاسية وعنيفة. وكأنّ ذلك لم يكن كافيًا، فقد درّبَت أختي لتسَير على خطاها ولقّنَتها فنّ ازدراء الرجال وتحطيمهم. وهكذا صرتُ ضحيّة امرأتَين عمِلتا جهدهما على كسري جسديًّا ونفسيًّا. ستسألونني أين كان أبي مِن تلك المُمارسات، كان موجودًا لكنّه فضَّلَ الابتعاد قدر المُستطاع عمّا أسماه "وكر الأفاعي" بالعمَل ليلاً نهارًا، ثمّ ترَكَ البيت بصورة نهائيّة بعد أن وجَدَ سيّدة مُحبّة وحنونة أعادَت له ثقته بالعدالة الالهيّة.
رحيل أبي لَم يُؤثِّر سوى عليّ، فصرتُ الذكَر الوحيد في تلك العائلة غير المُتوازنة، أو بالأحرى الهدَف الوحيد. فأمّي لَم تأسَف على زوجها الذي اعتبرَته منذ البدء غير نافع إلا بشيء واحد: إشباع رغباته والانجاب، الأمر الذي سبَّبَ لها التخلّي عن آمالها وأحلامها بأن تصبحَ يومًا عازفة بيانو مشهورة. أختي هي الأخرى لَم تُبالِ لفقدانه، بل رأَت في ذلك تحرّرًا مِن "طغيان الذكور"، وكأنّ المسكين كان مُستبدًّا أو شيئًا مِن هذا القبيل.
كبرتُ ودخلتُ الجامعة، وآخر شيء كنتُ أُريدُه هو التعاطي مِن قريب أو بعيد مع الصنف اللطيف... لأنّني لَم أعتقِد أنّه لطيف على الاطلاق. فكنتُ أقرأ في عقول زميلاتي في الكلّيّة، وأرى كيف أنهنّ تُمثِّلن اللطافة والنعومة وببالهنّ الأذيّة والتمكّن لاحقًا. أفاعٍ! ولأنني لَم أقترِب مِن أيّة منهنّ، ظنّ العديد أنّني مثليّ، ولَم أُكذِّب تلك الشائعة ما دامَت تُبعِد عنّي الصبايا ومشاكلهنّ. وهكذا، طوال سنوات الجامعة، أُلصِقَت بي تلك التُهمة، وتحمَّلتُ التلميحات المؤذية بكلّ طيبة خاطر.
أختي هي الأخرى كانت تُعتبَر غريبة الأطوار مِن قِبَل باقي الطلّاب، إذ أنّها ألّفَت ناديًا مُناهضًا للرجال إنضمَّت إليه كلّ صبيّة تكره الذكور لأسباب مُختلفة. وانتهى بنا المطاف نحملُ لقب "العائلة الغريبة الأطوار" فابتعَدَ عنّا كلّ مَن كان طبيعيًّا.
تخرّجتُ بدرجة مُمتاز، وفتحتُ عيادتي لطبّ الأسنان بفضل مُساعدة أبي، الذي تذكّرَ أخيرًا أنّ له إبنًا مِن زواج سابق. فهو أرادَ التكفير عن هروبه وتركي لوحدي مع "الأفعتَين" وكنتُ ممنونًا له، حتى لو تأخَّرَ. أرادَت أختي أن تُشاركني عيادتي لكنّني لَم أقبَل، فتلك كانت طريقتي للانتقام منها على كلّ العذاب الذي تحمّلتُه منها. على كلّ الأحوال هي لَم تعُد قادرة وكذلك أمّي على أذيّتي، بعد أن صرتُ رجُلاً أفوقُهما حجمًا وقوّة، خاصّة أنّ مهنتي كانت ستدرُّ عليهما المال. كان ذلك إنتصاري الأوّل عليهما وافتخَرتُ بنفسي، لكنّني بقيتُ أكرَه صنف حوّاء بكلّ جوارحي، وأتمنّى لو تختفي جميع النساء مِن على وجه الأرض بفعل ساحر. لكنّ ذلك لَم يكن ليحصل وكنتُ مُدركًا للأمر.
بدأ الزبائن بدخول عيادتي بفضل توصيات أحد أساتذتي الذي رأى فيّ طبيب أسنان ماهر. تعاطَيتُ مع الإناث منهم بكلّ مهنيّة فاعتبرتُهنّ مُجرّد أشخاص وليس أكثر. البعض منهنّ حاولَ التقرّب منّي، فكنتُ شابًّا وسيمًا وناجحًا أيّ عريسًا مثاليًّا، فقرّرتُ أن أُبقي شائعة مثوليّتي سارية. وهكذا، توقّفَت المُلاحقات وتابعتُ عمَلي بسلام.
مرَّت السنوات على هذا النحو، وكنتُ قد صرتُ بارعًا بتقليد حركات بعض المثليّين، أيّ التصرّف "بأنوثة" لِدرجة أنّ عدَد الزبونات لدَيّ ارتفعَ بشكل ملحوظ. فمِن المعلوم أنّ النساء ترتحنَ لهؤلاء الرجال لأنّهم لا يُشكّلون خطرًا عليهنّ. لكن أنا الآخر لَم أُشكِّل خطرًا عليهنّ، بالرغم مِن رجوليّتي الحقيقيّة، وذلك بسبب كرهي لهنّ وإصراري على قضاء حياتي بعيدًا كُل البُعد عنهنّ.
كان لدَيّ كلبي العزيز "ماكسي" الذي أخترتُه ذكرًا طبعًا، وهو كان خير رفيق لي، بسبب طباع الكلاب الحميدة التي تتمثّل بحبّ لا حدود له ووفاء معهود. أمّا بالنسبة لأمّي وأختي، فهما تركتاني بسلام بعد أن أدرَكتا أنّهما فقدتا سلطانهما عليّ.
وحين صرتُ في عمر الخمسين تقريبًا وأعيشُ بهناء تام، دخلَت نهى حياتي. هي جاءَت إلى عيادتي لتصليح أسنانها لكنّها كانت مُختلفة عن باقي الزبونات. فهي كانت إمرأة صامتة وخجولة لا تجرؤ على النظر في عَنَيّ، بل تأتي وتذهب مِن دون ترك أيّ أثَر أو تأثير. ولاحظتُ أنّها تفعل ذلك عن قصد وليس لأنّها معدومة الشخصيّة. وفي إحدى جلساتنا، سألتُها:
ـ لا أشعرُ بأنّكِ سعيدة بالمجيء إلى عيادتي.
ـ ومَن يسعَد عند طبيب الأسنان؟
ـ صحيح ذلك، لكنّنا لَم نتبادَل الكلام قط، بل فقط التحيّة، وأرى ذلك غريبًا بعض الشيء.
ـ أنا لا آتي إلى هنا لصنع صداقات بل لأُصلِح أسناني.
ـ لا داعٍ للريبة منّي يا سيّدة نهى، فكما ترَين، لستُ مُهتمًّا بالنساء.
ـ وما أدراني؟ قد تكون تدّعي تلك الحركات الأنثويّة.
ـ أدّعي؟ ومَن يفعلُ ذلك؟ أنتِ تتصوّرين أشياء غير معقولة. إسمعي، أخبريني أيّ شيء عنكِ، ولو كان بسيطًا أو غير مُهمّ. أرجوكِ!
ـ حسنًا... أنا مُطلّقة وأكرَه صنف الرجال برمّته!
ضحكتُ في سرّي، فلقد وجدتُ أحدًا يُشاركُني كره الصنف الآخر! ونَما في قلبي فضول كبير، فكان لا بدّ لي أن أعلَم ما الذي قادَ نهى إلى هذه المشاعر القويّة، هل هي الأخرى عانَت مِن أهلها أم ذلك البُغض سببه زوجها؟ لِذا أخذتُ أُبطئ العمَل بأسنانها بعد أن شارطتُها بأن تُخبرُني شيئًا عن نفسها في كلّ زيارة لعيادتي. وما بدأ كلُعبة أثّرَ كثيرًا على باقي حياتي.
وعلى مرّ الزيارات، علِمتُ أنّ نهى عانَت كثيرًا مِن زوجها، بعد أن كانت قد تحمّلَت الأعظَم مِن أبيها، الأمر الذي حملَها على الحكم على الرجال برمّتهم. أسفتُ مِن أجلها، فهي كانت إمرأة جميلة وجذّابة ومُثقّفة، ولا بدّ لها أن تجِدَ يومًا إنسانًا يستحقّها. لكن كيف أقنعُها بذلك في حين أنا الآخَر حكمتُ على صنف النساء طوال حياتي؟ لكن قلتُ لنفسي أنّ ما مِن أحد عانى مثلي ولفترة طويلة مِن ظلم أمّ وأخت، وإنّ ما مرَّت به نهى كان شيئًا بسيطًا مُقارنةً بعذابي. لِذا دعوتُ زبونتي للعشاء بعد أن وعدتُها بأنّ لا غاية لي مِن ذلك، ولَم أكن أكذب على الاطلاق، فلَم أنظُر إليها كإمرأة بل كشخص يتعذّب داخليًّا ويرمي حياته بأسرها سُدىً، خاصّة أنّها كانت قد قالَت لي إنّ حلمها هو أن تنجِب ولو طفلاً واحدًا. طفل... كائن صغير وهشّ... تمامًا كما كنتُ حين وُلِدتُ، أيّ ولد يستحقّ الحبّ والحنان. ولو رُزِقتُ بولَد، لأحبَبتُه أكثر مِن نفسي وأعطَيتُه الدنيا بأسرها. لكنّني لن أُنجِب، لأنّ ذلك يستدعي وجود أنثى. ولهاذا السبب، كان عليّ إقناع نهى بالعدول عن موقفها مِن الرجال لتنعَم بطفل وتُعطيه ما لَم تحصل هي عليه.
جلستُ ونهى في المطعم ورأيتُ كيف أنّها كانت مُرتاحة معي، بالطبع لأنّني بنظرها لَم أكن رجُلاً بكلّ ما للكلمة مِن معنى، وسُرِرتُ لذلك. وأثناء العشاء، كلّمتُها عمّا يدورُ في بالي. ولأنّني لمحتُ في عَينَيها بصيص تردّد، تابعتُ كلامي عن عدَم الاستسلام، وكيف أنّنا لا نستطيع تصنيف البشر حسب تجربة مريرة وكيف أنّ الأمَل هو كلّ ما لدَينا. جئتُ على ذكر الانجاب لأنّني أعرفُ كمّ يهمُّها الأمر، وحين انتهَينا مِن الطعام، كانت نهى شبه مُقتنعة. إلا أنّها قالَت لي:
ـ كلّ ما فعلناه هو التكلّم عنّي... ماذا عنكَ؟ هل أنتَ... أعنّي صرتَ... هكذا... بفعل شيء أو أشياء حصلَت لكَ؟ أعذرني على هذا السؤال لكنّكَ بتَّ تعرفُ كلّ شيء عنّي.
وكَي لا أفقِد ثقتها بي، أخذتُ أخبرُها عن أمّي وأختي وما فعلتاه بي طوال حياتي، ولكن رابطًا تلك الأمور بمثليّتي المزعومة. للحقيقة، كانت تلك المرّة الأولى التي أتحدّث فيها عن مُشكلتي، ولَم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق لِدرجة أنّ الدمع ملأ عَينَيّ. عندها قالَت لي نهى:
ـ أفهَم تمامًا ما مرَرتَ به... كَم أنّ لدَينا أمورًا مُشتركة... لو أنّكَ لستَ... أعني لو كنتَ تُحبّ النساء، لأردتُ أن يكون طفلي منكَ.
هل ما قالَته نهى في آخر حديثها هو الذي قلَبَ كياني رأسًا على عقَب، أم لأنّني أفرغتُ لها قلبي، أم لأنّني شفيتُ نفسي مِن خلال حَمل نهى على العدول عن حكمها على الرجال؟ لستُ أدري، لكن في غضون لحظة واحدة، إنتابَني شعور لَم أعرِفه مِن قبل. فهمتُ لاحقًا أنّ اسمه "الحبّ"، ولو قال لي أحدٌ يومًا أنّني سأقَع في الحبّ بلحظة واحدة بعدما قضَيتُ حياتي أكرَه النساء، لضحكتُ عاليًا ووصفتُه بالمجنون.
ومنذ ذلك العشاء، لَم أنفكّ عن التفكير ليلاً نهارًا بنهى، لدرجة أنّني ألغَيتُ كلّ مواعيدي إلا مواعيد التي شفَت قلبي وكأنّها أمهَر الأطبّاء النفسانيّين.
لكن كيف أقولُ لنهى إنّني كذبتُ عليها بشأن مثليّتي، في حين أنّها عانَت مِن غشّ وكذب الرجال؟!؟ كان عليّ التصرّف بسرعة، أي قَبل أن تجِد نهى رجُلاِ غيري، خاصّة بعدما حثَّيتُها على الارتباط بسرعة لتستطيع الانجاب، فهي قاربَت على بلوغ الأربعين مِن عمرها.
لِذا طلبتُ منها أن تأتي إلى العيادة بأسرع وقت بخصوص معالجة أحَد أسنانها. كنتُ مشدود الأعصاب لِدرجة لا توصَف، فماذا لو خسرتُها؟ ماذا لو بسببي هي عادَت إلى كره الرجال؟ يا إلهي... ماذا أفعَل وماذا أقولُ؟
إستمعَت نهى إليّ وأنا أعترفُ لها بكلّ شيء، ورأَت كيف كنتُ مُربكًا وخائفًا وفي عَينَيّ هلَع مِن ردّة فعلها. وبعد أن انتهَيتُ مِن الكلام، قالَت لي بهدوء قبل أن تخرج مِن العيادة:
ـ هل تظنّ أنّني صدّقتُ رواية المُثليّة ولو للحظة؟ سأراكَ مساءً على العشاء.
اليوم لدَيّ ونهى تؤامان بنات، فلقد مرَرنا بعلاج قبل أن نستطيع الانجاب. وأستطيع القول إنّني لَم أتصوّر يومًا أنّ السعادة الحقيقيّة موجودة بالفعل. نُربّي توأمَينا بحبّ وحنان، كما يجب أن يُربّى الأطفال، وكما كان يجب أن نتربّى. أُحبُّ زوجتي أكثر مِن أيّ شيء في هذه الدنيا، وأستطيعُ القول إنّ كلّ النساء، خلافًا لِما كنتُ أعتقِد، ليست شرّيرات شأن أمّي وأختي، بل كلهنّ عظيمات... ما عدا أمّي وأختي!
حاورته بولا جهشان