ماذا أفعل بإبني؟

ما وصَلَ إليه جهاد إبني سبَبه أنا. فلدَيّ كمّيّة هائلة مِن العاطفة والشعور بالأمومة، ولَم أتحمَّل رؤية ولَدي مريضًا. فأفرطتُ بالاهتمام به وحمايته، الأمر الذي أدّى إلى ما آلَت إليه الأمور. وهذه قصّة جهاد:

وُلِدَ إبني الأصغر كسائر الأولاد، لكن سرعان ما بانَت عليه علامات صحّيّة مُقلِقة. أسرعَتُ وزوجي إلى الطبيب، وتبيَّنَ أنّ قلبه ضعيف وقد يُسبّبُ له ذلك بالموت في أيّة لحظة. تصوّروا إرتباكي وهلَعي وحزني! ومنذ تلك اللحظة، كرَّستُ أيّامي وسنواتي للحفاظ على حياة إبني... مهما كلّفَ الأمر.

لَم نترُك طبيبًا إلاً وقصَدناه، لَم نترُك مقالاً إلا وقرأناه، لَم نترُك علاجًا إلا وجرّبناه، إلى حين وصَلنا إلى حدٍّ مِن الاستقرار الصحّيّ له. وفي تلك الفترة، كان قد أصبَحَ جهاد ابننا-الملِك، الوحيد الذي لا نرفضُ له طلَبًا والذي يحصلُ على كلّ شيء قَبل اخوَته.

حياتي الزوجيّة تأثّرَت كثيرًا بسبب إنتقالي باكرًا إلى قرب جهاد الذي شغَلَ غرفة خاصّة به، ولَم أعُد أنامُ في السرير مع زوجي الذي رفضتُ إقامة أيّ علاقة حميميّة معه بسبب إنشغال بالي الدائم على حياة إبني. إضافة إلى ذلك، كنتُ أشمئزُّ مِن تقرّب زوجي منّي، فكيف له أن يُفكِّر بهذه الأمور بينما حياة ولدنا على المحكّ؟!؟ يا له مِن مُستهتِر وأنانيّ! للحقيقة، صرتُ أمقتُ ذلك الرجُل لقلّة إدراكه لتداعيات صحّة ولَدنا، ولَم أكن لأدَع أحدًا يستهتِر بجدّيّة خسارة حياة كائن حَيّ!

في آخِر المطاف، حين اطمأنّ بالي قليلاً على جهاد، كانت أعصابي قد تأثّرَت إلى حدّ كبير مِن قلّة النوم وكثرة الهمّ، فصِرتُ مُدمِنة على المُهدّئات وكلّ أنواع الأقراص التي تُساعدُني على النوم، وأخرى تُبقيني صاحية لأقومَ بواجباتي تجاه عائلتي. أيّ عائلة أتكلّمُ عنها؟ عن زوجي الذي صارَ يُحبُّ العمَل حتى آخِر الليل كَي لا يعودَ إلى بيت مسكون بالمرَض وانشغال البال؟ أو عن أولادي الباقين الذين تعلّموا على مضض كيف يقومون بكلّ شيء بأنفسهم، آخذين بعَين الاعتبار وجود مريض بينهم لا يجب عليهم إزعاجه أو إغضابه او حتى مُناقشته؟ دمَّرتُ كلّ شيء، وفي تلك الفترة، لَم آسَف على ذلك، فكيف لي أن أدَع إبني يموت؟!؟

 

دخَلَ جهاد المدرسة بعدما أوصَيتُ الإدارة والمُدرِّسات بأن ينتبهوا إلى حالة ابني الصحّيّة وإلا تسبّبوا له بأزمة قلبيّة قد تكون مُميتة. أحاطَ الجميع ابني وهو صارَ التلميذ المُفضّل لدَيهم، الأمر الذي جلَبَ له مِن قِبَل رفاقه إمّا الشفقة أو الغيرة. لَم يرسُب ولَدي يومًا، بالرغم مِن نتائجه المدرسيّة الرديئة، فمَن سيجرؤ على ذلك؟

إجتازَ جهاد جميع مراحل الدراسة بالطريقة نفسها، وهو تعلّمَ كيف يستفيدُ مِن وضعه الذي صارَ غير مُميت، إمّا بالاحتيال والتمثيل أو بنوبات غضب لا مثيل لها. وفي آخِر المطاف، كان الرابح دائماً. كبرَ أخوَته مِن دون أن أُلاحِظ، مع أنّني كنتُ أحبُّهم بالقدر نفسه، لكنّ فكري كان لجهاد واهتمامي يدورُ حوله. أمّا زوجي، فصارَت له علاقة غراميّة علِمتُ بها وقبِلتُ بها، طالما ذلك يُبقيه في البيت وخارج غرفة نومي. أيّ أنّ جميع أفراد العائلة كوّنوا حياتهم وتوازنم بشكل شِبه مُرضٍ... ما عدا جهاد.

كان صغيري دائم الطلبات والانزعاج. أقولُ صغيري مع أنّه كان في تلك الفترة قد دخَلَ الجامعة، لكنّه كان وسيبقى ولَدًا صغيرًا في نظري. ودخوله الكلّيّة عنى أنّ عليه بذل جهود قاسية للنجاح، فلَم يعُد مُحاطًا بمُدراء ومُدرِّسين يغضّون النظَر عن نتائجه الرديئة. لِذا جلبتُ له أستاذًا خاصًّا يُعطيه ما ينقصه ويُقوّي نقاط ضعفه. إلا أنّ ذلك المُدرِّس توقّفَ عن المجيء وكذلك الذين تلوه.

هل يُعقَل أن يكون إبني جاهلاً لهذه الدرجة ليستسلِم الجميع؟!؟ إنتهى المطاف ببقاء أستاذ واحد بعد أن قدّمتُ له حوافز لا يُمكن لأحَد رفضها. يا لَيت جهاد ينالُ شهادته الجامعيّة ليرتاحَ بالي عليه وأستطيع أخيرًا العَيش بسلام! فالواقع أنّني تعِبتُ بعد أن قضَيتُ حوالي العشرين سنة مُركِّزة على شخص واحد جسديًّا ونفسيًّا ومعنويًّا. لَم أكُن قد أدركتُ بعد مدى الضَرر الذي تسبَّبتُ به له ولباقي أفراد عائلتي.

تزوَّجَ أولادي وفرحتُ لهم، وشعرتُ أنّني صرتُ قادرة أخيرًا على التركيز كلّيًّا على جهاد لأنّه كان الوحيد الذي يسكنُ معي. آه... نسيتُ أن أقولَ لكم إنّ زوجي تركَني ليتزوّج مِن عشيقته، لكنّه بقيَ يؤمِّن لنا حاجاتنا. لَم أنتبِه لغيابه عن البيت، فكان قد غابَ عن قلبي وفكري وجسدي منذ فترة طويلة.

 

نجَحَ جهاد سنته الجامعيّة الأولى، وأمِلتُ أن يُتابِعَ نجاحه حتى الشهادة، إلا أنّه لَم يُنهِ سنته الثانية... لأنّه لَم يعُد يُريدُ الذهاب إلى الجامعة.

حاولتُ شتّى الطرق لتغيير رأيه إلا أنّه بقيَ مُصرًّا على موقفه. لِذا حملتُه على اختيار مهنة، ربمّا يجدُ نفسه فيها.

غيَّرنا إختصاصات مهنيّة كلّ سنة، فجهاد كان يجِدُ دائمًا إختصاصًا يجذُبه أكثر، فيترُك دراسته في أوّل السنة ليقضي باقيها في البيت مُمدّدًا على الأريكة، ويدخُل المعهد مُجدّدًا في بداية السنة الدراسيّة باختصاص جديد... وهلمّ جرًّا!

طفَحَ كَيل زوجي السابق مِن دفع أقساط لا منفعة منها، وهدَّدَ بقطع المال عن دراسة جهاد، الأمر الذي أغضَبني إلى أقصى درجة وحملَني على شَتمه وزوجته واتّهامه بعدَم الشعور بالأبوّة بسبب ركضه وراء غرائزه. كان عليه الدفع لدراسة إبنه حتى لو قضى حياته في المعاهد! أسكتَني زوجي السابق ببعض المال ثمّ سافَرَ بعيدًا مع زوجته، إلى مكان لا أعرفُه... حيث لا أستطيع إجباره على شيء! هكذا إذًا... حسنًا، سأجدُ عمَلاً في الحال وأصرفُ على إبني الأصغر. مهلاً... ألَم يكن لدَيّ أولاد آخرون؟!؟ إذًا عليهم مدّنا بالمال! فهم تعلّموا واشتغلوا وبنوا عائلة وباتَت أحوالهم جيّدة. لكنّني جوبِهتُ بالرفض الجماعيّ، وكأنّهم إتّفقوا ألا يُشارِكوا في تعليم أخيهم الأصغَر. إستعملتُ "ورقة المرَض" إلا أنّها لَم تنجَح، فهم كانوا يعلمون أنّ قلب جهاد بخير طالما يأخذُ أدويَته. بكيتُ أمام هذا الكمّ مِن اللامُبالاة، فكيف يتخلّون عن أمّهم وأخيهم؟!؟

وجدتُ عمَلاً في إحدى محلات الألبسة، وبقيَ جهاد في البيت يُفكّرُ بالاختصاص الذي يُريدُه.

مرَّت ثلاث سنوات على هذا النحو، وأدركتُ أخيرًا أنّ إبني يصرفُ مالي وحسب ولا يفعلُ شيئًا على الاطلاق لمُساعدتي. سألتُه أين يذهب بالمال فأجابَني بكلّ وقاحة: "أدّخرُه، فأنتِ صرتِ عجوزًا ولا أُريدُ أن أعيشَ فقيرًا". ثمّ استعمَلَ إبتزازه المُفضّل: "لا أستطيع العَيش مِن دون أدويَتي... قلبي الضعيف سيقتلُني يومًا". وهكذا إستمالَ عاطفتي مِن جديد لكنّني لَم أكن مسرورة منه على الاطلاق. فكيف لشاب بلَغَ الخامسة والعشرين أن يقضي وقته نائمًا أو مُستلقيًا أمام التلفاز بينما أمّه، التي لَم تكن عجوزًا بل تعِبة، تستفيقُ باكرًا كلّ يوم للذهاب إلى عمَلها؟

وجدتُ القوّة اللازمة لأقول له ذات يوم:

 

ـ إمّا أن تجِدَ عمَلاً أو ترحَل مِن البيت.

 

ـ ما هذا الكلام يا ماما؟ أنا لا أُصدّقُكِ، فليس بإمكانكِ رميي في الشارع... ماذا عن قلبي المريض؟

 

ـ كفاكَ احتيالاً يا إبني، عليكَ أن تصبَحَ رجُلاً.

 

ـ لماذا؟ فأنا سعيد جدًّا هكذا.

 

ـ ألا تُريدُ أن تجِدَ صبيّة حسناء تُحبُّها وتتزوّجها وتكوّن معها عائلة؟

 

ـ أنا لا أحبّ النساء!

 

ـ ماذا؟!؟ يا إلهي... هل أنتَ مِثليّ؟

 

ـ لا. لا أحبّ لا الرجال ولا النساء... تلك الأمور لا تخطُر ببالي قط. كلّ ما أُريدُه هو النوم والحفاظ على الراحة الجسديّة والفكريّة. أكمِلي أنتِ عمَلكِ ودعيني بسلام.

 

ـ سأموتُ يومًا، كما قلتَ لي ذات يوم. ماذا ستفعل آنذاك؟ كيف ستأكُل وتشتري أدويَتكَ؟ كيف ستدفَع فواتير البيت؟

 

وهذا الكلام بالذات أدّى إلى تحوّل إبني إلى نصّاب... مُحترِف. وبالطبع لَم أشكّ بشيء بل فرحتُ حين صارَ له فجأة أصدقاء، فأمِلتُ ان يكونوا له حافزًا ليدخل الحياة العمَليّة أخيرًا. إلا أنّ هؤلاء الأصحاب كانوا شبّانًا فاشلين شأن ابني، وهو ألّفَ معهم شلّة مهامها إيجاد المال السهل. علِمتُ ذلك حين طُلِبتُ بعد سنوات إلى قسم الشرطة بعد أن أُلقيَ القبض على جهاد ورفاقه. لَم أُصدِّق الخبَر فكيف لإنسان لطيف وبريء مثله أن يقومَ بتلك الأعمال؟ نظَرَ المُحقّق إليّ باندهاش وهزّ برأسه أسفًا عليّ.

إتّصلتُ بأبيه طالبة منه المال لتعيين محامٍ، بعد أن قيلَ لي إنّه عادَ سرًّا إلى البلد وزوجته وأعطاني أحدٌ رقم هاتفه. لكنّه رفضَ المُساعدة واتّهمَني بأنّني السبب بالذي يحصلُ لجهاد. وهو حظرَني بعد ذلك على هاتفه وانتهى الموضوع. أولادي أيضًا رفضوا مُساعدة أخيهم، فعيَّنَت له المحكمة مُحاميًّا. كنتُ لوحدي أمام تلك المعضلة، وإمِلتُ لدى صدور الحكم أنّ بقاء ولَدي وراء القضبان سيُلَقّنه درسًا مُفيدًا. وطبعًا كنتُ مُخطئة: بقيَ إبني في السجن ثلاث سنوات ثمّ خرَجَ... ليستلقي مِن جديد على الأريكة!

كبرَ جهاد كما هو، أي صارَ رجُلاً كسولاً واتّكاليًّا وغير نافِع. وهو يعيشُ مِن تعَبي، فآخِر شيء كنتُ أُريدُه هو أن يعودَ إلى النصب والاحتيال وإلى السجن. بقيَ على أريكته بينما أعمَل، فذلك أفضل! لكنّ صحّتي لَم تعُد تُساعدُني على المُتابعة وسيأتي يوم ولن أعودَ قادرة على العمَل. ماذا سيحصلُ حينها؟

لا تقسوا عليّ، أرجوكم، فأعرفُ مدى مسؤوليّتي. بل أعطوني حلولاً ونصائح، فمستقبلي قاتِم للغاية ولستُ قادرة على رؤية ولو بصيص أمَل فيه.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button