ما سرّ كره أبي لخطيبي؟

كنتُ قد وجدتُ أخيرًا حبّ حياتي، بعد أن فقدتُ جدّيًّا الأمَل وبعد أن بلَغتُ السابعة والثلاثين مِن عمري. تأخيري سببه شاب أحبَبتُه واتّفقتُ معه على الزواج، لكنّه غيّرَ رأيه بي في اللحظة الأخيرة. حزني الكبير حمَلَني على نسيان أمور القلب، خوفًا مِن أن يخيبَ ظنّي مرّة أخرى، فصبَبتُ اهتمامي كلّه على دراستي ولاحقًا على عمَلي، الأمر الذي قادَني إلى أعمال مُربِحة للغاية أنسَتني وضعي. فكنتُ "العانِس" بين أخواتي اللواتي تزوَّجنَ وأنجَبنَ، والخالة التي تُغرِقُ أولادهنّ بالهدايا والمال. خافَ والدايَ أن يرحلا مِن هذه الدنيا قَبل أن يطمئنّ بالهما عليّ، ففي العقليّة الشرقيّة لا تكون المرأة بأمان إلا إذا كان إلى جانبها رجُل. لكنّ الحقيقة أنّني كنتُ أشعرُ جدًّا بالأمان بالنسبة لمُستقبلي ولاحقًا شيخوختي، بفضل مهنتي والمال الذي وضعتُه جانبًا تحسّبًا. فليذهَب كلّ الرجال إلى الجحيم، لَم أكن بحاجة إلى أيّ منهم!

وحصَلَ أن تعرّفتُ إلى نسيم، رجُل وسيم ولائق يصغرُني ببضع سنوات ويعملُ في شركة تجاريّة. في الواقع، كنتُ أعرفُ مُديره، فدخَلَ علينا نسيم حين كنتُ مُجتمِعة معه نُبرِمُ اتّفاقيّة عمَل. لَم أستطِع تجاهل ذلك الرجُل بسبب قوامه الجميل وابتسامته الجذّابة. إلا أنّني لَم أتصوّر أن أقَعَ في حبّه وأن أنوي الزواج منه! لكنّ نسيم انتظرَني خارج مكتب مُديره ليبحَث معي تفاصيل الاتفاقيّة، وليعرضَ عليّ خدَماته بالعمَل بجدّيّة وتفانٍ على الملفّ. وجدتُ حماسته جذّابة، فأنا أحبُّ الذين يؤمنون بمشاريعي لأنّها كانت بالفعل ناجحة. لستُ أتباهى بنفسي، لكنّها الحقيقة، وإلا لَما كنتُ سيّدة أعمال مرموقة.

وعلى مرّ الوقت، وجدتُ نفسي أُفكّرُ بنسيم وأشتاقُ إليه، وأنتظرُ بفارغ الصبر لحظة اجتماعي به. لَم أدَع أيّ شيء يظهرُ عليّ، بل بقيَت علاقتنا مهنيّة بامتياز. أسفتُ كثيرًا حين علِمتُ بالصدفة أنّ ذلك الموظّف لديه خطيبة، فهو لَم يذكُر أبدًا وجود أحد في حياته ولَم يكن يلبسُ خاتم خطبة. عندها نزعتُ كلّ الأفكار المُتعلِّقة به مِن رأسي، على مضض. لكن في أحد الأيّام، وجدتُه حزينًا للغاية، وبعد أن سألتُه مرّات عديدة عن سبب ذلك الحزن قالَ لي:

 

ـ إنّها أمور شخصيّة يا آنستي... خطيبتي... أعني أنّها غيّرَت رأيها بي وتركَتني.

 

يا إلهي... حصَلَ معه الشيء نفسه الذي حصَلَ لي! ومنذ تلك اللحظة، وقعتُ رسميًّا في حبّه، فكان مِن الواضح أنّ الله جمَعَ بيننا ليُنسينا مآسينا.

بعد ذلك، لَم أعُد أخفي عن نسيم مشاعري، إلى حين هو أيضًا صرَّحَ لي عن مدى حبّه لي الذي سرعان ما أنساه خطيبته الأنانيّة. كَم كنتُ سعيدة! ففي لحظة، جاءَ مَن غيَّرَ فكري في ما يخصّ الرجال وأمور القلب. وبدأنا نُخطِّط لمستقبل يجمعُ بيننا، ومع أنّ حبيبي أبدى تحفّظات بالنسبة للفارق المادّي بيننا، إلا أنّ ذلك لَم يمنَعنا مِن أن نُتابع طريقنا إلى حياة هنيئة. فالحقيقة أنّني كنتُ مُتحمِّسة أن يُرافقَني نسيم في مسيرتي المهنيّة، فهو كان طموحًا ولدَيه أفكار بنّاءة، الأمر الذي كان سيُطلِقُ أعمالي بعيدًا. بقيَ لي أن أزفَّ الخبَر لعائلتي ليفرحوا لي وبي أخيرًا.

 

دعا والدايَ نسيم إلى البيت لتناول العشاء، وهو كان مُتحمِّسًا جدًّا للقائهما. جلَسنا سويًّا إلى المائدة وبدأ أبي، كسائر الآباء، بطَرح مئة سؤال على الذي سيُصبحُ صهره. فبالرغم مِن أنّني كنتُ قد أخبرتُه كلّ ما عليه معرفته عن حبيبي، أيّ سنّه وطبيعة عمله وحالته المادّيّة، فقد أرادَ أبي معرفة كلّ التفاصيل المُتعلِّقة به. أجابَ نسيم على كلّ الأسئلة التي طُرِحَت عليه، مع أنّني حاولتُ تحويل الحديث إلى أمور أخرى كالتحضيرات للزفاف. وبعد انتهائنا مِن الأكل وشرب القهوة، غادَرَ نسيم والبسمة على وجهه.

لكن في الصباح الباكر، قال لي أبي بينما كنّا نتناوَل الفطور:

 

ـ أمُّكِ لا تزال نائمة لِذا سأغتنِمُ الفرصة لأُعطيكِ رأيي بنسيم.

 

ـ أودُّ أيضًا معرفة رأي الماما.

 

ـ لاحقًّا... إسمعي يا إبنتي... أٌفضّلُ لو تقطعي علاقتكِ بذلك الرجُل.

 

ـ ماذا؟!؟ أنتَ تمزَحُ حتمًا! ما هذه الدعابة السخيفة صباحًا؟

 

ـ أنا جدّي للغاية. إبتعدي عن نسيم قدر المُستطاع.

 

ـ ولماذا؟

 

ـ لأنّني أبوكِ ولدَيّ خبرة في الناس.

 

ـ هل لأنّه أصغَر منّي سنًّا أو لأنّ ليس لدَيه ما أملكه؟

 

ـ هذا رأيي فيه وحسب، ليس عليّ أن أُبرِّرَه.

 

ـ بلى!

 

ـ ذلك الرجُل سيجلبُ لكِ التعاسة، ومِن الأفضل عليكِ البقاء عازبة على الزواج منه.

 

- ظننتُكَ وأمّي تُريداني ألا أبقى عازبة! للصراحة لَم أعُد أفهمُكَ يا بابا... هل تخافُ أن تبقى لوحدكَ وأمّي؟ أقسمُ لكَ أنّني سأزورُكما يوميًّا وأهتمّ بمصاريفكما كما أفعلُ الآن. لن يتغيّر شيء على الاطلاق.

 

ـ إنّه شخص سيّئ، إقطعي علاقتكِ به في أقرَب وقت.

 

خرجتُ مِن المطبخ باكية، ورحتُ أُصحّي أمّي لأسألها عن نسيم، وهي وجدَته لطيفًا للغاية وتمنَّت لي وله التوفيق. وحده أبي كان مُعارضًا، ولَم أكن مُستعدّة لخسارة الذي ملأ حياتي بالفرَح. لكن، مِن جهة أخرى، لَم يكن مِن الوارِد أن أتزوّج مِن دون رضى أبي ووجوده في عرسي. لكن كيف أُغيِّر رأيه؟ لَم أُطلِع نسيم عمّا قالَه والدي عنه، لكنّني قلتُ له إنّه يرى صعوبة بالتخلّي عنّي بعدما اعتادَ على وجودي معه في البيت. لِذا طلبتُ مِن حبيبي أن يأتي إلى بيتنا مرارًا، ليرى أبي أنّني سأكون بين أيدٍ أمينة ويطمئنّ قلبه. إلا أنّ والدي تفادى عريسي في كلّ مرّة، وإن حصَلَ أن زارَنا نسيم فجأة، كان والدي يتركُنا ويمكثُ في غرفته بحجّة ما. كان مِن الواضح أنّه يرفضُ تلك الزيجة رفضًا قاطعًا. يا إلهي... ما عليّ فعله؟

تصاعدَت الأمور حين أخبرَني حبيبي أنّ أبي انتظرَه ذات مساء أمام مدخل عمله، ليطلبَ منه أن يتركَني وهدّدَه بالأسوأ إن لَم يفعَل. هل فقَدَ ولدي عقله؟!؟ كيف يفعلُ ذلك؟ فأنا إمرأة مُستقلّة وناضِجة ومُنتِجة! على كلّ الأحوال، لَم أكن بحاجة إلى موافقة وليّ أمري لأتزوّج، وإن كانت الأمور بلغَت هذا الحدّ، وجَبَ عليّ التصرّف وبسرعة. لِذا قرّرتُ أن أعُيّن ونسيم موعد العرس... بمَن حضَر!

أبدَيتُ امتعاضي لأمّي التي احتارَت كثيرًا، فأبي معروف بهدوئه وحكمته، ولَم يحصل أبدًا أن استعمَلَ لغة العنف والتهديد مِن قَبل. هل أنّ سنّه بدأ يؤثِّر على سلوكه وهل عليه أن يرى طبيبًا؟ قرّرَت والدتي التكلّم معه بهدوء، فقد تتمكّن مِن تغيير رأيه قَبل موعد عقد القران. فآخِر شيء كنتُ أُريدُه هو الزواج مِن دون أبي. لكن مُحاولات أمّي باءَت بالفشل.

وقَبل زواجي بيوم واحد، دخَلَ أبي غرفتي وعلى وجهه علامات الإرباك العميق. فهو بالكاد نظَرَ إليّ بعد أن أقفَلَ وراءه الباب:

 

ـ لستُ مجنونًا يا إبنتي وليس لي دوافع شخصيّة للوقوف بوجه سعادتكِ، لكنّ تلك السعادة لن تكون مع نسيم على الاطلاق.

 

ـ وما أدراكَ يا بابا؟

 

ـ لأنّني... لأنّني أعرفُ عنه أشياء كثيرة وقبيحة!

 

ـ حقًّا؟ لَم تأتِ على ذكر ذلك مِن قَبل!

 

ـ أقسمي لي أوّلاً ألا تعرفَ أمّكِ بالأمر!

 

ـ هذا وعد منّي. أكمِل يا بابا! ما الأمر؟ لماذا هذه السرّيّة؟

 

ـ حصَلَ ذلك منذ أربع سنوات... مرَرنا بظروف صعبة، أعني أمّكِ وأنا.

 

ـ يا إلهي! هل خنتَ الماما؟!؟

 

ـ لَم أفعَل، والحمد لله... لكنّني كنتُ على وشَك القيام بعلاقة مع سيّدة تعرّفتُ إليها عبر الانترنِت... لا تخافي يا إبنتي، بقيَت معرفتي بها ضمن العالم الافتراضيّ بعد أن استوعبتُ أنّني أمرٌّ بمرحلة دقيقة مِن زواجي. وهذه السيّدة أطلعَتني على كلّ تفاصيل حياتها، بما فيها الزوجيّة. فهي الأخرى مُتزوّجة... مِن نسيم! أجل، هي وسيّدتان أخريان. فهو يسعى وراء مالهنّ ثمّ يسأم منهنّ، ثمّ يخطب أخرى ويتزوّجها لاحقًا. فالحقيقة أنّه كان يعقدُ قرانه المتكرِّر في بلدان مُختلفة ولا يُسجّله في بلَدنا. وقد أرَتني صورته ذات مرّة وتعرّفتُ إليه فور رؤيته عندنا في البيت.

 

ـ أنتَ تخترِع القصص! لِما إذًا لَم تبُح بهذه المعلومات على الفور؟

 

ـ وأفضَحُ نفسي أمام أمّكِ؟ لكنّ الآن عليّ أن أتكلّم، فسعادتكِ أهمّ مِن زواجي.

 

ـ أُريدُ إثباتات! أُريدُ التكلّم مع تلك المرأة!

 

ـ حسنًا، لكن ليس مُباشرة... سأفتَحُ الفيديو معها مُتحجِّجًا بأنّني على خلاف جديد مع زوجتي، وأنتِ ستجلسين في مكان مِن الغرفة لا تراكِ منه. لكن تذكّري: لا يجب أن تعرفَ أمّكِ أبدًا بهذه القصّة!

 

جلَسَ أبي على الأريكة وطلَبَ السيّدة، واستطعتُ أن أرى شكلها مِن الزاوية المخفيّة حيث جلَستُ، وأخَذَ والدي يسألُها عن نسيم. سمعتُها تقول له إنّ زوجها وجَدَ عروسًا تملكُ المال وهو يُريدُ الزواج منها قريبًا، وأعطَته إسمي مِن دون أن تعرفَ أنّني ابنته. ثمّ طلَبَ منها أبي أن تريه صورة نسيم ليتذكّر "وجه الوغد الذي يُعذّبُها"، ففعلَت وأرتَه أيضًا صوَر زوجاته الأخر. شعرتُ وكأنّ نارًا إجتاحَت جسدي كلّه، وامتلأ قلبي بالغضب الشديد حيال ذلك الماكِر والمُحتال. هكذا إذًا! متى كان سيُطلعُني على باقي زيجاته، القليل الأصل! بقيَ عليّ أن أواجِه الذي أحبَبتُه لأسمعَ ما سيقوله لي. وهذا كان ردّه:

 

ـ أرى أنّكِ قمتِ بتحرّياتكِ يا حضّرة المُحقّقِة البارعة! لن أنكُر أنّني مُتزوِّج فهذا مِن حقيّ... ربّما كان يجدرُ بي أن أُخبركِ الحقيقة، لكنّني خفتُ أن أخسركِ، فأنا أُحبُّكِ حقًّا.

 

ـ كفاكِ كذبًا! أنتَ غشّاش وكاذِب ولن تُصدّقُك سوى إنسانة بلهاء وساذِجة! فأنا لَم أصِل إلى هذا الحدّ مِن النجاح سوى بفضل ذكائي وحنكتي. وأُراهِنُ أنّ قصّة الخطيبة التي تركَتكَ هي مِن نَسج خيالكَ، وأنّكَ أردتَ التقرّب منّي بعد أن سمعتَ كيف تخلّى خطيبي عنّي في ما مضى. أليس كذلك؟

 

ـ كيف علِمتِ بكلّ تلك الأمور؟!؟

 

ـ هذا ليس مِن شأنكِ! عُد إلى حياتكَ وزوجاتكَ وعملكَ، ولا ترِني وجهكَ بعد الآن!

 

ـ ومشروعنا؟

 

ـ أيّ مشروع؟ أنتَ أبلَه بحق!

 

لَم أتزوّج ولَم تعرِف أمّي بشيء. لستُ آسفة على الاطلاق على نسيم أو على بقائي عزباء، فمِن الواضح أنّ مصيري أن أكون بلا زوج. وإن يكُن؟ ألستُ سعيدة كما أنا؟ أنا اليوم أهتمُّ بأبي بعد وفاة أمّي الحبيبة، ولَم نُثِر يومًا موضوع مُحاولة والدي خيانة زوجته، فأعرفُ كَم أنّه أحبَّها. إلا أنّ الزوجَين يمرّان بفترات عصبية ومِن ثمّ يُكملان مسيرتهما سويًّا. المُهمّ أن يُقاوِمَ المرء المُغريات، ويٌفكّر بتداعيات أفعاله على حياة ومشاعر الآخَر.

شكرًا يا بابا لأنّكَ أنقذتَني مِن فخّ نسيم!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button