ما الذي كان يدور في بال سلفتي؟

كنتُ أعلَم أنّني سأسكنُ بعد زواجي مِن خالد مع حماتي وسلفتي وزوجها وأولادهما، ولَم أُمانِع، ربّما لأنّني اعتَدتُ أن أرى مِن حولي العائلات تسكنُ مع بعضها. إضافة إلى ذلك، بدا لي أنّ والدة خالد وأخاه وزوجته يكنوّن لي مودّة واضِحة. وهكذا دخلتُ بيت هؤلاء القوم بمعنويّات إيجابيّة عالية.

وسرعان ما صِرتُ وزينة، سلفتي، صديقتَين، الأمر الذي أراحَ زوجي الذي كان يخافُ ألا أستوعِب طباع زينة الصعبة. فتلك المرأة كانت تتحلّى بشخصيّة قويّة وآراء تُعبِّر عنها بقوّة، أيّ عكسي تمامًا. لكنّها كانت لطيفة معي وتُجاريني. مِن جانبي، شعرتُ بالأمان معها، فهي كانت وكأنّها تتكلّم بالنيابة عنّي وتُعبّرُ عمّا أريدُه أو لا أُريدُه. إلا أنّها كانت تواجِه دائمًا المشاكل مع زوجها، ويتشاجران عاليًا شِبه يوميًّا لِدرجة أنّ الأمر باتَ اعتياديًّا. أطلَعتُ عائلتي على ارتياحي عند زوجي وأهله، فاطمأنّ بالهم مِن ناحيتي.

أولاد زينة كانوا هادئين، الأمر الذي شجّعَني على الإنجاب بدوري، إلا أنّ الحَمل لَم يحصل مِن تلقاء نفسه فصبِرتُ، مؤمنةً بإرادة الله. إلا أنّ زينة قالَت لي يومًا:

 

ـ تعالي معي إلى أمّ فارس.

 

ـ ومَن تكون تلك السيّدة؟

 

ـ إنّها إمرأة يقصدها كلّ مَن أرادَ شيئًا لا يملكه... إنّها تُداوي بالأعشاب و"الكتيبة".

 

ـ لا! فلقد حذّرَنا ديننا مِن أمثالها!

 

ـ كلام غير صحيح... الكلّ يفعلُ ذلك... تعالي معي فقد تُساعدُكِ على الحَمل بسرعة. فأنا أعلمُ كَم أنّ خالد يُحبّ الأولاد وينتظرُ بفارغ الصبر أن يكون أبًا.

 

ـ هناك أطبّاء لهذه الأمور. لا، لا، شكرًا لكنّني لن أذهَب.

 

إلا أنّ زينة تحصلُ دائمًا على مرادها، وهي أقنعَتني بأنّ لا ضرَر بأن نزورَ أمّ فارس. وهكذا دخَلنا غرفة صغيرة ومُظلِمة مليئة بالعقاقير والروائح الغريبة، وقالَت زينة للعجوز:

 

ـ هذه العروس الحسناء تُريدُ الإنجاب ولا وقت لدَينا. إفعلي ما عليكِ.

 

ـ حسنًا، إجلسا قبالَتي... على فكرة، كلّ شيء شبه جاهز بالنسبة لطلبكِ يا سيّدة زينة، أعذريني على التأخير، لكن هذه الأمور تتطلّب جهدًا كبيرًا منّي.

 

ـ سنتكلّم عن موضوعي لاحقًا... إهتمّي بالعروس أوّلاً.

 

كنتُ خائفة كثيرًا، لِدرجة أنّني خرجتُ بعد دقائق مِن الغرفة تاركةً زينة والعجوز لوحدهما. ثمّ وافَتني سلفتي في الخارج ووبّخَتني:

 

ـ صحيح أنّكِ جبانة. لِما الهروب؟ لن أُساعدكِ بعد اليوم ولن يهمّني إن حمِلتِ أم لا!

 

ـ سأتّكلُ على ربّي وعلى العِلم.

 

ـ أمّ فارس أقوى مِن الجميع.

 

ـ أنتِ تكفرين يا زينة، حذارِ!

 

بعد ذلك اليوم، صرتُ أرى سلفتي على ضوء آخَر، فما كنتُ أعتبره قوّة اتّضَحَ أنّه فجور وعناد، وحزنتُ مِن أجل زوجها الذي كان يُفضّلُ البقاء خارج البيت وأولادها الذين لَم يكونوا هادئين كما حسبتُهم في البداية بل كانوا مذعورين. ومع الوقت، إبتعَدتُ شيئًا فشيئًا عن زينة مُفضّلةً مُعاشرة صديقاتي وقريباتي عليها.

ثمّ رحتُ وزوجي عند الطبيبة النسائيّة التي أجرَت لي بعض الفحوصات ولَم يظهَر أيّ خطَب لدَيّ، فنصحَتني أن أصبُر قليلاً فقط. للحقيقة لَم ألمُس عند خالد أيّ استياء مِن عدَم حَملي كما ادّعَت زينة.

وذات يوم دقَّ باب البيت صبيٌّ صغير وبِيَده علبة أيضًا صغيرة طالبًا رؤية زينة، إلا أنّها كانت خارج المنزل، فأخذتُ العلبة منه. لكن عندما قالَ لي إنّها مِن قِبَل أمّ فارس، إرتعشَ بدَني فصرختُ عاليًا، الأمر الذي حمَلَ حماتي على الركض مِن المطبخ لترى ما حصَلَ لي. طمأنتُها بأنّني بخير مُضيفة: "إنّه غرضٌ لي خفتُ أن أوقِعه مِن يدي، لا عليكِ". ثمّ اقفَلتُ الباب بعد أن أعطَيتُ الصبيّ بقشيشًا. وعندما عادَت زينة بعد ساعة أو أكثر، أعطَيتُها العلبة قائلة:

 

ـ خذي هذا الغرَض مِن أمّ فارس. ما داخل العلبة؟

 

ـ لا شيء، لا شيء... هل علِمَ أحدٌ بالأمر؟

 

ـ لا، فلقد قلتُ لحماتي إنّ العلبة لي.

 

ـ أحسَنتِ... إياكِ أن تلفظي اسم أمّ فارس، فالكلّ يعرفُها.

 

ـ لَم تقولي لي... ما بداخل العلبة؟

 

لَم تُجِب زينة، لكنّني كنتُ سأكتشِف مُحتوى العلبة بطريقة أخرى بعد أيّام قليلة.

فذات مساء، سمعنا صوت حماتي وهي تصرخُ عاليًا: "النجدة! عفاريت في بيتي! عفاريت!". ركضنا جميعًا إلى الصالون ووجدناها واقفة أمام إحدى المقاعِد وبِيَدها شيء لَم أعرِف ماهيته. أبعدَني زوجي ولحِقَ به أخوه بينما بقيَت زينة جنب الباب تُراقِبُ ما يحصل. واتّضَحَ أنّ الغرَض التي وجدَته حماتي تحت حشوة المقعد عبارة عن ورقة كبيرة مكتوب عليها كلمات بِلغة غير معروفة، وبداخلها مادّة لزِجة لكن غير رطِبة ممزوجة بكُرة مِن الشَعر. كلّنا علِمنا ما يجري، فكان مِن الواضِح أنّها "كتيبة".

وعلى الفور صرخَت أمّ زوجي مُشيرة إليّ بإصبعها:

- إنّها هي! لقد وصلَتها علبة صغيرة منذ أيّام... جاء بها صبيّ لَم أتعرّف إليه في البدء لكنّ الآن أعرفُ مَن أرسلَه: أمّ فارس!

 

إستدارَ نحوي الجميع وبدأتُ أنكُر واستنكِر بقوّة، بينما نظَرت زينة إليّ وكأنّها ترجوني ألا أتكلّم. إحتَرتُ بأمري لكنّ المسألة صارَت جدّيّة إذ سألَني خالد:

 

ـ لماذا تستعملين السحر ضديّ؟ ماذا فعلتُ لكِ؟

 

ـ لا! لا! أنتَ مُخطئ!

 

عندها قالَت زينة:

ـ المسكينة تريدُ الإنجاب فقط يا خالد، هي لَم تستعمِل السحر ضدّكَ بل مِن أجلكَ... ألا تريدُ أن تصبحَ أبًا؟ أترُك زوجتكَ وشأنها، فهي فعلَت ذلك مِن كثرة حبّها لكَ.

 

إرتاحَ زوجي وكذلك أخوه، لكنّ حماتي لَم تكن مُقتنعِة:

ـ السحر للإنجاب يوضَع تحت الفراش... إضافة إلى ذلك، هذا ليس مقعد خالد، بل أخوه الذي يجلسُ هنا دائمًا.

 

تابعَت زينة في الدفاع عنّي:

ـ قد تكون أخطأَت في مُتابعة التعليمات يا حماتي، إنّها ساذجة وليس لدَيها خبرة في الحياة. أنا مُتأكّدة مِمّا أقوله، فأنا رحتُ معها إلى أمّ فارس.

 

ثمّ قالَ لي زوجي إنّ لا حاجة لهذه الأمور في بيته لأنه يرفضها تمامًا. إضافة إلى ذلك، مسألة الإنجاب بإمكانها أن تنتظِر خاصّة أنّ الطبيبة قالَت إنّني لا أشكو مِن شيء.

لَم أفضَح أمر زينة طالما مرَّت الحادثة على خير وسلامة. لكنّ زوجي لَم يعُد مُطمئنًّا لي كثيرًا، فقد رأيتُ ذلك في عَينيَه، بل ربّما خافَ مِن نوايايَ إذ أنّني قصدَتُ ساحِرة وقد أُعيدُ الكرّة. لكنّني عزَمتُ على طمأنة باله مِن ناحيتي، وصِرتُ أعيرُه أهميّة زائدة حتى نسيَ أخيرًا الموضوع.

لكنّ حماتي لَم تنسَ الموضوع، فما لَم يعرِفه أحدٌ هو أنّها لَم ترمِ الكتيبة بل حفظَتها لبضعة أيّام في حوض الزرع خارجًا. ومِن ثمً أخذَتها إلى شيخ عجوز يعيشُ في القرية المُجاوِرة.

في تلك الأثناء، نسيتُ امتعاضي مِن زينة ومسألة أمّ فارس، وكَون سلفتي لَم تعترِف أنّها مَن وضَعَ الكتيبة تحت المقعد. وهكذا عُدنا مُقرّبَتَين قليلاً وصرنا نقومُ بالأعمال المنزليّة بفرَح. لكنّ علاقتها بزوجها لَم تتحسَّن، إذ أنّها لَم تتغيّر معه بالرغم مِن أنّها كانت ترى كيف أُعامِلُ خالد، وسمِعتُها تتّهمه بخيانتها لا بل أنّه ينوي الزواج عليها.

وفي إحدى الأمسيات، حين عدتُ مِن زيارة أهلي، وجدتُ خالد وأخاه وأمّه وزينة جالسين بصمت في الصالون. هم نظروا إليّ بغضب وشيء مِن الخوف وطلبَت حماتي منّي أن أجلسَ بدوري. سألتُها ما الخطب إذ خفتُ أن يكون قد ماتَ أحد أعرفُه، لكنّها قالَت:

 

ـ تلك الكتيبة التي وضعتِها في بيتنا ليست للإنجاب... إنّها لِقتل الناس.

 

ـ ماذا؟!؟ ما هذا الكلام؟!؟

 

ـ لقد تأكّدتُ مِن الأمر بنفسي. كيف تفعلين ذلك بنا بعد أن استقبلناكِ وسطنا وعامَلناكِ جيّدًا، أيّتها الأفعى؟!؟ خالد، قُم بواجبكَ!

 

عندها صرَخَ زوجي بي:

ـ أنتِ طالِق! إجمعي أمتعتكِ على الفور واخرجي مِن هذا البيت! تُريدين قتلي! لماذا؟ ماذا فعلتُ لكِ؟!؟

 

ـ أقسمُ لكَ يا خالد أنّ لا دخلَ لي بالموضوع على الاطلاق! زينة هي التي طلبَت الكتيبة مِن أمّ فارس ووضعَتها تحت مقعد زوجها! كلّكم أجمَعتم على أنّكَ لا تجلس هنا، بل هو!

 

ـ أتركي زينة وشأنها! ألا تخجلين مِن نفسكِ؟ تريدين إقحام زينة بالموضوع أيضًا؟؟؟

 

ـ زينة! إعترفي بالحقيقة أرجوكِ!

 

لكنّ سلفتي بقيَت صامتة إلى حين قالَت:

لو علِمتُ أنّكِ تريدين موت خالد لَما أخذتَكِ إلى أمّ فارس أبدًا! إرحلي عنّا أيّتها القاتلة!

 

ركَعتُ تحت قدَمَي زوجي طالبةً منه التعقّل وصارِخة:

ـ إذهب إلى أمّ فارس واسألها!

 

ـ لقد قصدتُها عندما أخبرَتني أمّي الحقيقة، لكنّ العجوز رفضَت التكلّم بحجّة أنّها لا تفضَح زبائنها. إلا أنّها أكدَّت لي أنّ الكتيبة مِن صنعها وأنّكِ قصدتِها يومًا.

 

ـ أجل قصدُتُها لكن لأُرافِق زينة! زينة هي التي تريدُ التخلّص مِن زوجها، ألا ترى كيف أنّهما يتشاجران دائمًا وكيف أنّه لا يمكثُ في البيت إلا ليأكل وينام؟!؟ إنّها تغارُ كثيرًا عليه وغاضِبة منه إلى أقصى درجة، لأنّه قد يتركها مِن أجل غيرها!

 

رأيتُ نظرة شكّ في عَينَي خالد، إلا أنّ أمّه حثََّته على التمسّك بقراره. وهكذا عدتُ منكسِرة إلى بيت أهلي حيث بكيتُ كلّ دموعي. تبًا لكِ يا زينة! لماذا فعلتِ ذلك بي؟!؟ وأنتَ يا خالد، كيف تُصدّق أنّني أريدُ موتكَ؟!؟

طلّقَني زوجي وغرقتُ في كآبة لا توصَف، فلقد ظُلِمتُ مِن أعزّ الناس إليّ. حمَدتَ ربّي أنّني لَم أُنجِب وإلا لكانوا أخذوا ولدَي منّي. يا للقوم الأشرار!

لكن بعد أشهر قليلة، حصَلَ ما لَم أتوقّعه: دقَّ خالد باب بيت أهلي وطلَبَ رؤيتي. هو جاءَ ليعتذر منّي لأنّه بالفعل ظلَمني، وروى لي كيف أنّه وجَدَ صعوبة في تصديق ما إتُّهمتُ به، لِذا هو بقيَ يُحاول فَهم ما جرى بالفعل. وشاءَت الصدَف أنّه التقى بالصبيّ الذي يوصِل الطلبات لزبائن أمّ فارس وحقَّقَ معه. وبعد أن أعطاه بعض المال، علِمَ منه أنّ الكتيبة الموجودة في العلبة كانت بالفعل مُخصّصة لزينة وليس لي. عندها واجَه خالد زينة بالذي عرَفَه وهي اعترفَت بالحقيقة كاملةً، ورحلَت وأولادها مِن البيت.

طلَبَ زوجي منّي مُسامحته والعودة إليه، لكنّني لَم أُعطِه جوابًا نهائيًّا بل شارطُّه أنّني لن أعيشَ مع أيٍّ مِن عائلته لو عدتُ له، بل نسكنُ لوحدنا.

لا تزال المفاوضات جارية، لِذا طلبتُ أن تُكتَب قصّتي، لعلّكم تستطيعون مُساعدتي في اتّخاذ قراري.

 

حاورتها بولا جهشان

 
المزيد
back to top button