ليس كل ما يلمع ذهباً

كنت أعمل في محل للمجوهرات في وسط المدينة. وكان هناك زبون يأتي باستمرار برفقة أجمل النساء ليشتري لهنّ خواتم وعقوداً وأساور وكل ما يرغبنَ فيه. كان وسيماً وجذاباً وأنيقاً، باختصار رجل الأحلام.

أنا من عائلة فقيرة جداً. والدي حاجب في مصرف يقوم بكل ما بوسعه ليؤمن لنا معيشتنا ووالدتي مصابة بالعمى وشقيقي غير نافع لشيء. لذا وجب عليّ ترك دراستي للبدء بالعمل في سنّ مبكرة. لكنّ الأمر الإيجابي الوحيد في هذه القصة الدرامية هو أنّ الطبيعة قد أنعمت عليّ بمظهر جميل فلم أجد صعوبة في إيجاد وظيفة بالرغم من افتقاري إلى المؤهّلات.
في أحد الأيام وصل ذاك الزبون الوفيّ إلى محل المجوهرات وحده وهذا لم يكن من عادته.


- آنستي، أبحث عن هدية لسيدة رائعة متحفظة بعض الشيء. أريد سواراً يلمع كعينيها حين تقابلان عينيّ. هل يمكنك مساعدتي؟
بالتأكيد كان بإمكاني مساعدته فأنا أعرف كل مجموعاتنا غيباً. قدّمت له بعض الاقتراحات.
- ماذا تختار؟ سألته.
عرضت عليه قطعة جميلة وشرحت له عن أوصافها فبدا راضياً. اشتراها ورحل ثم عاد ليظهر بعد بضع ثوانٍ وعلى وجهه ابتسامة جميلة.
- هل من خطب ما سيدي؟
- سأعرف على الفور... آنستي، هل تتشرّفين بقبول هذه الهدية المتواضعة؟ سألني مقدّماً لي العلبة التي كنت قد أعطيته إياها للتوّ.
- ولكن...
- لا تقولي شيئاً! أو قولي نعم واقبليها!
- لا يمكنني قبولها... أنا لا أعرفك... تلعثمت وشعرت بانزعاج شديد. كلا، شكراً...
عندئذٍ استدار نحو الصائغ:
- إنّ موظفتك الفاتنة تشعرني بالحزن. حزن كبير يمنعني من العودة إلى هنا من جديد...
نظر إليّ مديري وقال لي بحزم:
- آنسة ليلى، ليس من مصلحة أحد أن يكفّ السيد كمال عن القدوم إلى هنا.
قبلت رغماً عني. صحيح أنّني في قرارة نفسي كنت معجبة بذاك الزبون الفريد لكنني لم أكن مستعدة لقبول الهدايا منه. أخذت السوار وعاهدت نفسي بإيجاد وسيلة ما لإعادته له من دون أن أفسد علاقته بمحلنا.
لم أكلم أهلي بهذا فأنا أعرف مسبقاً ردّة فعلهم. ولكن كنت كل ليلة أفتح العلبة في الخفاء وأتأمّل ذاك السوار الرائع فأنا لم أحلم يوماً بالحصول على شبيه له.
عاد كمال مراراً ليلقي التحيّة ويدردش قليلاً. في أحد الأيام دعاني إلى العشاء فقبلت من دون تفكير. وقعت في غرامه... اصطحبني إلى أحد المطاعم التي لا نراها إلاّ في الأفلام. وكي لا أبدو سخيفة أمامه رحت أراقب طريقته في الأكل والشرب وأقلده.
موعد بعد موعد ولقاء خلف لقاء جاء اليوم الذي طلب فيه الزواج بي، وكيف عساي أرفض؟ فلطالما بدا لائقاً وأحاطني باهتمامه وهداياه. حتى إنه ساعد والدي وغطى ديونه ودفع قسط مدرسة شقيقتي الصغيرة وفتح كاراجاً لشقيقي! عشت حلماً حقيقياً! كان زفافنا كزفاف الأمراء، حضرته الطبقة المخملية في المجتمع، وفي الأمسية ذاتها سافرنا إلى جزيرة موريس حيث كانت بانتظارنا الشقة الفاخرة الرائعة. شعرت ببعض القلق حيال ليلة زواجنا الأولى فأنا لم أعرف أيّ رجل مسبقاً لكنني كنت واثقة من أنّ كمال سيكون ناعماً وصبوراً.
بيد أنّ ما حصل تلك الليلة أذهلني بالفعل إذ لم يحصل شيء! لا شيء على الإطلاق! استلقى بجانبي وقبّلني على جبيني ونام. لم أعرف إن كان عليّ القيام بشيء أو الانتظار. على الأرجح كان متعباً أو أنّه لا يريد إخافتي. انتهى بي الأمر في الغرق في نوم مليء بالتساؤلات.
عند صباح اليوم التالي، استيقظت ووجدت نفسي وحدي في السرير أما كمال فكان يجلس على شرفة الشقة الفاخرة. طلب الفطور وراح يقرأ الصحيفة بانتظار أن أستيقظ. ثم أمضينا يومنا على الشاطئ، وحين حل الليل تكرّر السيناريو ذاته كالليلة السابقة. ازداد قلقي. ألا يريدني؟ لكنني واثقة من حبّه إذاً لمَ؟ قرّرت أن أسأله في صباح اليوم التالي.
- عزيزتي أنت رائعة ولكن كما تلاحظين وبالرغم من أنني أرغب في ذلك لكنّ جزءاً من جسمي لا يعمل كما يجب.
وأمام دهشتي الواضحة قال:
- بعبارة أخرى، أنا عاجز.
قال ذلك بهدوء تام، أما أنا فوقفت مصدومة. قبّلني على جبيني قبل أن يبتسم قائلاً:
- هل نسبح؟
عشت اليوم بكامله نوعاً من الاضطراب وكأنّني تحت تأثير مخدّر مما منعني من التفاعل مع الحدث. عند المساء، لم تتبدّل الصورة: قبلة ونوم وهكذا إلى انتهى شهر العسل...


لدى عودتنا، كان مستحيلاً أن أكلّم أحداً عن الموضوع لشدة حساسيته، وعلى الأرجح إذا منحته بعض الوقت فقد تتحسّن الأمور وتعود إلى طبيعتها. لكن الأشهر راحت تمر ورحت أسأم من الغرق في ذاك الترف العديم الطعم. كثرت الأسفار والحفلات الاجتماعية كما لو أنّ تلك الجلبة كفيلة بسد احتياجاتي وتلبية رغبتي بتذوّق طعم الأمومة... ثمّ راح الناس يتساءلون مستغربين عن عدم إنجابنا الأولاد ومن أجل إسكات الشائعات تحجّج كمال بأنّني لا أحب الأولاد وأنّه مستسلم لرغبتي. فتحوّلت من الضحية إلى المذنبة التي تحرم زوجها من الأولاد، تلك التي ستقضي على نسل العائلة. صار الجميع ينظرون إليّ باحتقار ويتهامسون عليّ. لم أستطع تحمّل الأمر فحدّثته عن المسألة. نظر بهدوء في عينيّ وقال:


- لكن ممَّ تشتكين؟ عندك كل ما حُرمت منه في ذاك الكوخ الحقير الذي انتشلتك منه. من كان ليمنحك كل ذلك؟ والدك الذي كان بالكاد يجني ما تأكلونه، أم والدتك المكفوفة أم شقيقك العديم النفع؟ جعلت منك كائناً بشرياً ومن أجل صورتي وجب عليّ عقد هذا الزواج الذي رفضته الكثيرات. الآن، عليك الخضوع للأمر الواقع فليس عندك خيار.
- هل تقصد أنّك اشتريتني؟
- على الأرجح، لأنّك كنت للبيع يا عزيزتي!
- هذا ليس صحيحاً! أعترف بأنّني في البداية انبهرت بهداياك وكلامك اللطيف ولكن حتى لو كنت فقيراً كنت سأحبك. تزوّجتك لأنّك كنت تعتني بي وهذا زرع الدفء في قلبي. ولكن في النهاية ليس كل ما يلمع ذهباً. كان بإمكانك إطلاعي على عجزك فلا يحق لك حرماني من الأطفال. كان عليك التحلي بالشجاعة وترك الخيار لي. إنّ هذا الزواج مهزلة حقيقية وأنا أفضّل الرحيل!
قهقه ضاحكاً كما لو أنّ كلماتي لم تترك فيه أيّ أثر.
- ترحلين إلى أين؟ للعودة إلى البؤس؟ تذوّقت طعم الأمور الجميلة عزيزتي ولن تتحمّلي تلك الحياة لحظة واحدة. هيا اذهبي وأنا بانتظارك.

ورحلت من دون أن أنظر ورائي فأنا لم أكن للبيع! صحيح أنّ الطلاق الذي حصلت عليه بسرعة فائقة قد أعادني إلى البؤس لكنّ كرامتي توازي كل ثروات العالم ولا شيء أثمن بنظري من حب والديّ وأصدقائي ومن تلك الحرية لتناول لقمتي من عرق جبيني دون الحاجة إلى تقديم الشكر عند كل لقمة.

حاورتها بولا جهشان



 

المزيد
back to top button