لماذا تغيّر طبع ولدي في المدرسة؟

عندما توفيَ كمال زوجي الحبيب، وجدتُ نفسي مع ولد لم يبلغ الخمس سنوات. ظننتُ فعلاً أنّ حياتي كإمرأة إنتهت وكرّستُ نفسي لتربية الذكرى الوحيدة التي تركها لي المرحوم. ومن حسن حظّي أنني كنتُ أعمل في مؤسسة تجاريّة، فلم أكن بحاجة إلى أن يعيلني أهلي رغم فقدان راتب كمال. وتدبّرتُ أموري بتقليص الجانب الترفيهي من حياتي، لتوفير كل ما أجنيه لصرفه على إبني توفيق. وبالطبع لم يخطر في بالي أن أحبّ مجدّداً، خاصة أنّ حياتي الزوجيّة كانت ناجحة جداً وأنّ صنف الرجال الذي كان ينتمي إليه زوجي، كان نادراً. فعندما بدأ زميل لي بمغازلتي، كنتُ آخر من إنتبه إلى الأمر. لذا جاءت موظّفة إليّ وقالت لي في ذاك نهار:

- ما بالكِ؟ ألا ترين كيف يهتمّ سامر بكِ؟

- للحقيقة لا...

- يأتي لكِ بالحلوى ويساعدكِ عندما يكون لديكِ الكثير من العمل... هل أنتِ عمياء أم أنّه لا يعجبكِ؟

- أقسم لكِ أنني لم أنتبه للأمر... هل يعجبني؟ لستُ أدري، فأنا أراه زميلاً وليس أكثر... هل أنتِ متأكّدة من الذي تقولينه؟

- أجل... هو الذي طلب مني أن أكلّمكِ بعدما سئم من تجاهلكِ له... المسكين يريد أن يعرف إن كنتِ تباديلينه الإعجاب أم لا... ماذا تريدينني أن أقول له؟

كان جوابي واضحاً كفاية ليكفّ سامر عن الأمل بأن نكون سويّاً. ولكنّه لم يستسلم ومغازلته لي زادت وبدأتُ أعتاد على هذا الإنتباه من جانبه وأراه لطيفاً، حتى أن قبلتُ أخيراً أن أخرج معه لتناول الغذاء أثناء إستراحتنا، على شرط أن يكون هذا موعداً وديّاً فقط. وعدني سامر بأنّه سيكتفي بذلك بالوقت الحاضر وذهبنا إلى مطعم صغير لايبعد الكثير عن الشركة، لكي لا نضيّع الوقت في الطريق. وهناك بدأ زميلي يروي لي قصّة حياته، فعلمتُ أنّه كافح كثيراً للتغلّب على حالته الإجتماعيّة وأنّه كان يذهب إلى مدرسة ليليّة لمتابعة علمه وتأمين مستقبل مريح لنفسه وللعائلة التي يريد تأسيسها. أُعجبتُ بهذا العناد البنّاء ورأيتُ الإنسان فيه. أمضينا وقتاً ممتعاً وعدنا إلى العمل. كنتُ سعيدة آنذاك وبدأتُ أنسى كمال شيئاً فشيئاً، متأمّلة بغد جميل مع سامر. وحين طلب مني أن نتزوّج، قلتُ له:

- لديّ إبن وأنتَ على علم بذلك... أحبّه كثيراً ولن أفعل شيئاً يسيء إلى شعوره أو يسبّب له التعاسة... عليكَ كسب ودّه وموافقته أوّلا ومن ثمّ نتزوّج...

وافقني سامر الرأي وجاء بعد يومين ليزورنا في البيت. جاء ومعه ألعاباً عديدة لإبني الذي سرّ جداً بها وقضينا السهرة نلعب سويّاً. وبعد أن رحل سامر، سألتُ توفيق عنه، فقال أنّ ذلك الرجل لطيف وأنّه يحبّ أن يراه مجدداً. لذا بدأتُ آخذ إبني معي عندما كنتُ أخرج مع حبيبي أثناء فرصة نهاية الأسبوع، لكي يعتادان على وجود بعضهما وكلّ شيء سار حسب ما تمنيّته، أي أنّهما أصبحا أعزّ الأصدقاء. ومن بعدها حددنا موعد الزفاف وإنتقلتُ مع ولدي للعيش في منزل زوجي الجديد، تاركة ورائي ذكرياتي الأليمة المتعلّقة بموت كمال المفجع. وبدأتُ حياتي مع رجل طيّب وعادل أحاطني بالحنان وشعرتُ أنّ القدر عوّض لي عن خسارتي وأعطاني فرصة ثانية. وكان سامر يأخذ توفيق لقضاء النهار سويّاً قرب البحر، حيث علّمه أن يصطاد السمك ويذهبان لتسلّق الجبال. كنتُ سعيدة لرؤية هذا التناغم بينهما. ومرّت الأيّام بهدوء حتّى أن لاحظتُ تغيّراً بتصرّف توفيق. فمن الولد الهادئ والخلوق، أصبح يضرب رفاقه في المدرسة ويشتمهم وطلبَت المديرة أن تراني وتخبرني بالذي يجري. قلتُ لها:

- أنا جدّ آسفة لتصرّف توفيق وأعدكِ بأن أعالج الأمر ولكن عليكم الأخذ بالإعتبار بأنّه فقد أباه ومن ثمّ أصبح له زوج أمّ وذلك يؤثّر حتماً عليه رغم علاقته الطيّبة بزوجي الجديد... إنّها مسألة تأقلم وأعدكِ بأنّها لن تطول... علينا العمل سويّاً لمساعدته على إجتياز هذه الفترة... هذا ولدي وأنا أعرفه جيّداً... إنّه طيّب ومحبّ.

وفي المساء، أخذتُ توفيق جانباً وسألته لماذا يتصرّف بعدائية تجاه رفاقه ولكنّه لم يجب وفضّل البقاء صامتاً. عانقته بقوّة ووعدته بأنّ حبّي له لن يتغيّر أو يتأثّر بشيء، فهو إبني وحياتي كلّها. ولكن الوضع بدأ يتصاعد بشكل ملحوظ، لدرجة أنّ إدارة المدرسة أحالته إلى المعالج النفسيّ الخاص بها لمعرفة سبب غضبه الذي بات يؤثّر على جوّ الصف. عندها أطلعتُ سامر على ما يجري على أمل أن يساعدني على فهم الذي يجري. وطمأنني زوجي مؤكّداً أنّ الصبيان هم هكذا وأنّ إبني يعبّر على طريقته عن بداية رجولته وأنّه هو أيضاً كان هكذا عندما كان صغيراً. ولكنّ المعالج النفسيّ لم يكن من هذا الرأي، فبعد أن طلب أن يراني، قال لي حين جلستُ في مكتبه:

- سيّدتي... علمتُ من المديرة ومن ثمّ من توفيق أنّكِ تزوّجتِ مجدداً بعد وفاة زوجكِ الأوّل...

- نعم... هذا صحيح

- وكيف تصفين علاقة زوجكِ الثاني مع إبنكِ؟

- أظنّ أنّها عظيمة... يقضيان أوقاتاً كثيرة معاً وتوفيق يكون جدّ مرتاحاً ومسالماً معه... لماذا تسأل؟

- ولم يفاتحكِ توفيق بشيء بما يخصّ زوجكِ؟

- أبداً... للحقيقة لم يقل شيئ بتاتاً... لماذا؟

- لأنّه إتّضح لي أنّ ولدكِ معنّف.

- ماذا؟؟؟ ما هذا الهراء؟ إنّه مدلّل ولا أرفض له طلب! أنا لا أقبل هذا الكلام!

- معنّف من قبل زوجكِ الجديد...

- مستحيل هذا! إنّه رجل لطيف وحنون ويعامل توفيق بصبر وتفاني... أقسم لكَ... لا بدّ أنّ إبني يكذب للفت الإنتباه!

- سيّدتي... إهدأي قليلاً... أنا أخصّائي وأرى هكذا حالات بين التلاميذ والولد لا يكذب، بل هذا هو الواقع... نحن هنا لإيجاد تفسير لتصرّفات توفيق ومساعدته... إبنكِ ضحيّة تعنيف جسديّ ومعنويّ من قبل زوجكِ... عليكِ تقبّل الحقيقة.

- ولكنني لم ألاحظ شيئاً! هل هذا يعني أنني أمّ سيئة؟

- أبداً... أنتِ لستِ أمّا سيئة، بل زوجكِ معنّف خبيث يعمل جهده لكي لا تظهر آثار التعنيف ويقوم بتهديد توفيق.

- ماذا تعني؟

- يقول له أنّه إذا لم يطعه سيترككِ وسيسبّب هذا لكِ تعاسة شديدة.

- يا إلهي! ولماذا يفعل زوجي كل هذا؟

- السبب قد يعود إلى عقد نفسيّة وإنزعاجه من إبنكِ، فمن المؤكّد أنّه يعتبره ثقلاً لا يريد حمله، خاصة أنّه ولد رجل آخر.

وطلب من توفيق أن يأتي إلى مكتبه وأخبرني ولدي كل شيء. فأخذته بين ذراعيّ وطلبتُ منه أن يسامحني لأنني لم ألاحظ شيئاً ووعدته أنّ لا أحد في العالم سيؤذيه مجدداً. أخذته فوراً إلى منزل أهلي وطلبتُ من زوجي أن يوافيني إلى هناك. وفور وصوله واجهته بالذي علمته. حاول طبعاً أن يكذب ويلقي اللوم على توفيق وعندما رأى أنني أصدّق إبني، إعترف لي أنّه لا يحبّ ولدي وأنّه يعتبره عاقة على زواجنا وأنّ الحل الأنسب هو إرساله إلى مدرسة داخليّّة. صرختُ به:

- إبني مكانه معي وإن كان على أحد الرحيل فهو أنتَ! إئتمنتكَ على أغلى ما لديّ وخنتَ ثقتي... بل مارستَ الرعب على ولد صغير وأذيّته جسديّاً ونفسيّاً من دون أي حسبان لشعوره...

- كنتُ صارماً معه هذا صحيح... ولكنني هكذا تربيّتُ وها أنا في أفضل حال.

- لا... بل هذا هو سبب عنفكَ... لو عاملكَ أهلكَ بحبّ وحنان وتفاهم، لكنتَ أصبحتَ رجلاً عادلاً ومحبّاً... لا أريدكَ في حياتي بعد الآن.

وتطلّقنا وعادت حياتي إلى مجراها، أتفانى لتربية توفيق على أمل ألّا تكون هذه التجربة قد تركت أثراً عليه وألّا يحمل ضغينة لغيره عندما يكبر. تابعه أخصّائي المدرسة لفترة، ثمّ عاد توفيق إلى طبعه السابق ونتائجه الممتازة في الصف. حاول أهلي إلقاء اللوم عليّ فيما حدث، قائلين أنني مذنبة لأنني تزوّجتُ مجدداً، فأجبتهم أنّ الرجل الذي إخترته لم يكن مناسباً لأنّه كان لديه مشاكل نفسيّة وأنني لا أزال أنتظر الذي سيخطف قلبي من جديد ويحبّ إبني كما لو كان إبنه، لنكون سويّاً عائلة سعيدة.

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button