لما جنت امي؟

البعض قال عن أمّي أنّها مجنونة والبعض الآخر أنّها معدومة الأخلاق. أمّا أنا، فلَزِمَني سنيناً كثيرة لأفهم سبب تصرّفات التي أنجبَتني. كل شيء بدأ عندما تعرّفَت أمّي إلى والدي وأحبّا بعضهما كثيراً لدرجة أنّهما قرّرا الهرب سويّاً بعدما رفضَ والدها أن تأخذ رجلاً لا مال ولا مستقبل له. وهكذا فرّ الحبيبان ليسكنا شقّة صغيرة جداً في حيّ متواضع وبعد أن مرّ عليهما شهر العسل وجدا نفسهما وسط واقعاً مريراً: الحبّ وحده لا يطعم المرء. وبما أنّ والديّ كانا قد تركا المدرسة ليتزوّجا، بقيّ عليهما إيجاد مورد رزق، فعمِلت أمّي في مطعم صغير وأبي في كاليري للمفروشات يحمّل على ظهره أثاث بيوت الأغنياء.
وبعد فترة قصيرة، علِمَت والدتي أنّها حامل بي وتلبّكَت لأنَ أبي إستاء جداً للخبر. حاولا إيجاد مَن يساعدهما على إسقاطي ولكنّهما لم يجدا أحد. لذا صبِرا حتى أولَد على أمل أن تتحسّن الأوضاع. ولكن مع مجيئي إزدادَت المصاريف والمسؤوليّات، ففضّلَ أبي أن ينسحب مِن ذلك المشروع الفاشل وفي ذات نهار ذهبَ إلى العمل ولم يعد. وبالطبع لم تستوعب والدتي أنّ زوجها رحلَ من دون رجعة، فظنّت أنّه وقعَ ضحيّة حادث ما وبعد أن بحثَت عنه في المستشفيات وأيّ مكان قد يكون فيه، علِمت أنّه رجعَ إلى بيت أهله وغادرَ مِن بعدها البلاد إلى جهّة مجهولة.
وأصبحنا لوحدنا نحن الإثنتين ولم يساعدنا أحد، بل تخلّى الجميع عنّا وكأنّنا غير موجودتين. ولِحسن حظّنا أنّ سلمى جارتنا قبِلَت أن تهتمّ بي أثناء تواجد أمّي في عملها وهكذا كبرتُ. ولكنّ والدتي لم تعد كما كانت قبل رحيل أبي، فباتَت عصبيّة لا تتحمّل الضجّة ويصيبها صداع حاد تقفل خلاله جميع الستائر وتخلد إلى النوم حتى يزول. وكان ممنوع عليّ أن أصدر أيّ صوت أو المطالبة بشيء، فتعوّدتُ أن ألعب بِصمت لوحدي. وبدأت أمّي تحتسي الكحول ربّما لنسيان حالتها وللتغلّب على صداعها حتى أن أوشكَت أن تُطرد مِن المطعم لولا تدخّل زملائها لدى صاحب العمل الذي أعطاها فرصة ثانية للتخلّص مِن المشروب، على الأقل خلال ساعات العمل. ومِن بعدها بدأت والدتي تتصرّف بغرابة وخاصة بما يتعلّق بإبراز محاسنها للعلن.
كنّا في موسم الصيف وقرّرَت فجأة أن تصعد إلى سطح المبنى لتتشمّس وأخذَت معها منشفتها وزيت البحر ولكن بعد حوالي الساعة على صعودها، سمعتُ صراخاً وضجيجاً وأصوات أقدام على السلالم. فتحتُ الباب ورأيتُ الجيران يركضون إلى السطح، فلحقتُهم لأنّني ظننتُ أنّ مكروهاً قد حصل، فإذ بي أرى مشهداً غريباً: أمّي عارية تماماً على منشفتها وإحدى الجارات تحاول تغطيتها بشرشف جاءت به مِن منزلها عندما وجدَت والدتي هكذا. وكان الجميع يصرخ لأمّي لكي ترتدي شيئاً، أمّا هي فكانت رافضة للفكرة وتقول:

- ما دخلكم بي؟ أنا أتشمّس!

عندها ركضتُ إليها وأقنعتُها بالعودة إلى المنزل بحجّة أنّني جائعة وأريدها أن تحضّر لي الطعام. لبسَت فستانها ولحقَتني وسط أصوات السكّان. ولأنّني كنتُ لا أزال في السادسة مِن عمري، لم يكن بإستطاعتي السيطرة على الوضع، خاصة أنّ أمّي بدأت تخرج مِن المنزل بثياب شفّافة ومِن دون ثياباً داخليّة تحتها. وهذا الأمر جلبَ لها المتاعب الكثيرة، خاصة مِن زملائها في المطعم ومِن الزبائن الذين ظنّوا أنّ المرأة تبحث عن رجل ولكنّ الأمر كان مختلفاً تماماً، فهي لم تعاشر أحداً بعد رحيل أبي ولم يكن بِنيّتها أن تفعل على الأقل هذا ما ظننتُه. ولكن في عقلها الباطني كانت تثبتُ لنفسها وللعالم أنّها إمرأة جذّابة، يشتهيها الكثير وكان هذا نابعاً عن شعورها بأنّها فقدَت هويّتها كأنثى.
وطُرِدت والدتي مِن عملها، لأنّها أعطَت طابعاً غير لائقاً للمكان ووجدَت نفسها قابعة في البيت لوحدها، خاصة عندما كنتُ أتواجد في المدرسة. فرجعَت إلى إحتساء الكحول وإبراز محاسنها عبر وقوفها شبه عارية على الشرفة. ولم يعد يتحملّها الجيران، خاصة النساء لأنهنّ خفنَ على رجالهنّ، فوقّعوا عريضة لإخلائنا مِن المبنى. ولولا وقوف جارتنا العزيزة سلمى معنا، لأصبحنا في الشارع. وبعد بضعة أيّام رأيتُ رجلاً يحمل حقيبة صغيرة آتياً لزيارتنا وبعد أن إختلى قليلاً مع أمّي خرج مِن الغرفة ووصف لها المهدّئات. و منذ ذلك الحين باتَت أمّي كالرجل الآلي، تقوم بأقلّ الأشياء تعقيداً وتعود إلى النوم. كنتُ أنظر إليها بأسف ولكنّني كنتُ سعيدة أنّها لم تعد تتمشّى عارية أمام الناس.
شرحَت لي الجارة، أنّ الطبيب قال أنّ الحل الوحيد هو أن تذهب أمّي إلى مؤسسة تُعنى بالأمراض النفسيّة وسألَتني إن كنتُ أقبل أن أمكث معها حتى تتعافى. قبلتُ فوراً لأنّني كنتُ أحبّ تلك المرأة الطيّبة التي لم تُرزق أطفالاً وتعيش وحدها بعد وفاة زوجها. كانت تعاملني وكأنني فعلاً إبنتها والأهمّ مِن ذلك، كانت تتحلّى بتوازن نفسي طبيعي. بكيتُ عندما جاؤوا ليأخذوا أمّي ولكنّني نسيتُ حزني عندما تذوقّتُ قالب الحلوى الذي حضّرته لي سلمى. ومضّت الأيّام هكذا حتى أنّني إعتقدتُ أنّ أمّي هي سلمى والتي في مستشفى الأمراض العقليّة هي قريبة لي فقط. في أوّل فترة كانت سلمى تأخذني لزيارة والدتي ولكنّ حالتها ساءت وكان مِن الأفضل ألّا أراها وهي فاقدة عقلها. وبعد حوالي الخمس سنوات عاد أبي وطلبَ أن يراني. نظرتُ إلى ذلك الرجل الغريب الذي لا أتذكّره أبداً وركضتُ أختبئ في أحضان التي ربتّني. هي الأخرى كانت خائفة مِن مجيئه المفاجئ ومِن أن يأخذني منها، فسألَته عمّا يريد فأجاب:

- أعلم أنّ مجيئي الآن بعد كل هذه السنوات قد يبدو غريباً ولكنّ الوقت جعلَ منّي إنساناً أكثر نضوجاً وقررتُ أن أتحمّل مسؤولياتي كأب.

- ولكنّ البنت لا تعرفكَ... وأنا أيضاً أجهل مَن تكون فعلاً... أعني إن كنتَ ستعتني بها جيّداً أم لا... أنتَ رجل ولن تستطيع الإهتمام بفتاة صغيرة...

- لا تخافي فأنا تزوّجتُ مجدّداً وزوجتي ستقوم بتلك المهمّة.

عندما قال هذا شعرتُ بيد سلمى تشدّ عليّ بقوّة وكأنّها لا تريد إفلاتي ولكنّها رضخَت للأمر الواقع، لأنّها لم يكن لديها أي صفة قانونيّة. فقامَت وحضّرَت أمتعتي وأعطتَني حقيبتي وودّعَتني وهي تبكي بحرارة. أخذَني أبي إلى منزله وهناك تعرّفتُ إلى زوجته التي كانت تنتظرني والبسمة على وجهها. تعرّفت ُ أيضاً على إخوتي الصغار. وظننتُ أنّني سأكون سعيدة بينهم جميعاً. ولكنّني كنتُ أفتقد لحنان وحبّ "ماما سلمى" وأصبحتُ غارقة في حزن عميق رغم كل محاولات عائلتي الجديدة للتمويه عنّي. ثمّ إمتنعتُ عن الطعام وخفّ وزني بشكل مخيف وبعد أن فحصَني الطبيب قال لهم:

- هذه الفتاة مصابة بالكآبة... مِن الأفضل أن تعود إلى مسكنها القديم وإلّا فقدتموها...

وهكذا أخذَني والدي إلى سلمى التي إستقبلَتني بأذرع مفتوحة ووعدَني أن يزورني دائماً وأن يأخذني إلى منزله لقضاء فرص نهاية الأسبوع. وهكذا حصل. ولكن بعد بضعة سنوات أخبروني أنّ أمّي قد قتلَت نفسها بواسطة الحبوب وحزنتُ على هذه المرأة التي عاشت حياة تعيسة أوصلتها إلى الجنون. والآن أنا أمّ لِولدين وكلّما شعرتُ بِصداع أسأل نفسي إن كنتُ قد ورثتُ مرض أمّي.

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button