لم يمُت طفلي

مِن كل القصص التي يمكنها أن تُروى أو تُكتب، أظنّ أنّ قصّتي هي الأكثر حزناً ومأساةً، لأنّها عن ولَدي الذي أبحث عنه منذ ما خرجَ مِن رحمي. والسبب في ذلك يعود إلى حماتي التي خطَّطَت يوم بعد يوم على إيذائي.

بدأ كل شيء عندما أخذَني رامي إليها لكي تتعرّف عليّ بعدما وقَعنا في الحب وفكرّنا في الزواج. نَظَرَت إليّ بإشمئزاز وقالَت له أمامي:

 

ـ ما هذه؟

 

ـ ماما... هذه سميرة ونحبّ بعضنا... هي فتاة حسنة الأخلاق...

 

ـ لونها داكن!

 

إحمرَّ وجهي وتلبّكتُ وهمستُ لرامي:

 

ـ هيّا بنا نرحل.

 

ولكنَّه أخذَ يدي وقال لي:

 

ـ لا! لستُ ولداً صغيراً ولا تخيفني أمّي!

 

ثم إستدار نحوها وقال:

 

ـ ماما... أعرّفكِ على سميرة المرأة التي ستصبح كنّتكِ قريباً.

 

ومِن كثرة غضبها قامَت مِن مكانها ودخَلت غرفتها وبقيَت هناك. وطمأنَني قائلاً:

 

ـ سترضى... هي هكذا... سترين... ستصبحِنَ أعزّ الصديقات.

 

ومع مرور الوقت إعتادَت سارة عليّ وعلى فكرة زواجنا وأصبحَت أقلّ فظاظة معي ولكنّها لم تقدر على حبّي. ورغم محاولاتي العديدة لإستمالتها لي لم أستطع الدخول إلى قلبها الذي كان حتماً مِن حَجَر. وأقامَ لنا حمايَ زفافاً كبيراً وسافرنا إلى الخارج لِقضاء شهر العسل وبعد عودتنا إستقرّينا في شقّة صغيرة لنعيش حبّنا على سجيّتنا.

ومرَّت أشهر ومِن ثم سنة وحمِلتُ مِن رامي وفرحتنا كانت كبيرة جداً لأنّ ذلك الطفل كان ثمرة عشقاً عميقاً. ولكن بعد أقل مِن شهر على معرفتنا بالخبر السار, إنقلَبَ القدر علينا وقضى رامي بحادث سيّارة مروّع. لن أقدر أن أوصف ما شعرتُ به عندما وصلَني خبر وفاته. خلتُ أنّ قلبي سيتوقّف ونفَسَي سينقطع وأُغميَ عليّ. ولحسن حظّي كانت صديقتي برفقتي وإلاّ وقعتُ أرضاً وأذيتُ جنيني. وأوصاني الطبيب بأن أنام طيلة فترة حَمَلي إن كنتُ أريد أن يعيش ولّدي وفعلتُ كما أرادَ لأنّ هذا الجنين كان كل ما تبقىّ لي مِن رامي.

 


ولكنّ حماتي أرادَت أن أذهب وأعيش معها ومع زوجها لكي لا أبقى لِوحدي بعدما إفترقا والدَيّ وذهبَ كل منهما في طريقه. وقبلتُ عرضها لأنّني كنتُ بحاجة لِمَن يهتمّ بي فصديقتي الوحيدة كانت تعمل ساعات طويلة ولم يكن لديها الوقت لمساعدتي. وهكذا إنتقلتُ إلى بيتهما لأصبح تحت سلطتهما التامّة. ولكن إستبداد سارة لي لم يكن ظاهراً للعيان فكل مَن أتى لزيارتهما هنّأني على هكذا حماة لأنّها كانت اللطافة بحدّ ذاتها على الأقل أمام الغُرب ولكن عندما كنّا لوحدنا كانت تهزأ بي طوال الوقت وتتأسّف لأنّني لم أمُت بدلاً عن إبنها الوحيد. وإستحملتُ الملاحظات البشعة مثل:" أُطعمُكِ مِن أجل الجنين فقط" أو "أرجو مِن الله ألاّ يكون الجنين مثلكِ بل مثل أبيه" أو أيضاً "كيف أحبَّكِ إبني؟ أنا متأكدّة أنّكِ إستعملتِ السحر معه". وبالرغم من كل ذلك سكتُّ لأنّني لم أكن أريد سوى شيئاً وهو رؤية إبني والنظر في عينيه لربما أرى رامي فيهما.

ومرَّت الأشهر كلّها وحان الوقت وبدل أن يأخذان إلى المستشفى أتَيا لي بِداية إلى المنزل. عارضتُ كثيراً هذا القرار لأنّني خفتُ على نفسي وعلى ولدي ولكنّ صوتي بقيَ بلا صدى. وبدأت القابلة بإعطائي التعليمات اللازمة وسمعتُ صراخ إبني ولكن ولِشدة الألم أُغميَ عليّ. وعندما إستَفقتُ كان كلّ شيء قد إنتهى ولم أعد أشعر إلاّ بالشوق لأضمّ إبني إلى صدري. وحين سألتُ عنه قالَت لي سارة:

 

ـ لم يَنجَ... ولِدَ ميتّاً

 

ـ كيف ذلك؟ سمعتُ صوته!

 

ـ كنتِ تهلوسين... هذا يحصل في هكذا ظروف.

 

ـ أين هو؟ أريد أن أراه!

 

ـ أخذَته الداية لتدفنه.

 

ـ لا!!!

 

وحاولتُ النهوض ولكنّني لم أستطع لكثرة ضُعفي، فبكيتُ بمرارة لأنّني لن أرَ إبن رامي أبداً. وفي اليوم التالي جاءت حماتي ووقفَت أمام سريري وقالت لي:

 

ـ لم يعد هناك حاجة لبقائكِ هنا.

 

ـ أتطرُدينَني؟

 

ـ أجل... إبني مات وكذلك إبنه... أنتِ لستِ منّا فلماذا أستَبقيكِ؟

 

ـ معكِ حق... وأنا لا أريد المكوث هنا على كل حال... لم تحبّيني يوماً والشعور كان متبادلاً... الوداع.

 

وأخذتُ أمتعتي وخرجتُ مِن المنزل دون أن يودّعني أحد. رماني كغَرَض إستُهلكَ ونفذَت مدّته. ولكن حزني على ولدي كان أكبر مِن غضبي وحين وصلتُ بيت صديقتي وأخبرتُها ما حصل بكينا سويّاً وإرتحتُ بعض الشيء. وفي الصباح عندما كنّا نتناول الفطور قالَت لي:

 


ـ أريد أن أقول لكِ شيئاً ولكن لا تأخذيه على محمل الجدّ...

 

ـ ما الأمر؟

 

ـ إنّه شعور فقط... أظنّ أنّ إبنكِ ما زال حيّاً.

 

ـ ماذا؟ هل تعرفين شيئاً عن الموضوع؟؟؟

 

ـ قلتُ لكِ أنّه شعور فقط... ولكن ما أعرفه عن سارة وعن كرهها لكِ يوحي لي أنّها كذِبَت عليكِ... لماذا أتَت لكِ بداية بدل أن تأخذكِ إلى المستشفى؟ وتقولين أنّكِ سمعتِ صراخه...

 

ـ أجل... وأنا متأكدّة مِن ذلك... ولكن... أين هو الأن؟

 

ـ قلتِ أنّ القابلة أخذَته... علينا إيجاد تلك المرأة إذاً

 

ولم يكن الأمر سهلاً لأنّني لم أكن أعرف شيئاً عنها سوى إسمها الأوّل وهو يُمنى لأنّني سمعتُ سارة تناديها هكذا. وبدأ البحث عن داية تحمل إسم يُمنى. سألنا كل الناس عنها وذهبنا إلى المستشفيات والعيادات النسائية حتى أن وجدناها. كانت تسكن يُمنى في حيّ ضيّق ومظلم وحين قرعنا بابها وفتحَت لنا ورأتني صرَخت مِن الخوف. عندها قلتُ لها بِلهجة لا تقبل الجدل:

 

ـ أين أبني؟ أين أخذتيه؟

 

ـ أنا لا...

 

ـ سأرميكِ في السجن حتى آخر أيّامكِ! لن أرحمكِ يا سارقة الأطفال!

 

ـ السيّدة طلَبت منّي ذلك...


ـ أين أبني؟!؟

 

ـ ليس معي ولا أعرف مكانه... أخذتُه إلى سيّارة السيّد ووضعتُه على المقعد الخلفي كما طُلبَ منّي ومِن بعدها عدتُ إلى هنا... أقسم لكِ أنّني أقول الحقيقة... أرجوكِ لا تؤذيني فلديّ عائلة...

 

ـ وأنا؟ ألا يحقّ لي أن يكون لي عائلة أيضاً؟ أنا ذاهبة الآن وإن لم أعثر على ولدي سأرجع إليكِ مع الشرطة!

 

ورحلنا وقلبنا حزين فمواجهة سارة لم تكن سهلة ولكن ضروريّة. وتوجّهنا إلى منزل أهل زوجي ولكن كل شيء كان مظلماً وكأن سكّانه كانا قد هجراه. قرعنا الجرس بإلحاح ومِن ثمّ بدأنا نخبط الباب ونركله ولكن مِن دون جدوى لأنّ المنزل كان فارغاً. سألتُ الجارة عن مكان حمويّ وقالَت لنا أنّهما رحلا في الصباح الباكر ومعهما طفلاً رضيعاً ولكنّها لا تعرف إلى أين.

عند سماع ذلك جلستُ على الأرض أبكي. أخذَتني صديقتي بِيدي وقادّتني إلى مركز الشرطة حيث أخذوا أقوالي ووعدوني بِمتابعة قضيّتي. وإستُدعيَت القابلة وأخبرَتهم بالذي فعلّته ولكنَ ذلك لم يساعدهم كثيراً لأنّ المطلوبان كانا قد إختفيا كليّاً. ورجّحَت الشرطة أنّهما غادرا البلاد. ومنذ ذلك اليوم أقصد الشرطة أسبوعيّاً لأرى إن كان لديهم أيّ جديد. ولقد مضَت ثلاث سنوات على فقدان إبني ولا أزال أتأمّل أن أجدُه. وأصبَحَ ذلك هدفي الوحيد في الحياة ولن أيأس أو أستسلم حتى أن أضمّه إلى صدري وأنظرَ في عينيه.   

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button