لم يكن أبي يطعمنا كفاية

يظنّ البعض أنّ البخل، شيء مضحك أو بسيط، ولكنّه أمر خطير يمكن أن يؤثّر على حياة بكاملها. قصّتي هي قصّة بخل أبي وذيوله عليّ وعلى مستقبلي. كان لي أخت وأخ، كلاهما أكبر منّي سنّاً وولدنا وكبرنا في بيت بعيد كل البعد عن الكرم والراحة. أمّي كانت الضحيّة الصامتة، التي لم تقدر إقناع زوجها بأنّ صرف بعض المال ليس بجريمة، بل حاجة أساسيّة للعيش بكرامة.
وعندنا في المنزل، لم يكن مسموحاً أن نتناول أكثر مِن وجبة طعام واحدة في اليوم، ناهيك طبعاً عن عدم السماح لنا بشراء الملابس أو الأحذية الجديدة، إلّا بعدما تكون قد تقطّعَت تماماً.
لم يكن يهمّني اللباس، بل كل ما كنتُ أتمنّاه، كان أن آكل وأشبع وهذا طبعاً لم يكن ممكناً. ولأنّني لم أحظى سوى بوجبة واحدة، إخترتُ وجبة المساء لأنام ومعدتي مليئة وأصحى بنشاط للذهاب إلى المدرسة، حيث وجدتُ وسيلة لأحصل على شيء آكله، لأنّه كانت لديّ موهبة وهي التزوير، إكتشفتها في صغري حين أخذت وبسبب الضجر أقلّد إمضاء أبي ورأيتُ أنّ النتيجة كانت أكثر مِن مرضية. ولكنّني لم أتصوّر يوماً أنّني سأجني المال مِن هذه الموهبة وبدأتُ أعرض على رفاقي تزوير إمضاءات أهلهم على بيان العلامات أو المرسلات مع الأساتذة وذلك مقابل الطعام. وهكذا كنتُ أحصل على ما يكفيني للحفاظ على صحّتي، على عكس باقي أفراد عائلتي الذين بقوا نحيفين جداً ويمرضون بإستمرار.
المشكلة كانت أنّنا لم نكن فقراء ولو كان هذا وضعنا لما ثرتُ عليه، بل تقبّلتُه وعملتُ على تصحيحه ولكنّها كانت مسألة بخل شديد ولم أكن أستطيع فعل أيّ شيء حيال هذا، إلّا إيجاد طريقة ولو ملتوية لإشباع أبسط الحاجات. وبدأتُ أبدع في فنّي الغير شرعي، حتى أصبحتُ قادراً على نسخ أيّ إمضاء أو نص خاصة بعد أن إنتشر إستعمال الحاسوب ولاحقاً الإنترنيت. 
ولكن حالتي الجسدية الممتازة لم تغب عن إنتباه والدتي التي سألتني كيف أحصل على الطعام كوني لا أعمل بعد. وبعد تحقيق دام أيّام طويلة، إعترفتُ لها بالحقيقة. تفاجأَت كثيراً وأخذَت تؤنّبني على ما كنتُ أفعله، لأنّها لم تنشئني هكذا ولكنّني أجبتُها:

- ما كنتُ لأفعل هذا لولا بخل زوجك!

 

- لا تتكلّم هكذا عن أبيك!

 

- لِم لا؟ إنّه بخيل لا يصرف على عائلته، بل يجوّعها ولا أفهم كيف رضيتِ بهكذا زوج وسمحتِ له أن يعاملكِ ويعاملنا هكذا... سكوتكِ عمّا يحصل يجعل منكِ شريكته... أين محبّتكِ لنا؟

 

- أخاف منه... أنتم لا تعرفونه كما أعرفه أنا... عندما يغضب يصبح مخيفاً... لذا أفضّل السكوت... ولكن هذا ليس عذراً لكي تقوم بما هو غير شرعي... التزوير يعاقب عليه القانون وأخشى أن تتخطّى حدود المدرسة وتفعل هذا على صعيد أوسع...

 

- هذا لن يحصل... كل ما أريده هو أن آكل شبعتي... لسنا فقراء وهذا يغضبني كثيراً.

 

ولكنّ أمّي لم تكن مطمئنّة على أفعالي وعندما أوشكتُ على دخول الجامعة قرّرَت أنّ عليّ السفر إلى فرنسا عند إبنة خالتها لكي لا أعود بحاجة إلى مقايضة طعامي بالتزوير. وبالطبع عارضَ أبي هذا القرار فقط كي لا يدفع تكاليف السفر، متحجّجاً بأنّني أستطيع دخول جامعة مجانيّة هنا في البلد كما حصل لأخي وأختي. عندها أجابته والدتي أنّه لن يدفع قرشاً واحداً لأنّ قريبتها ستتكفّل بكل شيء لأنّه ليس لديها أطفالاً وستأخذني تحت رعايتها وتؤمّن لي كل شيء. فقبِلَ أن أرحل وبعد أن حضّرتُ أمتعتي وودّعتُ إخوَتي وأمّي قلتُ لأبي:

- أنا راحل وأسفي الوحيد هو ترك الذين أحبّوني وعانوا معي... منكَ.

 

- منّي؟

 

- أجل... أنتَ رجل بخيل وأناني... جوّعتَ عائلتكَ دون أي أسف أو تردّد... لن تأخذ مالكَ معك عندما تموت بل سيأكلكَ الإهتراء والديدان ستنهش جسدكَ... أنا ذاهب إلى مكان بعيد ولن أعود إلّا بعدما ترحل عن هذه الدنيا... الوداع.


فوجئ أبي مِن قساوة حديثي، فهو لم يكن معتاداً على أن ينتقده أحد ولكنّه لم يجاوب، ربّما لأنّني كنتُ على حق.
وصلتُ إلى فرنسا مع أمتعتي وآمالي وإستقبلَتني قربيتنا بأذرع مفتوحة وأعطَتني غرفة جميلة في منزلها الكبير وأدخلَتني جامعة مشهورة لأدرس الحقوق. وإكتشفتُ بفضلها الرخاء والكرم والحياة السهلة والمسهّلة وشكرتُ ربّي على هذه الفرصة التي أعطَت لمستقبلي منحى مخالفاً لما كان مقدّراً.
ولكن رغم حياتي الجديدة، بقيَ عندي حبّ لما أسميتُها "موهبتي" وبدأتُ أعرض خدماتي على رفاقي مقابل مبالغ من المال لتزوير كل ما يريدونه حتى لو كانت أشياء لا تتعلّق بالدرس. وإشتهرتُ بسبب مهارتي وباتت الناس تأتي إليّ مِن مختلف الجامعات.
وبالرغم أنّني كنتُ أدرس القانون وأعلم أنّ ما أفعله كان غير قانونيّاً، بقيتُ أمارس نشاطي ببال مطمئنّ، لأنّني تعلّمتُ أيضاً السبل العديدة لتفادي الوقوع في شباك العدالة. بقيتُ على إتّصال مع إخوتي وأمّي وعلمتُ أنّ شقيقتي تزوّجت وأخي خطبَ زميلته في العمل وأنّ أمّي بقيَت لوحدها مع والدي.

 

عرضتُ عليها أن تتركه وتأتي إلى فرنسا لتعيش في البيت الكبير ولكنّها رفضَت قائلة:

- أتعلم شيئاً؟ رغم كل ما فعله بنا فأنا أحبّه... ولا أستطيع العيش مِن دونه ولا هو يستطيع ذلك أيضاً... إنّها قصّة حبّ غريبة ولكن

حقيقيّة... سامحني حبيبي لأنّني لم أستطع أن أجعل منه إنساناً كريماً وطيّباً ولكنّ الناس نادراً ما يتغيّرون.

 

وكانت على حق، لأنّني لم أتغيّر أيضاً، فمنذ صغري، كنتُ مزوّراً ورغم الرخاء الذي أصبحتُ أعيش به، لم أتخلّى عن ميولي إلى الغشّ ولم أعد أعلم إن كان التزوير قد بدأ مِن حاجتي إلى تأمين طعامي فقط، أم كان أمراً محتوماً عليّ. ولكنّني لم أُتعبَ نفسي في التفكير في تلك المعضلة، بل أخذتُ أحسّن أيدائي يوماً بعد يوم، حتى أن أصبحتُ مرجعاً في التزوير مقصوداً مِن كل مَن أراد تفادي ضرائب أو مستحصلات أو شيكات أو حتى بطاقات هويّة.
وبدأتُ أجني مبالغ من المال لم أحلم بها وعندما تخرّجتُ من الجامعة، كان لديّ حساب في المصرف وسيّارة جميلة. ومِن بعدها أخذتُ مكتباً في مبنى أنيق وأسّستُ مقرّ عملي، الذي كان مفروض أن يكون لِمزاولة المحاماة ولكنّه كان في الواقع مقرّي الجديد لإستقبال المزيد مِن الذين يريدون ولسبب ما تفادي القانون والمحاسبة. ولكن العدالة كان يجب أن تأخذ مجراها يوماً، وبينما كنتُ أظنّ أنّني أذكى من الجميع، كان رجال الأمن يراقبونني سرّاً.
وفي ذات يوم، بينما كنتُ غارقاً في نقل مستنداً لزبون، دخلَت الشرطة مكتبي وتمّ تكبيلي وأخذي إلى القسم حيث حقّقوا معي وأحالوني إلى السجن حتى يحين موعد محاكمتي. في هذه الأثناء طلبتُ محامي كنتُ قد ساعدته على الحصول على شهادة مزوّرة، فجاء يساعدني ومعاً إستطعنا أن نقنع القاضي أنّ ليس هناك مِن أدلّة قاطعة ضدّي، بل فقط شكوك. وتمّ إطلاق سراحي ولكن بعد ذلك عدتُ إلى البلد لأرتاح قليلاً وخصوصاً أنّني علمتُ أنّ أبي قد توفيّ.
وعندما رأيتُ أمّي ودموعها وبعدما عانقتني مطوّلاً، علمتُ أنّ عليّ البقاء معها وبالقرب مِن عائلتي وأنّني لا أستطيع الإستمرار في مهنتي الغير قانونيّة وأنّ لديّ مهنة أخرى شريفة وهي المحاماة. لذا بقيتُ في البلد وبدأتُ مزاولة عملي الحقيقي وذقتُ طعم العمل النظيف والمريح الذي لم يبقيني مستيقظاً في الليل، بل أعطاني دفعاً لكي أستفيق في الصباح للدفاع عن المغلوبين.

 

إشتريتُ لأمّي كل ما تمنَّته نفسها لسنين طويلة، مِن ملابس وأحذية وجزادين وأخذتُها عند مصفّف الشعر وإلى أخصّائيّة التجميل، وقصدنا أفخم المطاعم لكي لا يبقى شيء في نفسها وساعدتُ إخوتي في تسكير ديونهما لِيعلموا أنّ أخاهما الصغير يستطيع الإعتناء بهما وأنّه سيمحي أخيراً كلّ ما فعلَه أبونا بنا. ولكنّني لم أتزوّج يوماً، ربّما لأنّني خفتُ أن أكون أباً سيّئاً رغماً عنّي، لأنّ أبي كان مقتنعاً أنّه لم يقترف أيّ خطأ بحقّنا. لذا إكتفيتُ بالإعتناء بعائلتي وأولاد إخوتي. وبعد التفكير بحياتي كلّها، أستطيع اليوم القول أنّ المرء يمكنه أن يتغيّر وأنّ يصحّح نفسه شرط أن يدرك أخطائه.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button