لم أتصوّر أن ينحط إخوَتي إلى هذا الحد من أجل المال

يقال عادة أنّ كثرة الأولاد بركة، فعندما أنجَبت أمّي خمسة أولاد كنتُ إطمأنّيتُ على مستقبلي خاصة أنّني كنتُ كبيرتهم وتوقّعتُ أن يردّوا لي جزء مِن الذي فعلتُه مِن أجلهم. ولكن بدلاً أن يعتبروني امّهم الثانية، عملوا جهدهم لإبعادي وعزلي وكأنّني لم أكن يوماً فرداً مِن هذه العائلة. صحيح أنّني كنتُ مختلفة عنهم لأنّني لم أكمل دراستي ولم أنَل شهادات عالية مثلهم بسبب زواجي المبكرّ مِن شاب لم يكن بمستوى إسمنا المرموق. وصحيح أنّني لم أسكن منزلاً جميلاً ولم يكن لدّيّ أصدقاء مميّزين ولكن هل يجوز للدّم أن يتحوّل إلى ماء؟

دعوني أبدأ البدء، أي عندما ولدتُ في عائلة ميسورة تمتلك قطعاً عديدة مِن الأراضي وإستثمارات مختلفة وتعتني جدّاً بالصورة التي تعكسها على مجتمعها المخمليّ. وكما قلتُ سابقاً، كنتُ أوّل مولودة لديهم فإستقبلوني بفرح وأعدّوا لي مستقبلاً أرادوه مماثلاً لقواعدهم وأظنّ أنّني كنتُ سأصبح مثل باقي أخواتي وإخوتي لو لم ألتقِ بِعصام شاب متواضع لا طموح له ومكُتفئ بعمله كجندي بسيط. ولكنّني كنتُ لا أزال في الخامسة عشر ووقَعتُ في غرامه كما تفعل الفتيات في هكذا سنّ أي مِن دون أن أفكرّ بمستلزمات الحياة وخلتُ أنّ الحبّ وحده كافٍ لتأمين سعادتي.

أبقَيتُ علاقتي به سرّيّة مدّة سنة بالكامل ومِن ثمّ قرّرتُ أن أخبر والديّ بأنّني أودّ تمضية باقي عمري مع رجل أحلامي. ولكنّهما لم يوافقاني الرأي بعدما سألوني عن عائلته ووظيفته وحاولا إقناعي بالعدول عن مشروعي ولكنّني بقيتُ مصرّة على موقفي. عندها طلبَ منّي أبي أن آتي بالحبيب ليتعرّف عليه شخصيّاً. وهكذا جاء عصام إلى منزلنا حاملاً باقة ورد لأمّي ومرتدياً أفضل ثياب عنده. ولكن الأمور لم تجري كما تصوّرتُها لأنّ والدي قال له وبكل صراحة أنّه غير مرغوب به وأنّ عليه عدم رؤيتي ولو عن بعد لأنّه لم يكن ولن يكون أبداً مِن مستوانا.

عندما سمعتُ ذلك شعرتُ بغضب كبير ولحقتُ بعصام وهو يخرج مِن عندنا:

 

ـ حبيبي... أنا جدّ آسفة... لو علِمتُ أن ذلك سيحصل لما طلبتُ منكَ المجيء...

 

ـ أنا راحل ولن ترَين وجهي مجدّداً... صحيح أنّني لستُ مثلكم ثريّ ولكن لديّ كرامتي... الوداع!

 


وشعرتُ أنّ عالمي ينهار فجأة ولم أتصوّر العيش مِن دونه. لِذا إستطعتُ إقناعه بأن نهرب سويّاً وأن نتزوّج سرّاً. ولأنّه كان هو أيضاً يحبّني، قبِلَ أن يأخذني في ذاك يوم إلى منزل أهله حيث مكثتُ فترة ومِن ثم أصبحتُ زوجته. وفور إختفائي مِن المنزل إستنتجَ ذويّي أنّني ذهبتُ مع الجنديّ وبعد أن تأكدّوا مِن ذلك قرّروا كلّهم أن يعتبروني ميتّة أو حتى أنّني لم أولدَ حتى. الوحيدة التي بكَت على رحيلي كانت الخادمة التي إهتمَّت بي منذ صغري والتي أحبَّتني وكأنّني إبنتها.

ومع أنّني كنتُ مصرّة على إكمال دراستي فلم يكن ذلك ممكناً لأنّني أنجبتُ إبني الأوّل بعد سنة مِن زواجي ومِن ثم الثاني والثالث. وداقت علينا سبل العيش لأنّ راتب عصام لم يكن كافٍ لنا ولأبوَيه، فإضطريّتُ أن أعمل في معمل محارم ورقيّة وتمنيّتُ لو رضيَ عليّ أبي وساعدَني في محنَتي. حاولتُ التقرّب مِن عائلتي عدّة مرّات ولكنّني جوبهتُ برفض قاطع خاصة مِن قِبَل إخوتي الذين كبِروا وبنفسهم إحتقار كبير لي ربّما مِن سماع الكلام السيّئ الذي كان يخرج مِن فَم أبي طوال الوقت. أما أمّي فكانت ترغب في مسامحتي ولكنّها لم تكن تجرؤ على ذلك خوفاً مِن باقي عائلتها. ولكنّها بعثَت لي بعض المال مرّتين فقط مع خادمتنا التي كانت دائماً تحاول الدفاع عنّي وإيقاظ حنانها تجاهي.

وبعد حوالي عشر سنوات توفي والدي وذهبتُ إلى المنزل لأقدّم التعازي لِذويي ولكنّهم لم ينظروا إليّ حتى وتصرّفوا كأنّهم لا يعرفونني. جلستُ قرب والدتي ومسكتُ يدها وقلتُ لها أنّني أحبّها كثيراً وأنّني بقيتُ أحبّ أبي بالرغم مِن كل شيء. عندها أجابَت:"أنتِ أصيلة... لستِ كباقي أولادي الذين لا يحبّون إلاّ المال... يا ليتكِ لم تتركيني... أنا آسفة على إبعادكِ ولكن تعرفين كيف كان والدكِ... ولكنّه رحل الآن ويمكنكِ زيارتنا كما تشائين... ولا تخافي على المستقبل فبعد مماتي ستكون حصّتكِ محفوظة... لا تطلبي شيئاً الآن مِن إرثِ أبيكِ لأنّه كتبَ لي كل أملاكه لأنّه كان يعلم مدى جشاعة أولاده وخافَ أن يرموني فور موته."

قبّلتُ أمّي وعدتُ إلى البيت وقلبي مليء بالفرح لأنّني لم أعد منبوذة. لِذا إنتظرتُ فترة قصيرة ثمّ أخذتُ أولادي وذهبتُ لزيارة أهلي. وفتحَت لي الباب أختي جِنان وعندما رأتنا واقفين أمامها قالت لنا:" أنا آسفة ولكنّنا لا نعطي حسنات." وكنتُ على وشَك الرحيل عندما سمعتُ صوت أمّي تقول لها:"كفّي عن الثرثرة ودعيهم يدخلوا... أريد أن أرى إبنتي وأحفادي". ولأنّ أمّي كانت صاحبة الثروة إمتثَلَت أختي لأوامرها وإلاّ أنا متأكّدة أنّها كانت رَمتنا خارجاً.

 


وهكذا بدأتُ آخذ عائلتي كل أسبوع لنجلس مع والدتي ونسترجع الوقت الذي فاتنا كلّ تلك السنين. ولكن ما مِن مرّة حاول أيّ مِن إخوتي أو أخواتي الجلوس معنا أو حتى رؤيتنا. ولكنّني لم أكن آبه لذلك فكل ما كان يهمّني هو عاطفة أمّي وحنانها.

ولكن بعد حوالي الخمس سنوات أصيبَت أمّي بوَرَم خبيث ورغم العلاجات العديدة التي خضعَت لها لم تتحسَن حالتها بل العكس وأذَن الأطبّاء بإعادتها إلى المنزل لكي تكون بين أولادها حين تفارق الحياة. ولكنّني وبعدما قضيتُ أيّاماً طويلة معها في المستشفى مونِعتُ مِن رؤيتها في البيت وهذا رغم محاولاتي العديدة وتوسّلاتي. لم أكن أتصوّر أبداً أن تموت أمّي دون أن أوّدعها فكانت كل مَن بقيَ لي مِن عائلتي. ولكنّهم كانوا أقوى منّي.

وهكذا رحَلَت أمّي وإمتلكَني حزن لا يوصف. وبعد أيّام علِمتُ مِن محامي العائلة أنّني لم أرِث شيئاً منها. وصحيح أنّني لم أكن مهتّمة بالمال ولكنّني كنتُ متأكدّة أنّها ستترك لي حصّة كما كانت وعَدَتني أن تفعل. أسفتُ قليلاً لأنّني كنتُ أنوي صرف ميراثي على دراسة أولادي وتأمين مستقبلهم ولكنّني لم أحبّ أمّي أقل لا بل وثقتُ بقرارها مقتنعة أن كان لديها أسباباً وجيهة لفعل ذلك. ولكن بعد فترة جاءَت خادمتنا لتزورني. كانت قد كبَرت ورغم مرور السنين لم تكفّ يوماً عن حبّي وكنتُ لا أزال "صغيرتها." وعندما جلسنا على الأريكة قالت لي :

 

ـ لقد رأيتهم... كانوا يحيطون بها كالجرذان... المسكينة كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة وهم... هذه الماكرة جِنان...

 

ـ ما حصل؟ ما الأمر؟ هل أذى أحد أمّي؟؟؟

 

ـ لا... بل أذوكِ أنتِ... جنان وبمساعدتهم جميعاً... أخذَت أصبع أمّكِ وغطّسته بالحبر ووضعَته في أسفل ورقة... فعَلَت ذلك عدّة مرّات حتى أن طبعَت بصمة والدتكِ على جميع المستندات...

 

ـ يا إلهي! فعلوا ذلك بالمسكينة أمّي وهي تُحتضَر؟ نهبوها قبل أن تموت!

 

ـ أستطيع أن أشهد بما رأيتُه... أستطيع مساعدتكِ... ستستعيدين مالكِ... هذا حقّكِ...

 

ـ لا... كما أعرفهم سيقولون عنكِ أنّكِ كاذبة أم أنّكِ عجوز وفقدتِ عقلكِ... سيجرّوننا إلى المحاكم وسيعملون شتّى الطرق لِكسرنا... ولا أريد ذلك لكِ أو لي أو لباقي عائلتي... لقد عشنا حتى الآن بالقلّة ولكن لطَالما كانت كرامتنا محفوظة... لن يعطيهم المال السعادة... فلو كان ذلك صحيحاً لكانوا سعداء مِن زمَن طويل فولدوا أغنياء وها هم أخذوا بصمات أمّهم وهي تموت فقط للحصول على حصّتي بدلاً أن يقبلّوا يدَيها ويودّعونها كما يجب... كوني أكيدة أنّ هؤلاء لن يكونوا يوماً سعداء.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button