لعبة خطيرة

تفاجأتُ كثيرًا عندما اعترَفَ لي غَيث خطيبي أنّه كان، في ما مضى، على علاقة غراميّة مع ابنة خالته رباب التي عرّفَني عليها ورافقَتنا مرّات عديدة في نزهاتنا أو خلال تواجدنا في المطاعم والسهرات. لماذا لَم يقُل لي شيئًا عن حبّهما؟ ألَم تنتهِ تلك العلاقة كما يدّعي؟ هل عليّ أن آخذ حذَري منهما؟

لَم أُعلِّق على الموضوع كَي لا أبدو سخيفة، فالرجال يسخرون مِن النساء اللواتي يغِرنَ عليهنّ أو ينزعجون مِن تلك الأمور، إلا أنّني لَم أعُد أرى وجود رباب بِعَين إيجابيّة كلّما أطلَّت علينا. إضافة إلى ذلك، لَم يكن مِن الاعتياديّ في عائلتنا أن يقَع الأقرباء في حبّ بعضهم، بل هم يربون ويكبرون مثل الأخوة.

بدأتُ أُراقِب ملامح خطيبي كلّما تواجَدنا مع رباب، لأقرأ عليها أي علامة إعجاب ما، لكنّه بقيَ جادًّا، الأمر الذي أراحَني. أمّا هي، فلَم تمتنِع عن المزاح معه بشكل علَنيّ وحميم. لكن ما عسايَ أقولُ، ألَم يكونا أنسباء؟ وذات يوم، سألتُ غَيث:

 

ـ قُل لي، ألا تزال تكنُّ لرباب أيّ شعور غراميّ؟

 

ـ على الاطلاق، فلقد انفصَلنا منذ أكثر مِن سنة قَبل أن أتعرَّف عليكِ، وعادَت علاقتنا عائليّة.

 

ـ ما كان سبب انفصالكما؟ فمِن حديثكَ فهمتُ أنّكما كنتما على وفاق تام وتُحضِّران لإقامة الزفاف.

 

ـ إنّها تفاصيل غير مُهمّة، لا تشُغلي بالكِ بها. المهمّ هو نحن، ونحن فقط.

 

وانتهى الحديث. بالطبع لَم أكن ممتنّة مِن جوابه، فكنّا قد اتّفقنا يومًا أنّنا لن نُخفي أسرارًا عن بعضنا مهما كانت. عندها رحتُ إلى حماتي المُستقبليّة لأسألَها عن ابنة أختها، فمَن سيتمكّن على الإجابة على أسئلتي أفضَل منها؟ إضافة إلى ذلك، كانت علاقتي مع أمّ غَيث جيّدة للغاية، فهي التي شجّعَت ابنها على المضيّ بالزواج منّي. طلبتُ أن أتحدّثَ معها على انفراد، فتقابَلنا في أحَد المقاهي وسألتُها:

 

ـ لماذا لَم يُطلِعني أحَد على علاقة غَيث بِرباب؟ لماذا التستّر؟ ألا يحقُّ لي أن أعرِف عن ماضي خطيبي وعن المرأة التي تُرافقُنا معظم الوقت؟

 

ـ بلى... لكنّ الموضوع مؤلم جدًّا لنا جميعًا ولا نُحِبُّ إثارته... صارَ الأمر مِن الماضي ولَم نُصدّق أنّ المياه عادَت إلى مجاريها بين العائلتَين وبيني وبين أختي.

 

ـ ماذا حصَلَ؟

 

ـ رباب... خانَت ابني... مع أعزّ صديق له.

 

ـ ماذا؟!؟ وكيف لِغَيث أن يُسامحها ويتصرّف بحضورها وكأنّها إنسانة رائعة؟

 

ـ زارَ ابني أخصائيًّا نفسيًّا واستطاعَ التغلّب على غضبه، وفهِمَ أنّ ابنة خالته ليست مُناسِبة له كزوجة لكنّها تبقى قريبته في آخِر المطاف.

 

ـ غريب أمركم... لو حدَثَ معي ذلك، لكانت عائلتي أبعدَت المُذنب نهائيًّا!

 

ـ إنّها ابنة أختي... رأيتُها تفتحَ عَينَيها على هذه الدنيا... حمِلتُها بين ذراعَي.

 

ـ وحطّمَت قلب ابنكِ! المسكين... هل أحبَّها كثيرًا؟

 

ـ كثيرًا كلمة ضعيفة لوصف حبّه لها، بل كان مجنونًا بها.

 

تلك الجملة الأخيرة أثّرَت فيّ، فهل كان غَيث يُحبُّني بالقدر نفسه؟ لَم أرَه يومًا مجنونًا بي بل أحبَّني بطريقة عاديّة. ربّما رباب هي أجمَل منّي... لستُ أدري. على كلّ الأحوال امتلكَتني غيرة قويّة، وعزَمتُ على عدَم ترك الحبيبَين القديمَين لوحدهما، فمَن يدري؟ لكن بعد أيّام وجدتُ مخاوفي في غير محلّها وسخيفة، فكما قالَت أمّه، كانت رباب ابنة خالة خطيبي. لِذا لَم أمنَع تلك المرأة مِن التواجد معنا. إضافة إلى ذلك، لَم أكن أُريدُ ان أكون العروس التي تُفرِّقُ بين أفراد العائلة الواحدة.

إلا أنّني كنتُ على حقّ في مخاوفي، فقَبل موعد زواجنا بقليل، قالَ لي غَيث:

 

ـ حبيبتي... أعنّي... إسمعي... أنا آسف جدًّا لِما سأقوله الآن، لكن عليّ أن أضعَ نهاية لعلاقتنا.

 

ـ ماذا؟!؟ أنتَ تمزَح!

 

ـ لا، لستُ أمزَح. لا أستطيع الزواج منكِ، أعذريني... الحقيقة أنّني... أنّني سأتزوّج مِن غيركِ. دعيني أكمِل أرجوكِ... لقد تكلّمتُ ورباب عن علاقتنا الماضية وتصافَينا. فأنا لا أستطيع العَيش مِن دونها، إنّها جزء مِن حياتي لا يتجزّأ. الانفصال عنكِ أفضل مِن غشّكِ، فسيأتي يوم وأعودُ إليها. ستكرهينني لفترة ثمّ تنسيني عندما تجدين أفضل منّي. الوداع.

 

ولكثرة دهشتي واستنكاري، لَم أستطِع الردّ أو الاستفسار، بل جلستُ أحدِّقُ بالحائط قُبالتي وكأنّني تلقَّيتُ ضربة على رأسي. كيف لِغَيث أن ينوي الزواج وهو لا يزال يُحبّ رباب بالرغم مِن أنّها خانته مع صديقه! هل أنا وسط حلم مزعج؟!؟ كيف سأعيشُ مِن دون غَيث، وماذا سأقولُ لعائلتي ومُحيطي الذين يستعدّون لحضور فرَحنا؟ أسرَعتُ بالاتّصال بأمّه على أمَل إيجاد سنَد ما، إلا أنّها قالَت:

 

ـ آسفة حبيبتي... لكنّ الواقع أنّ ابني لا يزال يكنّ لرباب مشاعر قويّة ولا أستطيع الوقوف في وجه سعادته.

 

ـ لأنّها إبنة أختكِ وأنا غريبة؟!؟ لقد خانَته!

 

ـ كانت غلطة بالفعل لكنّه إنسان مُسامِح... إنّ ما يجمعُهما حبّ قويّ وهذا كافٍ لاجتياز كلّ المِحَن.

 

ـ ظننتُكِ تُحبّيني.

 

ـ لكنّها إبنة أختي، كما قلتِ.

 

أصِبتُ بالكآبة لمدّة طويلة، حاوَلَ خلالها مُحيطي الترفيه عنّي والتخفيف مِن ألمي، إلا أنّني لَم أعُد أهوى شيئًا على الاطلاق.

في تلك الأثناء عاشَ غَيث قصّة حبّ جيّاشة مع رباب، ووصلَت أصداء سعادتهما إليّ، الأمر الذي سبَّبَ لي المزيد مِن الأسى إلى حين فهمتُ أنّ لا منفعة مِن إيذاء نفسي بالتحسّر. فكان مِن الأفضل أن يحدثَ ذلك قَبل زواجي مِن غَيث وليس بعد، فتصوّروا لو أنّنا تزوّجنا وأنجَبنا ومِن ثمّ هو قرَّرَ الرجوع إلى حبّه الأوّل. تمسّكتُ بتلك الفكرة وبدأتُ أستعيدُ نفسي شيئًا فشيئًا... إلى حين علِمتُ أنّ رباب تركَت خطيبي القديم، بل رمَته بين ليلة وضحاها. تفاجأتُ كثيرًا للخبَر لكنّني لَم أحزَن مِن أجله، فهو يستحقُّ أن يمُرّ بالذي مرَرتُ به!

إتّصَلَ غَيث بي بعد أقلّ مِن شهر على انفصال رباب عنه طالبًا رؤيتي، إلا أنّني رفضتُ أن ألتقيَ به، بل رجَوتُ منه ألا يتّصل بي على الاطلاق. لكنّه بقيَ يُخابرُني ويرسُل لي الكلمات التي لطالما سمعتُها منه. وهو طلَبَ منّي أن أُعطيه فرصة ثانية، وشرَحَ لي أنّه كان مفتونًا بقريبته لدرجة لا توصَف لكنّه تخلَّصَ أخيرًا مِن سيطرتها عليه. تخلّصَ؟!؟ هي التي رمَته جانبًا وليس هو! هل يظنُّ غَيث أنّني سأقبَلُ بِفضلات رباب؟

وذات يوم، إتّصلَت بي التي اخذَت منّي خطيبي وقالَت لي بكلّ وقاحة:

 

ـ هل أعَدتِه؟

 

ـ وما شأنكِ أنتِ؟

 

ـ أسألُ فقط بِداعي الفضول.

 

ـ لماذا اتّصلتِ بي؟ ماذا تُريدين؟

 

ـ لا شيء... سوى أن أقولَ لكِ إنّه لي... إلى الأبد.

 

ـ لكِ؟ إلى الأبد؟ لماذا تركتِه إذًا؟

 

ـ أنا لا أُريدُه، فهو إنسان تافِه ومُمِلّ. أخذتُه منكِ لأتسلّى فقط. لكن اعلَمي أنّني سأُعيدُ الكرّة إن عُدتِ إليه.

 

ـ لماذا تفعلين ذلك إن كنتِ لا تُريدينَه؟

 

ـ لأنّه مُلكي أنا وحدي. على كلّ الأحوال، هو لا يُحبُّ سوايَ ولن يُحبَّ سوايَ يومًا، وبإمكاني الحصول عليه ساعة أشاء.

 

ـ هنيئًا لكِ به، فأنا لا أُريدُه... إنّه بالفعل إنسان تافه ومُمِلّ وتستحقّان بعضكما!

 

حظَرتُ غَيث على هاتفي وكذلك رباب وارتحتُ منهما. يا لهذا الثنائي المريض! شكرتُ ربّي أنّه خلَّصني مِن تلك الأجواء التي لا تُناسبُني وتابَعتُ حياتي.

بعد حوالي السنة، سمعتُ أنّ غَيث خطَبَ صبيّة لكن سرعان ما تركَها، حتمًا بعد أن دخلَت رباب على الخط. بقيَ خطيبي القديم يُحاوِل إيجاد شريكة لسنوات طويلة مِن دون جدوى، حتى صارَ في الخمسين مِن عمره وفهِمَ أنّ لا منفعة مِن المُحاولة، فهو كان وبقيَ أسير رباب وسيظلُّ ضحيّة مزاجها وتلاعبها به. مِن جانبها، هي تزوّجَت ثمّ طلّقَت ثمّ تزوّجَت مرّة أخرى لِتترك زوجها الثاني أيضًا. بقيَ الاثنان وحيدَين لكن كلّ منهما في جهة. لعبة رباب كلّفَتها سعادتها وسعادة غَيث، وهي لعبة خطرة محوَرها الأنانيّة والمِكر وحبّ التملّك. ماتَت أمّ غيث مكسورة الخاطر بعد أن استَوعَبت أنّ أقرَب الناس إليها، أيّ ابنة اختها، دمرَّت حياة ابنها. هل هي ندِمَت على عدَم الوقوف إلى جانبي آنذاك؟ أظنُّ ذلك. كلّهم لعِبوا بالنار واحترقوا... وكادوا أن يحرِقوني معهم.

أمّا بالنسبة لي، فتزوّجتُ وأنجَبتُ ونسيتُ أمر غَيث ورباب وكلّ ما يتعلّق بهما. فأنا لَم أدخُل لعبتهما بل علِمتُ أنّني سأمرّ بفترة عصيبة ومُظلِمة قَبل أن أعيشَ في النور مِن جديد. زوجي هو إنسان رائع أحبَّني ويُحبُّني بالفعل، وهو عرفَ كيف يُعيدُ لي بسمتي ويُعطيني سببًا للإيمان بالحبّ مِن جديد. أخبرتُه قصّتي بعد أن تعرّفنا إلى بعضنا بقليل، وهو استمعَ إليّ بإمعان ثمّ قالَ لي: "أنا إنسان شفّاف لا أسرار لي ولا ماضٍ غامض. وما أبحثُ عنه هو أن أعيشَ ببساطة وسعادة مع شريكة حياتي وأبني معها عائلة جميلة. لن أخذلكِ ولن أسبّبَ لكِ الأسى يومًا، هذا وعدي لكِ. وكلّ ما أطلبُه منكِ هو ألا تحكُمي عليّ بناءً على ما فعلَه لكِ غيري. إفتَحي لي قلبكِ ودعيني أدخُل إليه لأعيدَ الحياة إليه".

وبقيَ زوجي على وعده لي ولا يمرُّ يومًا مِن دون أن أشكُرَ ربّي على إرسال مُنقذٍ لي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button